حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن الدين يسر

          6- قولُه: (إنَّ الدِّيْنَ) [خ¦39] أي: دِيْنُ الإسلام.
          وقولُه: (يُسْرٌ) أي: ذُو يُسْرٍ، أو سمَّى الدِّين يُسْراً مبالغةً بالنِّسبة إلى الأدْيان قبله؛ لأنَّ اللهَ رَفَعَ عنْ هذه الأُمَّة الإصْرَ الذي كان على مَن كان قبلَهم.
          ومِن أوْضح الأمثلةِ لَه: إنَّ توْبتَهم كانتْ بقتْلِ أنفسُهم، وتَوْبةَ هذه الأُمَّة بالإقْلاع والعَزْم والنَّدَم.
          واليسرُ: السَّهْلُ.
          قولُه: (وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنَ) أي: ولن يُغالبه من الشِّدَّة وهيَ الغَلَبة.
          وقوله: (أَحَدٌ) رَواه الجُمهورُ بإسقاطِ لفظِ (أَحَدٌ) وأثْبتَه ابنُ السَّكَنِ.
          فعلى الأوَّل: فرُوي بنَصْبِ (الدِّيْنَ) على أنَّه مفعول (يُشَادَّ)، والفاعلُ ضميرٌ مُستَتِر عائدٌ على معْلومٍ، فهو مَبْنيٌّ للفاعِل، فأصلُه: يُشَادِدَ، بكَسْر الدَّال الأُولى، ثمَّ سُكِّنت وأُدغِمت في الثَّانية.
          ورُوي برفْع (الدِّيْنُ) على أنَّه نائبُ فاعِلِ (يُشَادَّ)، فهو مبنيٌّ للمفعولِ، وأصلُه: يُشَادَدَ، بفَتْح الدَّال الأُولى.
          وعلى الثَّاني: ﻓ (الدِّيْنَ) بالنَّصْب مفعولٌ، و(أَحَدٌ) فاعِلٌ، فهو مبنيٌّ للفاعل، والمعنى: إنَّ الدِّيْنَ يغلب مَن غالَبَه، فإذا تعمَّق الإنسانُ في الدِّيْن وشدَّدَ على نفْسِه فلا بُدَّ مِن غَلَبتِه وقَهْرِه وعجزِه بَعْدَ ذلك.
          فإذا أرادَ صَوْمَ الدَّهْرِ، أو أنْ يصلِّي كُلَّ ليلةٍ مئة ركعة _مثَلاً_، فإنَّه في آخِر الأمْرِ يُغلب ويَتْرك الصَّلاةَ والصَّومَ بالمرَّةِ.
          قالَ ابنُ المنيرِ(1): في هذا الحديث عَلَمٌ من أعْلام النُّبوَّة، فقد رأَينا ورأى النَّاس قبلنا أنَّ كُلَّ مُتنطِّعٍ في الدِّيْن ينقطعُ، وليس المرادُ مَنْعَ طلَبِ الأكْملِ في العِبادة؛ فإنَّه من الأُمور المحمودة، بل مَنْعُ الإفراطِ المؤدِّي إلى الملالِ، أوِ المُبالغة في التَّطوع المُفضي إلى تَرْكِ الأفضل، أوْ إخراج الفَرْضِ عن وَقْتِه كمَن باتَ يُصلِّي اللَّيل كُلَّه ويُغالب إلى أن غَلَبتْه عَيْناهُ في آخرِ اللَّيل فنامَ عن صلاة الصُّبحِ في الجماعةِ، أو إلى أن خرجَ الوَقْت المختار، أو إلى أنْ طلعتِ الشَّمْس فخرجَ وَقْت الفريضةِ.
          وفي حدِيثِ مِحْجَنِ بنِ الأَدْرَعِ عِنْد أحْمدَ: «لَنْ تَنَالُوا هذا الأَمْر بالمُبالَغَةِ[18992](2)، وخَيْرُ دِيْنِكُمْ أَيْسَرَهُ»[18997، 20364].
          وقد يُستفاد مِن هذا الإشارةِ إلى الأخْذ بالرُّخصة الشَّرعيَّة؛ فإنَّ الأخْذَ بالعزِيمة في موضع الرُّخصةِ تَنطُّعٌ، كمَن يَتْرك التَّيمُّم عِنْد العَجْزِ عنِ اسْتعمالِ الماءِ، فيُفضي استعمالُه إلى حُصول الضَّرَرِ.
          قوله: (فَسَدِّدُوْا) بمُهمَلاتٍ، أي: الْزموا السَّدَادَ _وهو: الصَّوابُ_ مِن غير إفْراطٍ ولا تفريط.
          قال أهلُ اللُّغة: السَّدَادُ: التَّوَسُّطُ في / العَمَلِ.
          قال في «المصْباحِ»: السَّدَادُ بالفَتْح: الصَّوَابُ مِن القَوْل والفِعْلِ. انتهى.
          وقال في «المخْتارِ»: السَّدَادُ بالفَتْحِ: هُو الصَّوابُ والقَصْدُ منَ القَوْلِ والعَمل. انتهى.
          قوله: (وَقَارِبُوا) أي: توسَّطوا بين الإفْراطِ والتَّفريطِ، فلا تَبْلُغوا النِّهاية ولا تَتْركوا بالكُلِّيَّة، فلا تَصوْموا دائماً ولا تفطروا دائماً، بل تارةً صُوموا وتارةً افْطروا، ولا تُصلُّوا كثيراً في اللَّيل دائماً ولا تتركوها دائماً، بلْ توَسَّطوا.
