حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: الشفاء في ثلاثة: شربة عسل وشرطة محجم

          226- قوله: (الشِّفَاءُ في ثَلَاثَةٍ) [خ¦5680] ليس المرادُ حصرَ الشِّفاء في الثَّلاثة، فقد يكون الشِّفاءُ في غيرها، وإنَّما نبَّه بها على أُصول الصَّلاح؛ لأنَّ الأمْراضَ تكون دمويَّةً / وصفراويَّةً وبلغميَّةً وسوداويَّةً.
          فالدَّمويَّةُ: بإخْراج الدَّمِ، وخصَّ الحَجْمُ بالذِّكْر لكثرة استعمالِ العربِ لَه، وبقيتها بالمسهل الملائم لكلِّ خلطٍ منها، فيكون التَّخصيصُ لما ذُكر.
          قوله: (شَرْبَةِ عَسَلٍ) بالجرِّ بَدَلٌ مِن (ثَلَاثَةٍ).
          قيل: ليسَ المرادُ الشُّرْبَ على الخصوص، بلِ استعماله في الجملة فيما يصلحه استعماله منه، فإنَّه يدخل المعجونات المسهلة، والعَسَلُ لعابُ النَّحْلِ.
          وقيل: إنَّه يأكُلُ منَ الأزهارِ الطَّيِّبة والأوراقِ العَطِرة، فيقلبُ اللهُ تلْك الأجسامَ في داخِل أبدانِها عَسَلاً، ثمَّ إنَّها تقيءُ ذلك فهو العَسَلُ، وجمْعُه: أَعْسَالٌ، وعُسُلٌ، وعُسُوْلٌ، وعُسْلَانٌ.
          وأصلحه الرَّبِيْعيُّ، ثمَّ الصَّيْفيُّ، وأمَّا الشِّتائيُّ فردِيءٌ، وما يُؤخذ من الجِبال والشَّجَر أجودُ ممَّا يُؤخذ من الخلايا، وهو بحسَبِ مَرْعاه.
          ومنَ العَجيب أنَّ النَّحْلةَ تأكُل من جميع الأزْهار، ولا يخرج منها إلَّا حُلْواً، مع أنَّ أكثر ما تَجنيه مُرٌّ، وطبعُ العَسَلِ حارٌ يابسٌ، يحلل الرطوبات أكلاً، ونافعٌ للمَشايخ وأصحاب البلْغم، ولمن كان مِزاجُه بارِداً رطْباً، فمَن قامَ به البرد يستعمله وَحْده لدَفْع البرْد، ومَن قامَ به الحر يستعمله مَع غيره لدَفْع الحرارة، وهو جيِّدٌ للحِفْظ، يقوِّي البَدَنَ ويحفظ صحَّته ويسمنه، ويُقوِّي الإنْعَاظَ، ويزيد في الباه لمن قامَ به البَرْد، وينفع من الفالج والأوْجاع البارِدة الحادِثة في جميع البَدَن من الرطوبة.
          واستعمالُه على الرِّيْقِ يزيلُ البلْغم، ويَغْسِلُ المعدة ويُقوِّيها ويحسنها استحساناً معتدلاً، ويُبيِّض الأسنانَ استناناً ويحفظُ صحَّتها، والتلطخ به يُقتِّلُ القَمْلَ ويُطوِّلُ الشَّعَر، ويحفظ اللَّحْم وينفع للبَوَاسِيْرِ.
          ويكْفيه فضْلاً قولُ الله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].
          قال الحافظُ ابنُ كَثيْر(1): رَوَيْنا عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّه قال: «إذا أرادَ أحدُكُمُ الشِّفاءَ، فلْيكتُبْ آيةً مِن كتابِ الله في صحيفةٍ ولْيغسلْها بماءِ السَّماءِ، ولْيأخُذ مِن امْرأتِه دِرْهماً عَن طِيْبِ نَفْسٍ منْها فلْيشْتر بِه عَسَلاً فلْيشربْه كذلك، فإنَّه شفاءٌ».
          رواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ في «تفْسيره» [4823] بسندٍ حَسَنٍ بلفظِ: «إذا اشتكى أحدُكُم، فلْيستوهِبْ مِن امْرأتِه مِن صَدَاقِها، فلْيشتر به عَسَلاً، ثمَّ يأْخُذ ماءَ السَّماءِ فيجمع هَنِيئاً مَرِيئاً شفاءً كاملاً».
          فما خلقَ الله لَنا في معناه أفضل منْه، ولا مثله، ولا قريباً منه؛ لأنَّه غذاءٌ من الأغْذية، ودواءٌ منَ الأدْوية، وحُلْوٌ من الحلْوِ، وطلاءٌ من الأطلية، وشَرابٌ من الأشْربة، ومفرحٌ من المفرحات.
          قوله: (وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ) أي: يتفرَّغ بها الدَّم الذي هو أعظمُ الأخْلاطِ عِنْد هيَجانِه لتبريد المزاج.
          والمِحْجَمُ _بكسرِ الميْمِ، وسكونِ المُهملة، وفتح الجيم_: الآلَةُ التي يُجمع فيها دَمُ الحِجامة عِنْد المصِّ، ويُراد به هنا الحديدةُ التي يشرط بها موضع الحجامة لإخراج الدَّم. /
          وقد يتناول الفَصْدَ.
          والحجمُ في البلاد الحارَّة أنفعُ من الفَصْدِ.
          والفَصْدُ في البلادِ التي ليست بحارة أنجحُ من الحجم.
          قولُه: (وَكَيَّةِ نَارٍ) تركيبٌ إضافِيٌّ، ويُستعمل الكَيُّ في الخلط البلْغميِّ الذي لا تنحسم مادَّته، وآخِرُ الدَّوَاءِ الكَيُّ، فهو أنفعُ الأدْويةِ وأعْلاها.
          قوله: (وَأَنْهى أُمَّتِي) أي: نهيُ تَنْزيهٍ لما فيه من الألَم الشَّديد والخطَر العَظيم.
          وإنَّما قال أوَّلاً: «الشِّفَاءُ في ثَلَاثَةٍ...» وعدَّ منها الكَيَّ، ثمَّ نهى عنه؛ لأنَّهم كانوا يَرون أنَّ الكَيَّ يدفع الدَّاءَ بطبْعِه وذاتِه، فيُبادِرُون إليه قبل حصولِ الدَّاءِ فَتعجَّلوا تعذيبَ أنفسِهم بالكَيِّ لأجل أمْرٍ مظنونٍ، فنهى النَّبيُّ صلعم أُمَّتَه عنِ الكَيِّ لأجل تلك العِلَّة، وأباحَ استعمالَه على جهة طلبِ الشِّفاءِ من الله تعالى ورجاء البُرْء مِنه تعالى.
          قوله: (رَفَعَ الحَدِيْثَ) أي: أسنَدَه ابنُ عبَّاسٍ للنَّبيِّ صلعم؛ وهذا مَع قولِه صلعم: «وَأَنْهَى أُمَّتِي»، يدلُّ على أنَّ الحديثَ غيرُ مَوقوفٍ على ابنِ عبَّاسٍ.
          وهذا الحديث ذكَره البخاريُّ في باب: «الشِّفَاءُ في ثَلَاث».


[1] تفسير القرآن العظيم 4/584، في تفسير سورة النحل 68_69.