حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إذا بال أحدكم فلا ياخذن ذكره بيمينه

17- قولُه: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) [خ¦154] كُنيةُ الرَّاوي، واسمُه الحارِثُ بنُ رِبْعيٍّ بكَسْر الرَّاء وسُكونِ الباءِ الموحَّدة وبالعَيْن المُهْملة وتشديدِ التَّحتيَّة، الأنصاريُّ السَّلَميُّ بفَتْح السِّيْن، منْسوبٌ إلى أحدِ أَجدادِه كَعْبِ بنِ سَلَمَةَ.
          شَهِدَ أَبو قَتادةَ ☺ أُحُداً وما بعدها من الغَزواتِ مَع المُصطفى صلعم، ووقعَ في حضورِه غَزْوة بَدْرٍ خِلافٌ، وتُوفِّي بالمديْنة سنةَ أربعٍ وخمْسين منَ الهجرة وعُمره سَبْعون سنة.
          رُوي له عنِ النَّبيِّ صلعم مئة وسبعون حديثاً، اتَّفق البخاريُّ ومُسلمٌ على أحد عشر حدِيثاً، وانفردَ البخاريُّ بحديثٍ واحدٍ، ومُسلمٌ بثمانية، والبقيَّة في غيرِهما.
          وهذا غيرُ قتادةَ الذي أُصيبت عَيْنُه؛ فإنَّ الذي أُصيبتْ عينُه قَتادَة بن النُّعمان؛ وقصَّته:
          إنَّ عَيْنَه أُصيبَت يومَ أُحُدٍ فوقعتْ على وجْنَتِه، فأُتي به للنَّبيِّ صلعم فقال: يا رسولَ الله، إنَّ لي امْرأة أحبُّها وأَخشى إنْ رأَتْني تستقذرني وتعافني، فأخذَها صلعم بيدِه ورَدَّها فوَضَعَها وقال: «اللَّهمَّ اكْسهَا جَمَالاً»، فكانتْ أحسنَ عَينَيْه وأحدَّهما نَظَراً، وكانت لا ترمدُ إذا رَمَدَتْ عَيْنُه الأُخرى.
          وقد قدِمَ على عُمرَ بنِ عبد العزيزِ رجُلٌ منْ ذريَّة / قَتادةَ، فقالَ له عُمر: مَن أَنتَ؟
          قال:
أَبُوْنا(1) الذي ساْلَتْ على الخدِّ عَيْنُه                     فرُدَّت بكفِّ المُصطَفى أيَّما رَدِّ
فَعَادَتْ كَمَا كانَتْ لأوَّل أمْرِها                     فَيَا حُسْنَ ما عَيْنٍ وَيا حُسْنَ ما رَدِّ
          فوصَلَه عُمر بنُ عبد العَزيزِ، وأحسنَ عَطيَّتَه.
          وأشارَ لقصَّةِ قَتادةَ الأَبُوصيريُّ في «همزيَّتِه» بقولِه:
          وأَعَادَتْ _أي: راحةُ المُصطفى صلعم_ على قَتَادَةَ عَيْناً فهيَ حَتَّى مَمَاتِهِ النَّجْلَاءُ(2).
          أي: الواسِعة نَظَراً.
          قوله: (فَلَا يأْخُذَنَّ) كذا بنُون التَّوكيدِ في رِوايةِ أبي ذَرٍّ.
          ولغَيرِه: «فَلَا يأْخُذْ»، بإسقاطِها.
          قولُه: (بِيَمِيْنِهِ) إنَّما خصَّت بالنَّهي لأنَّها مُعَدَّةٌ لما كان شَرِيفاً.
          قوله: (وَلَا يَسْتَنْجِي بيَميْنِه) رُوي بإثبات الياءِ بناءً على أنَّ (لا) نافيةٌ، وبحذْفِها على أنَّها ناهيةٌ.
          قوله: (وَلَا يَتَنفَّسْ) فيه الوجهانِ: الرَّفْعُ والجزْمُ، ﻓ (لا) نافيةٌ أو ناهيةٌ.
          والحكْمةُ في ذِكْر (وَلَا يَتَنَفَّسْ) هُنا مَع أنَّه لا مُناسبة ولا تعلُّق له بحالة البَوْلِ وحالةِ الاستنجاء: أنَّ الغالِبَ مِن أخْلاقِ المؤمنين التَّأسِّي والاقْتِداءُ به صلعم في أحْوالِه.
          وكان ╕ إذا بالَ توَضَّأ وشَرِبَ فَضْلَ وضوئِه، فالمؤمنُ بصدَدِ هذا الفِعْل، فعلَّمَه المصْطفى صلعم أدَبَ الشُّرب لكونه استحضره في هذا الوَقْت.
          وقوله: (وَلَا يَتَنفَّسْ) لا يصحُّ عطْفُه على قولِه: (فَلَا يأْخُذَنَّ)؛ لأنَّه يقتضي أنَّ التَّنفُّسَ منْهيٌّ عنه إذا وقعَ الشُّرْبُ بَعْد البَوْلِ مَع أنَّه مَنهيٌّ عنه مُطْلقاً، فتعيَّن أنْ يكونَ معطوفاً على الجملة الشَّرطيَّة بتمامِها وهيَ: (إذا بَالَ...) إلى آخرِه.
          وممَّا يدلُّ لذلك تغْييرُ الأسلوبِ، حيثُ أكَّد بالنُّونِ في قوله: (فَلَا يأْخُذَنَّ) وتَرَكَ التَّأكيد في الثَّاني.
          ويحتملُ أنْ يكونَ (وَلَا يَتنَفَّسْ) مستأنفاً لأجْلِ إفادةِ حُكْمٍ مُستقلٍّ، وهذا النَّهيُ للتَّأديبِ لأجْلِ إرادةِ المُبالغة في النَّظافة؛ لأنَّه ربَّما يخرجُ من الشَّارب رِيْقٌ فَيُخالط الماءَ فَيَعَافه الشَّارب؛ ولأنَّه ربَّما تَرَوَّحَ الماءُ ببُخارٍ رَدِيْءٍ من المَعِدَة فيفسد الماءَ لِلَطافَتِه، فيسنُّ أنْ يَبينَ الإناء عَن فَمِه ثلاثاً مَع التَّنفُّس في كُلِّ مرَّةٍ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: لا يَمس ذَكَره بيَمِيْنِه.


[1] في «م»: «أنا ابن»، والمثبتُ من «ز1» و«ز5» والمصادِر.
[2] «الهمزيَّة في مَدْح خير البَريَّة» (ص: 13- رشاد).