حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره

32- قولُه: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ) [خ¦525] معناها: أنْ يأْتيَ لأجْلِهم ما لا يحلّ لَه مِنَ القَوْلِ ما لم يبلغ كَبيرةً.
          قالَ النَّوويُّ(1): أصلُ الفِتْنة الابتلاءُ والامْتحانُ، ثمَّ صارتْ في العُرْفِ لكُلِّ أَمْرٍ كشفَه الامتحانُ مِن سوءٍ.
          ويُطْلق على: الكُفْر، والغُلُوِّ في التَّأويل البَعيْد، وعلى الفضيحة، والبليَّة، والعذاب، والقتال، والتَّحوُّل منَ الحسنِ إلى القَبيح، والمَيْلِ إلى الشَّيء والإعجاب به.
          ويكون في الخيْر والشَّرِّ؛ لقَولِه تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
          وفِتْنة الرَّجُلِ بالأهْل ونَحْوِهم ممَّن(2) ذَكَر: هُو ما يحصلُ مِن إفْراط مَحبَّتِه لهمْ، بحيث يشغله عَن كثيرٍ مِن الخيراتِ، أو تفريطه فيما يلزمه منَ القيام بحُقوقِهم وتأْديبِهم؛ فإنَّه راعٍ لهم ومسؤولٌ عن رَعيَّتِهِ.
          وهذه كلُّها فِتَنٌ تقتضي المُحاسبةَ، ومنها ذُنوبٌ يُرجى تكفيرُها للحَسناتِ.
          قوله: (في أَهْلِهِ).
          المرادُ بفِتْنتِه فيهم: أنْ يأْتيَ مِن أجلهم بما لا يحل مِن القَوْل والفِعْلِ.
          قوله: (وَمَالِهِ) أي: وفِتْنتُه في مَالِهِ.
          والمرادُ بها: أنْ يأخُذَه مِن غير وَجْهٍ حلَالٍ، ويصرفَه في غَيْر وَجْهٍ حَلالٍ، فيأخذه مِن غير مأْخذِه ويصرفه في غَيْر(3) مصرفه.
          قوله: (وَوَلَدِهِ) أي: وفِتْنتُه في وَلَدِه.
          والمرادُ بها: فَرْطُ المَحبَّةِ فيه والشّغلُ عن كثيرٍ من الخيْرات، أوِ التَّوغُّل في الاكتِساب مِن أَجْلِه منْ(4) غير اتِّقاءِ المحرَّماتِ.
          قوله: (وَجَارِهِ) أي: وفِتْنتُه في جارِه.
          والمرادُ بها: أنْ يَتمنَّى مِثْلَ مَالِهِ مَع زَوال ما عَلَيه جاره.
          قوله: (تُكَفِّرُهَا) أي: تُكفِّر المذكُورات مِن الفِتَن الصَّلاةُ... إلى آخرِه.
          يحتملُ أنْ يكون المرادُ: أنَّ كُلَّ واحِدةٍ مِن هذه الفِتَن تُكفَّر بكُلِّ واحدَةٍ ممَّا ذكَره، فَفِتْنةُ الرَّجُلِ في أهْلِه _مثَلاً_ تكفَّر بالصَّلاة، أوِ الصَّدَقة، أو الصَّوم، أوِ الأمْر بالمعروف، / أوِ النَّهي عن المُنكَرِ.
          ويَحتمل أنْ تكونَ كُلُّ واحدةٍ من المُكفِّرات تُكفِّر جميعَ هذه الأُموْر.
          ويحتملُ أنْ يكون مِن باب اللَّفِّ والنَّشْرِ المُرتَّبِ، بأنْ تكون الصَّلاةُ مكفِّرةً للفِتْنةِ من الأهْل، والصَّومُ لفِتْنة المالِ... وكذا الباقي.
          ويَحتمِلُ أنْ يكونَ القَصْدُ من التَّكْفيْر التَّرْغيبَ في فِعْل هذه الأُمور الخمْسة؛ وإلَّا فتلْك الفِتْنة منَ الكبائرِ لا يُكفِّرها إلَّا التَّوبة أوِ الحج المبْرور، أو عفو الله تعالى.
          قوله: (وَالأَمْرُ) أي: بالمعروفِ، وقوله: (وَالنَّهْيُ) أي: عنِ المُنكَرِ.
          وشَرْطُهما أن يَعْرِفَ المعروفَ والمُنْكَرَ، وأنْ لا يُؤدِّي إلى مُنكَرٍ أعظم منْه، وأنْ يكونَ قادِراً، وأن يكون مُجْمَعاً على تحريْمِه، أو يكون حَراماً عِنْد الفاعِلِ.
          وإذا وُجدتِ الشُّروْط، وجَبَ عليه أنْ لا يتجَسَّسَ على النَّاس، ولا يَسْتَرِق سَمْعاً، ولا يَسْتنشق رِيحاً ليتَوصَّل بذلك إلى المنْكَر، ولا يبحث عمَّا خَفِيَ في بَدَنِه أو ثَوْبِه أو حانوتِه أو دارِه؛ فإنَّ السَّعْيَ في ذلك حَرَامٌ.
