حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا

          5- قوله: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ...) [خ¦35] إلى آخرِه.
          اختلفَ فيْه وفي اسم أَبِيه على نحوِ ثلاثين قَولاً، والأصحُّ أنَّ اسمَه عبد الرَّحمن بنُ صَخْرٍ، كان له هرَّة فكُنِّي بها.
          وسببُ تكْنيتِه بذلك أنَّه قال: كنتُ أحملُ يوماً هرَّةً في كُمِّي، فرآني رسولُ الله صلعم فقالَ لي: «ما هذِهِ؟»، فقلتُ: هِرَّة، فقال: «يا أَبا هُرَيْرَةَ».
          وقيل: إنَّه كان يلعبُ بها وهو صغيرٌ.
          وقيل: كان يُحسن إليها وهو كبيرٌ، وهو الذي روى حديث: «دخَلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ...» الحديثَ.
          وقيل: المكني له والِدُه.
          ودَعا لَه النَّبيُّ صلعم ودَعا لأُمِّه، وحدَّثَه رَسولُ الله صلعم فجعلَ يُلْقي في رِدائِه وحدَّث كثيراً، ورُوي له خمسة آلاف حديثٍ وثلاث مئة وأربعة وسَبْعون حديثاً، ذكَر البُخاريُّ منها ثمانية عشر وأربع مئة، والرُّواة عنه ثمان مئة رجُلٍ أو أكْثر.
          كان يُسبِّح في اليوم واللَّيلةِ اثنتي عشرة ألف تسبيحة، وُلِّي الإمارةُ على المديْنة ثلاث مرَّاتٍ، وكان رسولُ الله صلعم يحبُّه ولا يحجبه عنْه، وكان يقول له: «يا أَبا هِرٍّ»، فيقول: إنَّما أَنا أبو هُريرةَ، فقالَ لَه ╕: «الذَّكَرُ خَيْرٌ منَ الأُنثى»(1).
          وأثْنى عَلَيه أَبو بكْرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ، وكانتْ عائشةُ تُجلُّه، وقال: «صحبْتُ رسولَ الله صلعم على مِلْءِ بَطْني»، وهو أحدُ فُقراء الصُّفَّة، وقال لابنَتِه(2): «لا تَلْبسي الذَّهَب؛ فإنِّي أخافُ عليكِ اللَّهَب».
          وقال: «مَنْ دخَلَ المقابِرَ فاستغْفرَ لأهْل القُبوْرِ وتَرحَّم عليهم، فكأنَّما شهِدَ جنائزهم والصَّلاةَ عليهم»(3)، وهُو ممَّن دخَلَ مِصْرَ.
          ومِن كراماتِه أنَّه كان جماعةٌ من العُلماءِ في حلقةِ المناظرةِ، فجاءَ شابٌّ خُراسانيٌّ يسأل عنِ المُصَرَّاةِ ويطْلبُ الدَّليلَ، فاحتُجَّ عليه بخَبَرِ الشَّيخَيْن عن أبي هُريرةَ، فقال: أبو هُريرةَ غيرُ مقْبول / الحديث، فما تمَّ كلامُه حتَّى سقطتْ عليه حَيَّةٌ، فتفرَّقَ النَّاسُ هارِبِين فتبعَتْه دُون غيرِه فقال: ثَبْتٌ ثَبْتٌ(4).
          فلَم يُرَ لها أَثرٌ!
          ولم يحضرِ الحرْبَ بين عليٍّ ومُعاويةَ، وكان يأكُلُ على سِمَاطِ مُعاويةَ ويُصلِّي خلفَ عليٍّ، فإذا كان وَقْت الحرْب صعدَ على ذِرْوَةٍ، فقيْلَ لَه في ذلك!
          فيقول: «طَعامُ مُعاويةَ أَدْسَمُ، والصَّلاةُ خَلْفَ عليٍّ أقْوَمُ، والقُعودُ على هذا الكَوْم أَسْلَمُ».
          ونظيرُ ذلك أنَّ عَقيْلاً غَاضَبَ أخاهُ علياً وخرجَ إلى مُعاويةَ وأقامَ عِنْده، فزعَموا أنَّ مُعاوِيةَ قالَ لهُ يوماً بحضرتِه: هذا أَبو يَزيدَ لولا عِلْمُه أنِّي خَيْرٌ مِن أَخيْه ما أقامَ عِنْدي وتَرَكَه.
