حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته

          11- قَوْلُه: (عَنْ أَسْمَاءَ) [خ¦86] بنت أبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ أُختُ عائشةَ لأَبِيها، وهي أكْبرُ مِن عائشةَ بعشر سنين، رُوي لها عَن رَسولِ الله صلعم ستَّة وخمسون حديثاً، أخرجَ البخاريُّ منها ثمانية عشر، وتزوَّجَها الزُّبيرُ بمكَّة وطلَّقَها بالمديْنة، وماتتْ بمكَّة سنةَ ثلاثٍ وسبعين، وقد بلغتِ المئة، ولم يسقط لها سِنٌّ ولم يتغيَّر لها عَقْلٌ.
          قيلَ: إنَّ ابنَها عبدَ الله وقفَ يوماً بالباب، فلمَّا أرادَ أبوهُ يدخل منعَه، فسألَه عن ذلك، فقال: لا أدعك تدخل حتَّى تطلِّق أُمِّي، فسُئل عن ذلك؟
          فقالَ: مثلي لا يكون لَه أُمٌّ توطأُ. فطلَّقَها(1).
          وقيل: ضربَها الزُّبيرُ فصاحتْ بابْنِها عبد الله، فأقْبلَ، فلمَّا رآه قال: أُمُّكَ طالقٌ / إنْ دخلتَ، فقال: أتجعلُ أُمِّي عُرضة ليَمينك! فاقتحمَ عَلَيها وخلَّصَها مِنْه.
          وكانتْ مِن أعْرف النَّاس بتَعْبِير الرُّؤيا، وتعلَّمتها من أَبيها الصِّدِّيقِ.
          وكان ابنُها عبدُ الله هذا مِن أذْكياءِ العالَم.
          فمِن ذكائِه ما حُكي أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ مرَّ بصِبْيان يَلْعبون وفيهم عبد الله بنُ الزُّبيْر فهربوا منْه إلَّا عبد الله، فقالَ لَه عُمر: ما لَك لم تهربْ مَع أصحابِك؟!
          فقال: يا أَمير المؤْمنين، لم أكُن على ريبةٍ فأخافك، ولم تكُنِ الطَّرِيقُ ضيِّقةً فأوسع لك.
          وهو أوَّلُ مولودٍ وُلِدَ في الإسلام للمُهاجِرين في المديْنة بعد عشرين شهراً منَ الهجرة، وَلَدَتْه أُمُّه بقُباء وأَتتْ به المُصطفى صلعم فوضَعَه في حجرِه ودَعا بتَمْرةٍ فمضَغَها ووضَعَها في فيْهِ، فكان أوَّل شيءٍ دخلَ جوفَه رِيْقُ النَّبيِّ صلعم.
          وكان صوَّاماً قوَّاماً وَصُولاً للرَّحِم كثيرَ التُّعبُّد، كان يطوي ستَّة أيَّام، وكان يطيل السُّجود حتَّى يسقط الطَّيْر على ظَهْره يظنُّه جِداراً.
          وكان يُصلِّي في الحجْرِ والمنْجنيقُ يصيبُ ثَوْبَه فلا يلْتفت إليه.
          وأعطاهُ المصطَفى صلعم دَمَه لِيُرِيْقَه(2) فشَرِبَه، فقال له ╕: «وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لَهم مِنْكَ»(3).
          أي: وَيْلٌ للحَجَّاج بالعقابِ لأنَّه يقتُلك، وويلٌ لكَ منَ النَّاس وهو الحجَّاج لأنَّه يقتلك، وعاشَ حتَّى قُتل على يدِ عَدُوِّ الله الحجَّاجِ.
          قوله: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم...) إلى آخرِه.
          أوَّل الحديثِ كما في البخاريِّ: عَن أَسماءَ قالتْ: أَتيْتُ عائشةَ وهيَ تُصلِّي فقلْتُ: ما شأْنُ النَّاسِ؟ فأَشارَتْ إلى السَّماءِ، فإذا النَّاس قِيامٌ، فقالَتْ: سُبْحانَ الله، قلْت: آيةٌ؟ فأشارَتْ برأْسِها أيْ: نَعَم.
