حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث عائشة: ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت...

          242- قوله: (مَا زَالَ جِبْرِيْلُ) [خ¦6014] أي: استمرَّ جِبْريلُ، ﻓ (مَا) للنَّفْي، و(زَالَ) للنَّفْيِ، ونَفْيُ النَّفْيِ إثْباتٌ.
          قوله: (يُوْصِيْنِي بِالجَارِ) أي: بأمْرٍ منَ الله تعالى.
          واسمُ الجارِ يشملُ المُسْلمَ والكافرَ والعابِدَ والفاسِقَ والصَّدِيقَ والعَدُوَّ والغريبَ والبَلَديَّ والنَّافِعَ والضَّارَّ والقرِيبَ والأجْنَبيَّ والأقْرَبَ.
          وللجارِ مَراتبٌ بعضُها أعْلى مِن بَعْضٍ، فأعْلاها: مَن اجتمعتْ فيه الصِّفاتُ الأُولُ كلُّها، ثمَّ أكثرُها وهَلُمَّ جَرّاً إلى الواحِد.
          وعكْسُه: مَن اجتمعتْ فيهِ الصِّفاتُ الأُخرى كذلك، فيُعطي كلّاً حقَّه بحسَبِ حالِه.
          وقد ورَدتِ الإشارةُ إلى ما ذَكَرْتُه في حديثٍ مَرْفُوعٍ، أخْرجَه الطَّبرانيُّ من حديْث جابرٍ(1) رَفَعَه: «الجيْرانُ ثلاثةٌ:
          جارٌ لَه حَقٌّ، وهو المُشْرِكُ، لَه حَقُّ الجِوارِ.
          وجارٌ لهُ حقَّانِ، وهو المُسْلِمُ، لَه حقُّ الجوَارِ وحَقُّ الإسْلامِ.
          وجارٌ لَه ثلاثُ حُقُوقٍ، جارٌ مُسْلمٌ لَه رَحِم، لَه حقُّ الجِوارِ والإسلامِ والرَّحِمِ».
          قالَ الشَّيْخُ ابنُ أبي جَمْرةَ(2): حِفْظُ الجارِ مِن كمالِ الإيمان، وكان أهْلُ الجاهليَّة يُحافظون عليه، ويَحْصُلُ امْتثالُ الوصيَّة به باتِّصال ضروبِ الإحسان إليْه بحسَب الطَّاقة، كالهدِيَّة والسَّلام وطلاقةِ الوَجْهِ عِنْد لِقائِه وتفقُّد حالِه ومُعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكفِّ أسبابِ الأذى عنه على اختلاف أنواعِه حِسِّيَّةً كانت أوْ مَعنويَّةً.
          وقد نفَى صلعم الإيمانَ عمَّن «لَم يَأْمَنْ جَارُه بَوَائِقَهُ»، وهي مُبالغةٌ تُنْبِئُ بعِظَم حَقِّ الجارِ، وأنَّ إضْرارَه من الكبائرِ.
          قال: ويفترقُ الحالُ في ذلك بالنِّسْبة للجارِ الصَّالحِ وغَيْر الصَّالحِ، والذي يشمل الجميع إرادةُ الخيْر لَه وموعظتُه بالحسنى والدُّعاءُ له بالهِداية وتركُ الإضْرار له إلَّا في الموضع الذي يجبُ فيه الإضْرار له بالقَول أو الفِعْل. /
          والذي يخص الصَّالح هو جميعُ ما تقدَّم، وغيرُ الصَّالح كفُّه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتبِ الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المُنكرِ، ويعظُ الكافر بعَرض الإسلام عليه وتَبْيين محاسنه والتَّرغيب فيه برِفقٍ، ويعظُ الفاسق بما يُناسبه بالرِّفْق أيضاً، ويسترُ عليْه زَلَلَـهُ عن غَيره وينهاهُ برِفقٍ؛ فإنْ أفادَ فيه وإلَّا فيهجره قاصِداً تأدِيْبَه على ذلك، مع إعلامِه بالسَّبب لينفك.
          وقد وردَ مَرْوِيّاً من حديْث ابنِ جَبَلٍ(3) قالوا: يا رسول الله، ما حقُّ الجارِ؟
          قال: «إذا اسْتَقْرَضَكَ أقْرَضْتَهُ، وإنِ اسْتَعانَكَ أعَنْتَهُ، وإنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وإنِ احْتاجَ أعْطَيْتَه، وإنِ افْتَقَرَ جُدْتَ عَلَيْه، وإنْ أصابَه خَيْرٌ هنَّيتَه، وإذا أصابَتْه مُصِيبةٌ عَزَّيْتَه، وإذا ماتَ اتَّبعْتَ جَنازتَه.
          ولا تَسْتَطِيلَ عَلَيه البِناء فتَحْجُبَ عَنْه الرِّيْحَ إلَّا بإذنِه، ولا تُؤْذيه برِيْح قِدْرِكَ إلَّا أنْ تَغْرِفَ لهُ مِنْها، وإنِ اشْتَريتَ فاكِهةً فأهْدِ لَه، وإنْ لم تَفْعلْ فأَدْخِلْها سِرّاً، ولا يَخْرُجْ بها وَلَدُكَ ليَغِيْظَ بها وَلَدَهُ».
          قوله: (سَيُوَرِّثُهُ) أي: إنَّه يأمُرني عنِ الله بتَوْرِيث الجارِ مِن جارِه، بأنْ يجعله مُشارِكاً له في مالِه مَع الأقارِب بسَهْمٍ يعطاهُ.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: الوصاة بالجارِ.


[1] وجدته في مسند الشاميين 2458.
[2] كما في الفتح 10/442.
[3] ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 10/446 وعزاه لأبي الشيخ في [التوبيخ] ثم قال: وأسانيدهم واهية؛ لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن للحديث أصلاً. ووجدته فعلاً في كتاب التوبيخ والتنبيه لأبي الشيخ الأصبهاني برقم 26.