          قالَ ╕ [خ¦5861] [م221/785]: «أحَبُّ الأعْمالِ ما داوَمَ عَلَيه صاحِبُه وإنْ قَلَّ».
          قوله: (وَأَبْشِرُوا) بقَطْع الهمْزةِ، وفيه لُغةٌ بوَصْلِها.
          قال في «المختار»: يقال: بَشَرَهُ بكَذا فأَبْشَرَهُ إبْشَاراً: سَرَّهُ، وتقولُ: أَبْشِرْ بخَيْرٍ بقَطْع الألِفِ؛ ومنْه قوْلُه تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30]، وبَشِرَ بكَذَا: اسْتَبْشَرَ بِه، وبابُه طَرِبَ. انتهى.
          أي: أبْشِرُوا بالثَّواب على العَمَلِ وإنْ قَلَّ، وبالنَّعيم، وبأنَّ الله لا يُضِيعُ أجْرَ المُحسنين، والمرادُ: تبْشيرُ مَن عجزَ عنِ العمل بالأكْملِ، فإنَّ العجزَ إذا لم يكُن مِن صنيعِه لا يستلزم نُقصان أجْرِه.
          وأُبهمَ المُبشَّر به تعظيماً له وتَفْخيماً.
          قوله: (بِالغُدْوَةِ).
          قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ(3): والغَدْوَةُ _بالفَتْح_: سَيْرُ أوَّلِ النَّهارِ، وقالَ الجوْهَريُّ: ما بين صلاة الغَداةِ إلى طُلُوع الشَّمْسِ. انتهى.
          وقال في «المصباح»: غَدَا غُدُوّاً، مِن بابِ قَعَدَ: ذَهَبَ غُدْوَةً، وهيَ ما بيْن صلاةِ الصُّبْحِ وطُلُوعِ الشَّمْسِ، وجَمْعُها: غُدًى، مِثْلُ مُدْيَةٍ ومُدًى. انتهى.
          وقال في «النِّهاية»: الغَدْوَةُ المَرَّةُ منَ الغُدُوِّ: وهُو سَيْرُ أوَّلِ النَّهارِ، والغُدْوَةُ _بالضَّمِّ_: ما بيْن صلاةِ الغَدَاةِ وطُلُوْع الشَّمْسِ. انتهى.
          والظَّاهرُ أنَّ المرادَ هُنا المضمومُ، وهو ما بين صلاةِ الغَداةِ وطُلُوعِ الشَّمْسِ إلَّا أن تعلم الرِّواية، والمعنى: اسْتَعينوا على مُداومة العِبادة بإيقاعِها في الغَدْوة، أي: أوَّل النَّهار.
          فإنْ كانتْ بالفَتْح المرادِ به السَّيْر في أوَّل النَّهارِ، فالمعنى: أوْقِعُوا الصَّلاة في وَقْت نشاطِكُم، كما أنَّ المسافرَ يحصل له النَّشاط في سَيْره أوَّل النَّهارِ.
          قولُه: (وَالرَّوْحَةِ) بفَتْح الرَّاءِ: وهي مِن زَوال الشَّمْسِ إلى غُرُوبها.
          قال في «المختار»: الرَّوَاحُ ضِدُّ الصَّبَاحِ: وهُو اسمٌ للوَقْتِ مِنْ زَوالِ الشَّمْسِ إلى اللَّيلِ. انتهى.
          قوله: (وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجةِ) هي بضمِّ الدَّال وفَتْحِها، منَ الإدْلَاجِ بسُكون الدَّال، لكن بالضَّمِّ سَيْرُ آخِرِ اللَّيلِ، وبالفَتْح سَيْرُ أوَّلِه، وليس هذا مُراداً؛ فإنَّ الرِّوايةَ بالضَّمِّ. انتهى أُجْهُوْرِيّ.
          وقالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ(4): (الدُّلْجةِ) بضمِّ أوَّلِه وفَتْحِه، وإسْكانِ اللَّامِ: سَيْرُ آخِرِ اللَّيلِ، وقيل: سَيْرُ اللَّيل كُلِّه؛ فلهذا عبَّر فيه بالتَّبْعيضِ. انتهى.
          وقال في «المخْتار»: والدُّلْجةُ والدَّلْجةُ بوَزْنِ الجُرْعَةِ والضَّرْبَةِ: قطعةٌ منَ اللَّيلِ، وادَّلَجَ بتشديدِ الدَّالِ: سارَ مِنْ آخِرِه، والاسمُ أيضاً: الدُّلْجةُ والدَّلْجةُ. انتهى.
          وليس المرادُ إيقاعَ أعْمالِ الدِّيْن في هذه / الأوْقات الثَّلاثة، وإنَّما المرادُ أنَّهم يعملون أعمالَ الدِّيْن في وَقْتِ النَّشاطِ للعِبادَةِ.
          والمقْصودُ: تشْبِيهُ العابِد بالمُسافرِ في أنَّ كُلًّا منهُما لا يستغرق زمنه بالعملِ، فالعابِدُ لا يستغرق زمنه بالعبادة، كما أنَّ المسافرَ لا يستغرق زمنه بالسَّيْر، وفي أنَّ كُلًّا منهُما يعملُ في أوْقاتِ النَّشاطِ، وقد بيَّن المُصْطَفى [صلعم] أوقات نشاطِ المسافرِ، فيُقاس عليها أوْقات نشاطِ العابِدِ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: «الدِّيْنُ يُسْرٌ».


[1] كما في الفتح 1/94.
[2] كذا في الأصل و«م» وباقي النُّسخ، وفي «المسند»: المغالبة.
[3] فتح الباري في المقدمة 161، 6/14.
[4] الفتح 1/95.