          فقُمْتُ حتَّى علاني الغَشْيُ، فجعَلْتُ أَصُبُّ على رأْسي الماءَ، فحمِدَ اللهَ... الحديْثَ.
          قوله: (وَأَثْنى عَلَيْهِ) عطْفٌ على (حَمِدَ) مِن باب عطْف العامِّ على الخاصِّ؛ لأنَّ الثَّناءَ أعمُّ من الحمْدِ والشُّكْرِ والمدْحِ.
          قوله: (أُرِيْتُهُ) بضمِّ الهمْزةِ، أي: ممَّا تصح رُؤيته عقلاً كرُؤية الباري تعالى، ويليق عرفاً ممَّا يتعلَّق بأمْر الدِّيْن وغيره، فهذا من قَبيل العامِّ المخصوص، والمخصَّصُ يكون عقلياً وعرفياً، فهُنا خصَّصه العقل بما يصح أنَّه يرى، وخصَّصه العرف بما يليق.
          قوله: (إلَّا رَأَيْتُهُ) أي: رؤية عينٍ حقيقةً، بأنْ كشفَ اللهُ تعالى له عن ذلك بلا حاجب يمنع، مثل ما كشفَ له عن المسجدِ الأقصى حتَّى وصَفَه / للنَّاس.
          وقيل: رُؤية عِلْم.
          والأوَّل أقربُ لقولِه بعْدُ: (حَتَّى الجنَّةَ والنَّارَُ).
          والاستثْناءُ مفرغٌ متَّصلٌ، فتُلْغَى فيه (إلَّا) مِن حيثُ العَمَلُ لا مِن حيثُ المعنى كسائر الحروفِ والتَّفريغ من الحال، والتَّقديرُ: ما مِن شيء متَّصفٌ بلَم أكُن أُرِيْتُه كائناً في حالٍ من الأحوالِ إلَّا حال رؤيتي في مَقامي هذا، فلذلك جازَ استثناءُ الفِعْل بهذا التَّأويل.
          ويدخلُ في العُموم أنَّه رأَى اللهَ تعالى؛ إذِ الشَّيءُ يتناوله عقْلاً ولا يمنعُه، والعرف لا يقتضي إخراجَه.
          قوله: (في مَقَامِي) أي: حال كَوْني في مقامي، بفَتْح الميم الأُولى وكَسْر الثَّانية.
          وزادَ(4) في رِواية الكُشْمَيهَنيِّ والحَمُّوْييِّ (هذا) وهو خَبرٌ لمبتدإ محذوف، أي: هُو هذا، و(مَقَامِي) محتمل للمصْدر والزَّمان والمكان، ولعلَّه كان في مقام صلاةٍ.
          قولُه: (حَتَّى الجنَّةُ والنَّارُ) بالرَّفْع فيهما على أنَّ (حَتَّى) ابتدائيَّة، و(الجنَّةُ) مُبتدأٌ محذوفُ الخبَرِ، أي: حتَّى الجنَّة مرئية، (والنَّارُ) عطْفٌ عليه.
          وبالنَّصْب على أنَّها عاطفةٌ على الضَّميْر المنْصوب في (رَأَيتُه).
          وبالجرِّ على أنَّها جارَّة.
          قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ(5): رَوَيناهُ بالحركاتِ الثَّلاث فيها، لكن استشكلَ الدمامينيُّ الجرَّ بأنَّه لا وَجْه له إلَّا العَطْف على المجرور المتقدِّم، وهو ممتنع؛ لما يلزم عليه من زِيادة «من» مَع المعرِفة، والصَّحيح منعُه، وقد يقال: يغتفر في التَّابع ما لَا يغتفر في المتْبوع.
          وردَّ ذلك بأنَّها _على كلامِه_ ليستْ جارَّة، بلْ عاطفة، والمقصودُ أنَّها جارَّة، وكلامُه يقتضي أنَّ (الجنَّة والنَّار) مُتعلِّقان بالمنفيِّ مَع أنَّهما مرتبطان بالمثبت وهو الرُّؤية.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الجنَّةَ والنَّار مَوجودَتانِ الآن، ثمَّ لمَّا كانت رؤيتُهما مُستبعدةً بالنِّسْبة لغيرهما وكان في الجنَّةِ «مَا لَا عَيْن رَأَت، ولا أُذُن سَمِعْتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَر» صَحَّ جعلُها غايةً في الشَّرَفِ.