          فقالَ عَقِيْلٌ: أَخِي خيرٌ لي في دِيْني وأنتَ خيْرٌ لي في دُنياي، وقد آثرتُ دُنياي، وأسألُ اللهَ خاتمة خيْرٍ، وقالَ النَّبيُّ صلعم لعَقيْلٍ هذا(5):
          «إنِّي أُحبُّكَ حُبَّيْن: حُبّاً لقَرابتِك، وَحُباً لما كُنْتُ أعْلمُ مِن حُبِّ عَمِّي إيَّاكَ».
          أسلَمَ أبو هُريرةَ عامَ خَيْبر وشَهِدها مَع النَّبيِّ صلعم، وماتَ بالمديْنةِ سنةَ سَبْعٍ أو ثمانٍ أو تِسْع وخمسين عن ثمانٍ وسبعين سنة، ودُفن بالبقيْع.
          قولُه: (مَنْ يَقُمْ) في هذا التَّركيب مجيءُ فِعْل الشَّرط مُضارعاً وجوابِه ماضياً، وهو قليلٌ.
          فإنْ قلْتَ: لِمَ قالَ في هذا الحديث: (مَنْ يَقُمْ)، وفي حديث قِيام رَمضانَ: «مَنْ قامَ رَمَضانَ»!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ قيامَ رمضان محقَّقُ الوُقوع؛ لأنَّ رمضان معلومٌ، وأمَّا قيامُ ليلة القَدْرِ فليس محقَّق الوُقوع لأنَّها غيرُ معلومةٍ.
          فإن قلتَ: فما بالُ الجزاء لم يُطابقِ الشَّرْطَ في الاستقبالِ، مَع أنَّ المغفرةَ في الزَّمن المستقبل؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه عبَّر في الجواب بالماضي إشْعاراً بتحقُّق وُقُوع المغفرةِ فضْلاً منَ الله على عِبادِه، والمرادُ بالقيام القيامُ بالطَّاعة، كما في قولِه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، ويكتفي بما يسمَّى قياماً لا إتمام اللَّيل، وعليه بعضُ الأئمَّةِ حتَّى قيلَ بكفاية أداءِ فرضِ العشاء في جماعةٍ، لكنَّ العُرْفَ لا يقال: قامَ اللَّيلةَ، إلَّا لمن قامَ الكُلَّ أوِ الأكثرَ.
          ويحصل له الثَّواب المذْكُور حيثُ صادَفَها سَواءٌ عَلِم بها أمْ لا.
          قولُه: (إيْمَاناً) أي: تصْدِيقاً بأنَّه حقٌّ وطاعةٌ لا باطل ومعصية، وبأنَّه سببٌ للمَغْفرة وبوَعْد الله بالثَّواب عَلَيه.
          قوله: (وَاحْتِسَاباً) أي: إخْلاصاً لوَجْه الله لا لرياءٍ أو خَوْفٍ، وهو وما قبلَه منْصوبانِ على الحالِ، وهُما مصدران بمعنى اسم الفاعِل، أي: حالة كَوْنه مُؤمناً مُحتسباً.
          ويصحُّ أنْ يكُونَا مفعولَين لأجْلِه، أي: لأجلِ الإيمان... إلى آخرِه.
          ويصحُّ نصْبُهما على التَّمْييزِ، والأصلُ قيامُ إيمانٍ وقيامُ احتسابٍ، فهو / تَمْييزٌ محوَّلٌ عنِ المضافِ إليه.
          قوله: (غُفِرَ لَهُ) أي: الذُّنوب الصَّغائر من حُقُوقِ الله تعالى، وضميرُ (لَهُ) عائدٌ على (مَنْ).
          قَوله: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) قيل: الجارُّ والمجرورُ في محلِّ رفْعِ نائب فاعِل (غُفِرَ)! وهو باطلٌ؛ بلِ الجارُّ والمجْرورُ مُتعلِّقٌ ﺑ (تَقَدَّمَ)، و(ما) نائب فاعِل (غُفِرَ).
          وفي رِوايةٍ: «وَمَا تَأَخَّرَ».
          وهذا الحديثُ ذكَرَه البخاريُّ في باب: قيام ليلةِ القَدْرِ منَ الإيمانِ.


[1] أورده صاحب السيرة الحلبية 3/342.
[2] المصنف لعبد الرزاق الصنعاني 19938.
[3] عزاه إليه ابن عبد البر في التمهيد 20/241، وابن العربي في المسالك شرح موطأ مالك ░2/97▒ والقاضي عياض في إكمال المعلم ░2/47▒.
[4] قوله: «ثبت ثبت» زيادة من «ز1» و«م»، وفي الأصل: تبتُ تبتُ.
[5] كما في الطبراني في الكبير 14198.