          ورُوي(5) عَن عُمَرَ أنَّه أُخبِر عَن رجُلٍ بالفحشاءِ، فَتَسَوَّرَ عليْه _أي: نزلَ عَلَيه_ منَ الحائطِ، فرآهُ على مُنْكَرٍ، فَصاحَ علَيْه سيِّدُنا عُمَر، فقالَ الرَّجُلُ: يا أميْر المؤمنين، أَنا عَصيتُ الله في واحِدةٍ، وأنتَ عَصيْتَه في ثلاثٍ.
          فقال: وما هيَ؟!
          فقال: تجَسَّسْتَ، وقد قالَ اللهُ تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] فقد نَهَى عنه، وأتيتَ البُيُوت مِن ظهورِها، وقد أمَرَ اللهُ تعالى بإتيانها مِنْ أبوابها، ودخلْتَ غيرَ منْزِلِكَ ولم تستأذِن وتُسلِّم، وقد أمر الله تعالى بذلك.
          فقالَ لَه عُمر ☺: صدَقْتَ، فاستغفِرْ لَنا، فقال: غفَرَ اللهُ لَنا ولكَ يا أميْر المؤمنين.
          ثمَّ إنَّه لابُدَّ في الأمْرِ والنَّهْي أن يكوناْ برِفْقٍ ولِيْنٍ.
          وقد وقَعَ أنَّ شخْصاً فعَلَ مع المأمُونِ الأمْرَ والنَّهْيَ بغِلْظَةٍ وشِدَّةٍ، فقالَ لَه: يا هذا، أَنا لستُ بأعْظم ذَنْباً من فِرْعَون، ولسْتَ أَنتَ أتْقى مِنْ مُوسى وهارُونَ وقد قالَ اللهُ تعالى لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا...} [طه:44] الآيةَ.
          وفي الحديث(6): «كَلَامُ ابنِ آدَمَ كُلِّهِ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إلَّا أمْراً بمَعْرُوْفٍ أوْ نَهْياً عَنْ مُنكَرٍ وذِكْرَ الله تعالى».
          وفي الحديثِ(7): «لَتأْمُرُنَّ بالمعْرُوفِ وتَنْهَوُنَّ عنِ المُنكَر، أو ليُسلطَنَّ اللهُ عَلَيكُمْ شِرارَكُمْ فيَدْعُوا خيارُكُم فلا يُسْتجاب لَهم».
          وفي / الحديثِ(8) _أيضاً_: «يأْتي على النَّاسِ زَمانٌ، يكُونُ للعامِل منهُم أجْرُ خَمْسين»، وعُورِضَ بحديثِ(9): «لا تَسُبُّوا أصْحابي؛ فلو أنَّ أَحَدَكُمْ أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نَصِيْفَهُ»!؟
          وأُجِيْبَ بحمْلِ العَمَلِ في الأوَّل، على الأمْرِ بالمعْرُوف والنَّهْيِ عنِ المُنْكَرِ.
          وهذا الحديثُ ذكرهُ البخاريُّ في باب: الصَّلاة كفَّارةٌ.
          وحاصلُ ما ذَكَره أنَّه قال:
          حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قال: حدَّثنا يَحيى، [عَنِ الأَعْمَشِ](10) قال: حدَّثَني شَقيْقٌ قال: سمعْتُ حُذيْفَةَ قال: كُنَّا جُلُوساً عِنْد عُمر بنِ الخطَّابِ فقال:
          أيُّكُم يَحفَظُ قولَ رسوْلِ الله صلعم في الفِتْنة؟ قلتُ: أنا كما قالَهُ، قال: إنَّك عليه _أو عليها_ لَجرِيءٌ! قلتُ: «فِتْنةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ ومالِهِ ووَلَدِه وجارِه، تُكفِّرُها الصَّلاةُ والصَّوْمُ والصَّدقةُ والأمْرُ وَالنَّهْيُ».
          قال: ليسَ هذا أُرِيدُ، ولكنِ الفِتْنةُ التي تَمُوجُ كمَوْجِ البَحْرِ؟
          قال: ليسَ عليكَ فيها(11) بأْسٌ يا أَميرَ المؤمنين، إنَّ بينَكَ وبينَها باباً مُغْلقاً، قال: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قال: يُكْسَرُ، قال: إذاً لا يُغْلَقَ أَبداً.
          قُلْنا: أكَانَ عُمر يعلَمُ البابَ؟ قال: نَعَمْ، كَما أنَّ دونَ الغَدِ اللَّيْلَةَ؛ إنِّي حدَّثْتُه بحديثٍ ليسَ بالأغاليطِ.
          فهِبْنا أنْ نسألَ حُذَيفةَ! فأمَرْنا مَسْرُوقاً فسألَه فقال: البابُ عُمَرُ.


[1] شرح مسلم 2/170_171.
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: مما.
[3] قوله: «وجه حلال، فيأخذه... في غير» زيادة من الأصل، وسقطت من «م»!
[4] قوله: «أجله من» زيادة من الأصل، وسقطت من «م»!
[5] الخرائطي في مكارم الأخلاق 419.
[6] [ت2412] المستدرك 3892.
[7] [م 23360] [شيبة 38376] [طس].
[8] [د 4341] [ت 3058] [ـه 4041] وغيرهم... بسياق طويل ومختلف قليلاً في ألفاظه...
[9] متفق عليه [خ¦3673] [م 221/2540].
[10] ما بين الحاصرتَين منِّي.
[11] عندي (منها) وفي المطبوع (فيها).