          واستُشكلَ الحديثُ بأنَّه إنْ كان صادِراً مِنْه صلعم قبلَ المعْراج أشكل قوله (حَتَّى الجنَّة والنَّار) إنْ جعلت رَأَى بصريَّة؛ لأنَّه لم يُبصرهما قبل المعْراج، وإن كان صادِراً مِنهُ بعد المعراج أشكل أيضاً لاقتضائه رُؤية الله تعالى يقَظةً في حال الصَّلاة.
          فتعيَّن أنَّ المرادَ الرُّؤيةُ العلْميَّة.
          قولُه: (فَأُوْحِيَ إلَيَّ) بضمِّ الهمْزة، وكَسْر الحاءِ المهملة، أيْ: أَوْحى اللهُ تعالى إلَيَّ، ونائبُ الفاعِل قولُه بعد (أَنَّكُمْ) بفَتْح الهمْزةِ، وقوله (تُفْتَنُوْنَ) خبرُ (أنَّ)، أي: تُمتَحنون وتُختَبَرونَ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ المصطفى صلعم لا يُفْتَن؛ إذْ لو كان / داخِلاً لقال: نُفتَن في قُبورِنا، بصيغة المُتكلِّم ومَعه غيره.
          ويؤيِّدُ هذا قولُه في الحديث: «مَا عِلْمُكَ _أي_ بهذا الرَّجُلِ»، ولا يمكن أنْ يُسئلَ عن نفْسِه.
          فإنْ قيْل: لعلَّ المصطفى صلعم له فتنةٌ ليست على هذه الصِّفَة!؟
          أُجِيْبَ بأنَّه لو كان له(6) ذلك لَبيَّنَه لِيُسلِّي أُمَّته ويُهوِّن عليهم ما يرون، وظاهرُ الحديث شمولُ الفِتْنة للأطْفال، والرَّاجحُ أنَّهم لا يُفتَنون.
          قوله: (مِثْلَ أوْ قَرِيْبَ) شكٌّ مِن الرَّاوي الذي روى عَن أسماءِ، وهي فاطِمةُ بنتُ المُنْذِر بنِ الزُّبيْر بن العَوَّام، رَوت عنْ جدَّتها أُمِّ أَبِيها.
          وفيه دليلٌ على تحرِّيهم في النَّقْلِ، وكُلٌّ منهما لا تَنْوين فيه لإضافتِه إلى (فِتْنةِ)، أي: إنَّ أحدَهما مُضافٌ إلى المذكور، والآخرَ مضَافٌ إلى محذوفٍ مُماثل للمذْكورِ.
          فإن قلتَ: إنَّ فيه الفَصْل بين المضافِ والمضافِ إليه بأجنبي وهو (لا أَدْرِي أيَّ ذلك قَالَتْ أَسْمَاءُ)؟!
          أُجِيْبَ بأنَّها جملةٌ مؤكّدة لمعنى الشَّكِّ المفهوم مِن (أو)، والمؤكّد للشَّيء لا يكون أجنبياً منْه.
          فإنْ قلتَ: في بعض النُّسخ: «مِنْ فِتْنَةِ»، و«من» لا تتوسَّط بين المُضافِ والمضَافِ إليه في اللَّفظ؟!
          أُجِيْبَ بأنَّا لا نسلِّم امتِناعَ التَّصْريح بما هو مُقدَّر مِن اللَّام وغيرها في الإضافاتِ، وهو مثلُ قولِك: لا أباْ لَكَ.
          ولئن سلمناه فهُما مضافانِ إلى فِتْنة مُقدَّرةٍ، والمذكور بَيانٌ لها.
          فإنْ قلْتَ: قد رُوي (قَرِيْباً) بالتَّنوين، فما وَجْهُه؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ وَجْهَه أنَّ (مِنْ فِتْنَةِ) مُتعلِّق به، ويقدَّر ﻟ (مِثْلَ) مُضافٌ إليه على رِواية زيادةِ (مِنْ)، وعلى رِواية حذْفِها ﻓ (مِثْلَ) مُضافٌ ﻟ (فِتْنةِ) المذكُور، ومُتعلِّقُ (قَرِيْبَ) محْذوفٌ.
