حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: أن رسول الله في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت

          143- قوله: (أَوْفَى) [خ¦2966] بفَتْح الهمْزة والفاءِ، بينهُما واوٌ ساكنةٌ لا مُتحرِّكةٌ، خلافاً للمُناويِّ على «الجامِع الصَّغير».
          قولُه: (في بَعْضِ أَيَّامِهِ) أي: التي خرجَ فيها للغَزْوِ.
          والجارُّ والمجْرورُ متعلِّقٌ ﺑ (انْتَظَرَ) المذْكور بعْدُ.
          قوله: (انْتَظَرَ) الجمْلةُ خبرُ (إنَّ)، ومفعولُ (انْتَظَرَ) محذوفٌ، والتَّقْديرُ: انتظَرَ الحرْبَ، وأصلُ التَّركيب: إنَّ رسولَ الله صلعم انْتَظَرَ الحرْبَ في بَعْض أيَّامِه.
          قولُه: (مَالَتِ الشَّمْسُ) أي: زالَتْ.
          وفيْه دليلٌ على أنَّ السُّنَّةَ في القِتال أنْ يكون عَشِيَّةً، ولم يكُن هذا الأمر إلَّا إذا فاتَه القِتال غُدْوةً؛ لأنَّه قد جاءَ في غير هذا الحديث أنَّه ╕ كان يقاتل أوَّل النَّهار، فإنْ فاتَه أوَّله تركَه إلى الزَّوال ويقول لأصْحابِه(1): «دَعُوْهُ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْياحُ، وَيَدْعُوَ لَكُمْ إخْوانُكُمُ المُؤْمِنُوْنَ»(2).
          فرِياحُ النَّصْرِ تَهُبُّ حينئذٍ غالباً، ويتمكن من القِتال بتبْريدِ حِدَّة السِّلاحِ وزِيادةِ النَّشاط؛ لأنَّ الزَّوالَ وَقْتُ هُبوبِ الصَّبَا التي اختصَّ ╕ بالنَّصْرِ بِها.
          وقد تركَ هذه السُّنَّة بعضُ جُيوش المسلمين في زمنِ عُمر بنِ الخطَّابِ، فطالَ عليهمُ المُقام على الحصْن الذي كان بإفْرِيقيَّة، بلْ ربَّما أصابَ العَدُوُّ منهم، فأرسلوا إلى عُمر بن الخطَّاب يطْلبون منْه النَّجدةَ، فأرسلَ إليهم عبدَ الله بنَ الزُّبيْر يسألهم عن كيفيَّة قِتالهم، فأخبروه بأنَّهم يرجعونَ إلى الحصن قبل الزَّوالِ فيُقاتلون.
          فأنكرَ عليهم ذلك عبدُ الله بن الزُّبير وقالَ لهم: «خالفتُم سُنَّة نبِيِّكُم»، وأمَرَهم بتَرْك القِتال قبلَ الزَّوالِ، ثمَّ بالإتيانِ للحصن بعد الزَّوال، فأتَوا إليه بَعْدَه فقاتَلُوا فانتَصُروا.
          فانظرْ كيفَ كانتْ أفعالُه مُشتملةً على فوائد لا تَنْحَصِر.
          قوله: (ثُمَّ قَامَ) أي: النَّبيُّ صلعم في النَّاس خَطيباً.
          قولُه: (لا تَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ) أي: لأنَّ الإنسانَ لا يَعْلَمُ ما يَؤُول إليه الأمْر، فربَّما أنَّ العَدُوَّ يغلبكُم.
          قوله: (العَافِيْةَ) أي: من الأُمور والمصائب التي تتضمَّن لقاءَ العدوِّ.
          قوله: (فَاصْبِرُوا) أمْرٌ بالصَّبْر عِنْد وُقوع الحقيقة؛ لأنَّ «النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ».
          قوله: (وَاعْلَمُوا أنَّ الجنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوْفِ) أي: السَّببُ الموصِل للجنَّة الضَّربُ بالسَّيف في سبيلِ الله، وهو من المجازِ البليغِ؛ لأنَّ ظلَّ الشَّيءِ لما كان ملازِماً له، وكان ثواب الجِهادِ الجنَّةَ، كان ظِلال السُّيوف المشهورة في الجِهاد تحتها الجنَّة، أي / : ملازمتُها استحقاقُ ذلك، ومثلُه: «الجنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَاتِ»(3).
          أو هُو كِناية عنِ الحضِّ على مُقاربة العدوِّ، واستعمالِ السُّيوفِ، والاجْتماع حيْن الزَّحْف حتَّى تصير السُّيُوف تظل المقاتِلين.
          قالَ ابنُ الجوْزيِّ(4): إذا تدانى الخصْمان، صار كلٌّ منهما تحتَ ظِلِّ سَيْفِ صاحبِه، لحرصِه على رَفْعِه عليه، ولا يكون ذلك إلَّا عند التحام القِتال.
          قولُه: (ثُمَّ قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (مُنْزِلَ الكِتَابِ) أي: يا مُنزل الكِتاب، أي: القُرآن الموعود فيه بالنَّصْر على الكفَّار، قالَ تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:14].
          أوِ المرادُ الجنْسُ، فيشمل سائرَ الكُتب المنزَّلة على الأنبِياء، فيكون المرادُ شدَّةَ الطَّلب للنَّصر، كنُصْرة هذا الكتاب بخذلان مَن يكْفُر به ويجحده.
          قوله: (وَمُجْرِيَ السَّحَابِ) إشارةٌ إلى سُرعة إجْراء ما يقدِّرُه الله، فإنَّه قدَّر جَرَيان السَّحاب بسُرعةٍ، وكأنَّه يسأل سُرعةَ النَّصْرِ والظَّفَرَِ.
          قوله: (وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: فأنتَ المنفردُ بالفِعْل من غير حَوْلٍ منَّا ولا قوَّةٍ.
          والمرادُ: التَّوسُّلُ إليه في النُّصْرة بنِعَمِه:
          فأشارَ بالأُولى إلى نِعْمة الدِّين بإنزال الكتابِ.
          وبالثَّانية إلى نعْمة الدُّنيا.
          وبالثَّالثة إلى أنَّه حصل حفظ النِّعْمتَين.
          فكأنَّه قال: اللَّهمَّ كما أنعمتَ بعظيم نِعْمتك الأُخرويَّة والدُّنيويَّة وحفظهما فأبْقِهما، وقد وقعَ هذا السجع اتِّفاقاً منْ غَيْر قصْدٍ.
          وهذا الحديث ذكَره البُخاريُّ في باب: كانَ النَّبيُّ صلعم إذا لم يُقاتلْ أوَّل النَّهار أخَّر القِتال حتَّى تزولَ الشَّمْس [خ¦2965].


[1] لم أجده بهذا اللفظ وبمعناه في البخاري 3160 «انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات».
[2] سيأتي معناه عند الحديث ░156▒.
[3] عزاه صاحب الكنز 45439 إلى القضاعي والخطيب..
[4] كشف المشكل من حديث الصحيحين 2/220.