          ويُروى: «مِثْلاً أوْ قَرِيْباً» بتَنْوينِهما مَع إثباتِ (مِنْ)، والمعنى: إنَّ الفِتْنةَ الحاصِلةَ في القَبْر مِثْل فِتْنةِ المسيْح الدَّجَّالِ.
          قولُه: (لا أَدْرِي أيَّ ذلك) أي: المذكُور من لفظ (مِثْلَ أوْ قَرِيْبَ).
          و(أَيَّ) يحتملُ أن تكون استفهاميَّة، فهي مبتدأٌ معلِّقةٌ ﻟ (أَدْرِي) عنِ العملِ في لفْظِه؛ لأنه منْ أفْعال القُلُوبِ، وجملة (قالَتْ أَسْماءُ) خبرٌ، وضميرُ المفْعول محْذوفٌ، أي: قالته، وهو الرَّابطُ بين المبْتدإ والخبَر.
          ويحتملُ أنْ تكونَ مَوصولةً، فهي بالنَّصْب مفعولُ (أَدْرِي)، والعائدُ محذُوفٌ، وسَيأتي ما فيه.
          قولُه: (المَسِيْحِ) بالحاءِ المُهمَلة؛ لأنَّه يمسح الأرض، أو لأنَّه ممسوح العَيْن.
          وبالخاءِ المُعجَمة؛ لأنَّه ممسوخُ الذَّات.
          وقيلَ لهُ: (الدَّجَّالِ) لأنَّ الدَّجْلَ الكَذِبُ وخلْطُ الحقِّ بالباطلِ، وهو كذَّاب خلَّاطٌ، / ووُصف بالدَّجَّال ليتميَّز عن المسيْحِ عيْسى بنِ مَرْيَم، وهذا يدلُّ على أنَّه بالحاءِ المُهْملة.
          وإنَّما مُثِّلت فِتْنة القَبْر بفِتْنة المسيْحِ لعِظَمِها وللتَّنبيه على حالِ المُنافقِ أوِ المرتاب في كَون علَّته قاصِرة؛ وذلك أنَّ الدَّجَّال يدَّعي الرُّبوبيَّةَ ويستدلُّ عليها بأشياءَ:
          منها: إنَّه يُحيي ويُميْت.
          ومنها: إنَّه يسيْر بسَيْره مَثَلُ الجنَّة عن يَمينه، ومَثَلُ النَّارِ عَن يسارِه.
          ومنها: إنَّ أموالَ مَن يأْبى عَن اتباعِه تتْبعُه.
          وبَعْد هذا كُلِّه ذاتُه تُكذِّبه في كُلِّ ما استدلَّ به؛ لأنَّه أَعْوَر ومَركوبه أَعْور، فلم يكن في قُدْرتِه تحسينُ خَلْقِه ولا خلق مركوبه، ثمَّ ينزل عِيْسى فيقتله بحَرْبتِه حتَّى يرى دَمُه في الحربةِ.
          فلَو كان إلهاً لم يُصبْه شيءٌ من ذلك، والمنافقُ أوِ المرتابُ أشبَهَه في هذا المعنى؛ لأنَّه أظهرَ الإيمانَ في الدُّنيا وتلبَّس في الظَّاهرِ به ولم يكمل له ما شرط عليه فيه، فإذا احتاجَ إلى الإيمان لم ينفَعْه، فأشْبَه الدَّجَّالَ في عِلَّته القاصِرة وحجَّتِه الواهِيةِ.
          قوله: (يُقَالُ) أي: للمفتون، وهذا بَيانٌ لقوْله: (تُفْتَنُوْنَ)، وهذا يفيْدُ أنَّ الافتِتان هو السُّؤالُ.
          قوله: (مَا عِلْمُكَ).
          فإنْ قلْتَ: لم عدل عَن خِطابِ الجمْعِ في (أَنَّكُم تُفْتَنُوْنَ) إلى المُفردِ في قولِه (مَا عِلْمُكَ)؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ قولَه: (إنَّكُم تُفْتَنُوْنَ) من مُقابَلَة الجمْعِ بالجمْع فيفيد التَّوزيع، فكأنَّه قيل: إنَّ كلَّ أحدٍ منكُم يُفتَن في قَبْره.
          أو يقالُ: إنَّ السُّؤال عنِ العِلْم يكون لكُلِّ واحدٍ بانفرادِه واستقلالِه، وكذلك الجواب يقعُ منْ كُلِّ أحدٍ بانفِرادِه.
          قوله: (بِهذا الرَّجُلِ) المرادُ به النَّبيُّ صلعم.
          فإنْ قلتَ: لِمَ لَمْ يُعبَّر بضمير المتكلِّم بأنْ يقولَ: ما عِلْمُكَ بِي؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ المقصودَ حِكايةُ قولِ الملَكَين الصَّادِر منهُما.
          فإنْ قلْت: لمَ قالَ (بِهذا الرَّجُلِ)، ولم يقُل: بِرَسول الله صلعم؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه لو عبَّر بذلك لصارَ تلْقيناً له في حُجَّتِه، والمقصودُ افْتتانه.
          فإنْ قلتَ: قد وردَ السُّؤالُ أيضاً عنِ الرَّبِّ والدِّيْن، فلِمَ اقتصر على السُّؤال عن العِلْم بهذا الرَّجُل؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ السُّؤالَ عنْه مُستلزمٌ للأمْرَيْن الآخَرَيْن، لأنَّه إذا أقرَّ بهذا الرَّجُل كان مُقرّاً بهذَيْن الأمْرَيَن.
          قولُه: (فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوْقِنُ) أي: المُصدِّق بنُبوَّته صلعم، وهذا شكٌّ من الرَّاوي وهو فاطِمة المتقدِّمة.
          قوْله: (لا أَدْرِي أَيُّهما) أي: لا أعلمُ / أَحد اللَّفظَين الذي قالتْه أسماءُ.
          و(أَيُّ) يصحُّ أن يُقرأَ بالرَّفع مُبتدأ، وجملة (قَالَتْ أسْماءُ) خَبَرُه، وضميرُ المفْعولِ محذوفٌ تقديرُه: قالَتْه أَسْماءُ.
          و(أَيّ) استفهاميَّة معلِّقةٌ ﻟ (أَدْرِي) عنِ العَمَلِ في لفْظِ المفْعولين.
          ويجوزُ أنْ تكون (أَيُّ) مَوْصولةً مبتدأً مبْنيَّةً على الضَّمِّ لإضافتها مَع حذْف صَدْرِ صِلَتِها، والتَّقدير: أيَّهُمَا هو قالته أسماءُ، ولكنَّ الظَّاهر الإعرابُ الأوَّل؛ فإنَّ خبَرَ الأوَّل وهو (أَيُّ) غيرُ ظاهرٍ لفْظاً ولا تقْديراً؛ فإنَّ قولَه: (قالَتْ أَسْماءُ) خَبرٌ للمُبتدإ المحذوف وهو «هُوَ» وأيضاً (أيّ) المعلقة إنَّما هي الاستفهاميَّة لا الموصولة.
          ويصحُّ نَصْب (أيَّ) على جعلِها استفهاميَّة أو مَوصولةً.
          لكن هذا غير ظاهرٍ لما تقدَّم أنَّ أيًّا الاستفهاميَّة تُعلِّق الفِعْلَ، فالظَّاهرُ أنَّها استفهاميَّةٌ مبتدأٌ خبَرُها (قَالَتْ)، وتكون مُعلِّقة للفِعْل، فلا يعمل فيها النَّصْب لَفظاً.
          وإذا كانتْ مَوصولةً فأَيْن المفعول الثَّاني!
          قولُه: (فَيَقُوْلُ) أي: المسؤولُ، والفاءُ واقعةٌ في جوابِ (أمَّا) لما فيها من معنى الشَّرط.
          قوله: (جَاءَنَا بِالبَيِّناتِ...) إلى آخرِه.
          أي: بالمعجزاتِ الظَّاهراتِ الواضِحات، وبالدَّلالاتِ الدَّالَّة على ما فيْه هُدانا.
          قولُه: (فَأَجَبْنَاهُ...) إلى آخرِه.
          بالضَّمير في بعضِ الرِّواياتِ.
          وفي بعضِها: «فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا»، بدون ضميْرٍ، فحذف المفعول به للعِلْم به، أي: قَبِلْنا نُبوَّته مُعتقِدين مُصدِّقين بقُلُوبنا، واتبعناهُ فيما جاءَ به إلينا بجوارحِنا.
          فالإجابةُ تتعلَّق بالعِلْم، والاتِّباع يتعلَّق بالعملِ.
          قَوله: (هُو مُحمَّدٌ ثَلَاثاً)، وفي رِوايةٍ «وهُو مُحمَّد»، أي: يقول: هو محمَّدٌ ثلاث مَرَّاتٍ، لكن مرَّتين بلفظِ (محمَّد) ومرَّة بذِكْر رسولِ الله، لكن ظاهر ذلك أنَّ السُّؤالَ لا يتكرَّر، وكذا الجواب.
          فعَلَيه؛ يكُون قوْلُه (ثَلَاثاً) معْمولاً لقولِه (فَيقُوْل)، لكن يكون (ثَلَاثاً) قيداً في قوله (محمَّد)، وهذا لا يتعيَّن، بلْ يصحُّ أنْ يكون (ثلَاثاً) راجعاً للجواب بتمامِه، وعلَيْه فالعاملُ فيه (يقُوْل) أيضاً، لكنَّه ليس قيداً في قولِه (محمَّد) فقطْ.
          ويصحُّ أن يكون (ثَلَاثاً) راجعاً للسُّؤال والجواب، وعلى هذا فالعاملُ فيه (يُقَالُ) أو (يقُوْل) على سبيْلِ التَّنازعِ.
          فالسُّؤال والجوابُ على هذا يتكَرَّر كلٌّ منهما ثلاث مرَّاتٍ، وظاهرُ اللَّفظ أنَّه راجعٌ لكُلٍّ منهُما، وهو الأظْهرُ.
          قوله: (فَيُقَالُ) أي: فيقولُ الملَك للمفتون: (نَمْ).
          يحتمل أنَّ المرادَ: نَمْ حقيقةً كالنَّوم في دارِ الدُّنيا، فلا يجد المؤمنُ في القَبْر ألَماً.
          ويحتملُ أن يكون (نَمْ) بمعنى: مُتْ، فكنَّى عنِ الموْتِ بالنَّوْم، وإنَّما قيلَ له: (نَمْ) ولم يقل له(7): مُتْ تَحسيناً له في العبارة لئلَّا يلحقه رُعْبٌ، / ففيْه تلطُّفٌ به، أي: دُمْ على مَوْتِكَ.
          قوله: (صَالِحاً) حالٌ مِن فاعلِ (نَمْ)، أي: مُنتفعاً بأعمالِك؛ إذِ الصَّلاحُ كون الشَّيء في حدِّ الانتفاعِ.
          قوله: (إنْ كُنْتَ) يحتملُ أن يكون بكَسْرِ الهمْزةِ على أنَّها مُخفَّفة مِن الثَّقيلة، واسمُها ضميرُ الشَّأن، والجملةُ بعدها خَبَرٌ، وهذا على جَعْلِ اللَّامِ في (لَمُوْقِناً) للابتِداءِ، فتكوْن مُعلِّقةً ﻟ (عَلِمَ) عنِ العَملِ.
          ويَحتملُ أنْ يكونَ بفَتْحِ الهمْزةِ على أنَّها مصْدرِيَّة، واللَّام في (لَموْقِناً) هي اللَّامُ الفارِقةُ بناءً على أنَّ الفارِقةَ غيرُ لامِ الابتداءِ فلا تكون معلِّقةً ﻟ (عَلِمَ) عنِ العملِ.
          وقالَ الكُوفيُّون: إنَّ (إنْ) بكَسْر الهمْزة بمعنى: ما النَّافية، واللَّام في (لَموْقِناً) بمعنى: إلَّا، والتَّقدير: ما كنت إلَّا مُوقِناً، كما في قولِه تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4]، أيْ: ما كلُّ نفسٍ إلَّا عليها حافِظ.
          قوله: (وَأمَّا المُنَافِقُ) أي: غير المُصدِّق بقَلْبِه لنُبوَّته.
          فإنْ قلتَ: إنَّ المصطفى صلعم ذكَر المؤمنَ الكامِلَ وذكَر الكافرَ الهالك، وتركَ الطَّرفَ الوسط وهو المؤمن العاصي؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه سكتَ عنه لكونه أخذَ مِن كُلِّ واحدٍ طرفاً، فأخذَ منَ الطَّرَفِ الأوَّل الإيمان ومن الثَّاني العصيان، فيلحقه الخوف أوَّلاً ثمَّ يلحقه الفرَح والسُّروْر.
          وممَّا يؤيِّد ذلك ما حُكي عن بعضِ الصَّالحين، أنَّه كان خطيباً في جامِعٍ من جَوامع الأمْصارِ، فلمَّا تُوفِّي رآه صاحبٌ لَه في النَّوْم، فسألَه ما فعل به المَلَكان في القَبْر؟
          فقال: سألَاني، فوقفتُ فلم أدْرِ ما أجيبهما، فبقيتُ مُتحيِّراً ساعة! فإذا أنا بشاب حسن الصُّوْرة، قد خرجَ مِن جانبِ القَبْر فلقَّنَني الحجَّة.
          فلمَّا أجبتهما وذَهَبا عَنِّي أرادَ هذا الشَّاب أن يَنْصرِف، فتعلَّقتُ به فقُلْت: مَن أنتَ يرحمك اللهُ الذي أغاثَني اللهُ بِك؟ فقال: أنا عمَلُك.
          قلت: وما أبطأكَ حتَّى بقيت مُتحيِّراً في أمْري!؟ فقال لي: كنتَ تأخذ أُجْرة الخِطابة من السلطنة، فقلت: والله ما أكلت منها شيئاً، وإنَّما كنت أتصدَّقُ بها.
          فقال: لو أكلتها ما أتيتك، ولِأَخْذِكَ إيَّاها أبطأت عنْك.
          فحصل لهذا أوَّلاً الحيرة ثمَّ الفرَجُ.
          أو يقالُ: إنَّ المصطفى صلعم لم يبيِّن حُكْمَ المؤمنِ العاصي؛ لأنَّه يختلفُ باختلافِ النَّاسِ، فمنهم مَّن تغلب حسناتُه سَيِّئاته، ومنهُم بالعكْس، ومنهم مَّن يكون بالسَّوية، فأحوالُ العصاة مُتعدِّدةٌ، فلو ذكر المؤمن العاصي لاحتاجَ أن يبيِّن كلّ شخصٍ على حدته كيف يكون سؤاله، وكيف يكون جوابه، وكيف يكون خلاصه أو هلاكه، فيطول الكلامُ في ذلك، فبيَّن حُكْمَ الطَّرَفَين لأنَّه محصورٌ، وتركَ حكْمَ الوسطِ لأنه غيرُ محْصُورٍ.
          قوله: (أَوِ المُرْتَابُ) أي: الشَّاكُّ، وهذا شكٌّ من الرَّاوي أيضاً وهو فاطمة.
          قَوله: (فَيَقُوْلُ) أي: المُنافقُ.
          وقوْله: (لا أَدْرِي) أي: لا أعْلَمُ هذا الرَّجُل(8).
          قولُه: (فَقُلْتُهُ) أي: قلت ما كان النَّاسُ يقولونَه.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: من أجابَ الفُتيا بإشارة اليَدِ والرَّأسِ.


[1] كذا في الأصل، وفي «م»: مطلقا.
[2] كذا في «ز1» و«ز5»، وفي الأصل و«م»: ليهريقه.
[3] المستدرك 6343.
[4] كذا في الأصل، وفي «م»: إذ.
[5] فتح الباري 1/183.
[6] كذا في الأصل، وليست في «م».
[7] كذا في الأصل، وليست في «م».
[8] قوله: «قوله: (فيقول) أي... هذا الرجل» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».