حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة

          74- قولُه: (حَكِيْمُ) [خ¦1472] بفَتْح المهملة، وكسر الكاف، بوزْنِ أَمِيْر، وحِزَامٌ بكَسْر المهملة وبالزَّاي المخفَّفة الأَسديُّ المكِّيُّ(1).
          وُلِدَ في جوفِ الكَعْبة، وعاش ستِّين عاماً في الجاهليَّة وستِّين عاماً في الإسْلام، وأعتقَ مئة رَقَبةٍ، ووقفَ بعَرَفَةَ بمئة رقبةٍ في أعناقها أطْواق الفضَّة منقوش فيها: «عتقاءُ الله عَن حكيم بن حِزامٍ».
          وحجَّ في الإسلامِ ومعه مئة بَدَنةٍ، وأهدى ألْفَ شاةٍ، وماتَ بالمديْنةِ سنةَ ستِّين أو أربعٍ وستِّين(2)، وهو قُرشيٌّ.
          وأمَّا حَرَامٌ، بفَتْح الحاءِ والرَّاء المهملتَين، فلا يكون إلَّا في الأنصارِ.
          قوله: (خَضِرَةٌ) أي: كالفاكهةِ الخضرة، فإنَّها مرغوبٌ فيها من حيث النَّظَرُ.
          وقوله: (حُلْوَةٌ) أي: كالفاكهة الحلْوةِ من حيثُ الرَّغبةُ في الذَّوْق، فقد شبَّه المالَ بالفاكهة بجامِع(3) الرَّغبة في كُلٍّ، والتَّأنيثُ باعتبارِ الأنواعِ أوِ الصُّورة.
          قوله: (بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ) أي: بسهولتها وطيبها وسعتها وانْشراحها، والمرادُ: نفس الدَّافع، أو بسَخاوةِ نَفْسِ الآخذِ بأنْ لا يحرص على ما أخذه، فالنَّفسُ إمَّا أن يُرادَ بها نفس الدَّافع أوِ الآخذ.
          قوله: (بإشْرَافِ نَفْسٍ) أي: بتطلُّعٍ وحرصٍ وطمَعٍ.
          قوله: (وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ) أي: وكان الآخذُ كالذي _أي: كالشَّخص الذي_ بِه الجوع الكاذِب، وهو المسمَّى بجُوع الكَلَبِ _بفَتْح الكافِ / واللَّامِ_ وهو كَثْرةُ الأكْلِ من غير شبعٍ، كلَّما ازدَادَ أَكْلاً ازْدادَ جُوعاً.
          قوله: (وَاليَدُ العُلْيَا) وهي المُعطيةُ.
          وقوله: (خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى) وهيَ الآخِذةُ.
          وأفعلُ التَّفضيلِ وهو (خَيْرٌ) ليس على بابِه، أو: إنَّه على بابِه إذا كان ما تأخذه اليَدُ السُّفلى تَصْرِفُه في خيْرٍ.
          وفي بعضِ الرِّواياتِ: «اليَدُ العُلْيَا المُتَعَفِّفَةُ»، منَ العِفَّةِ عنِ المحرَّماتِ.
          وقيل: المرادُ ﺑ (العُلْيَا) الآخِذَةُ، وﺑ (السُّفْلى) المعطِيةُ؛ لأنَّ عادةَ الكُرماءِ أنَّهم يبسطونَ الكَفَّ حتَّى يأخذَ الفَقيرُ منها، فيَدُ المُعْطي هي (السُّفْلى)، ويدُ الآخِذ هيَ (العُلْيَا).
          وأيضاً؛ المنفقُ أَفادَ الفقيرَ أَمْراً دنيوياً وهو القليل الفاني، والفَقيرُ الآخِذُ أفادَ المُنْفقَ الدَّافعَ أمْراً أُخْرَوِيّاً، والأُخْرَويُّ خيرٌ من الدُّنْيَوِيِّ وأبقى منه.
          ويردُّ هذا حديثَ النَّسائيِّ [2532]: «يَدُ المُعْطِي العُلْيا»، وحديثَ(4): «يدُ الله فَوْقَ يدِ المُعْطِي، وَيَدُ المُعطِي فَوْقَ يدِ المُعْطَى، فهِيَ أَسْفَلُ الأَيْدِي».
          وفي رِوايةٍ لأبي داوُدَ [1649]: «الأَيْدِي ثلاثةٌ: فيَدُ الله العُلْيا، ويَدُ المُعْطي التي تَلِيْها، ويدُ السَّائلِ السُّفْلى».
          ثمَّ قالَ حَكيْمُ بن حِزَامٍ بعد قولِ المُصطَفى صلعم: «وَاليَدُ العُلْيَا...» إلى آخره: يا رسولَ الله، والذي بعثَكَ بالحقِّ، لا أَرْزَأُ أحداً بعْدَكَ شيئاً _أي: لا آخذ مِن أَحَدٍ شيئاً_ حتَّى أُفارِقَ الدُّنيا.
          فكانَ أبو بكْرٍ يدْعُو حَكيماً ليُعطيه، فلم يقبلْ مِنْه شيئاً.
          ثمَّ إنَّ عُمر ☺ دَعاهُ ليُعْطيَه، فأَبى أن يقْبلَه، فقال: يا مَعْشرَ المسلمين، أُشهِدُكُم على حَكيْمٍ أنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّه الذي قسمَه اللهُ لَه مِن هذا الفَيْءِ، فأبى أنْ يأخُذَه.
          فلَم يَرْزَأْ حكيمٌ أَحَداً مِن النَّاسِ حتَّى تُوفِّي ☺.
          وأخرجَ مالكٌ في «الموطَّإ» [1814]، عَن عطاءِ بنِ يَسَارٍ، أنَّ رسوْلَ الله صلعم أرسلَ إلى عُمر بنِ الخطَّابِ بعطاءٍ، فردَّه عُمر، فقالَ لهُ رسولُ الله صلعم: «لِمَ رَدَدْتَهُ؟».
          فقال: يا رسول الله، أليسَ قد أخْبَرْتَنا: «إنَّ خَيْرَ الآخذِ(5) أنْ لا يأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً؟».
          فقالَ رسولُ الله صلعم: «إنَّما ذاكَ عَنِ المَسألَةِ، وأمَّا مَا كَانَ على غَيْرِ مَسْألَةٍ، فإنَّما هُو رِزْقٌ رَزَقَكَهُ اللهُ»، فقالَ عمرُ: أمَا والذي بعثَكَ بالحقِّ، لا أسألُ أحَداً شيئاً، ولا يأْتيني من غير مسألةٍ إلَّا أَخَذْتُهُ.
          وهذا الحديثُ ذكَرَه البُخاريُّ في باب: الاسْتِعْفاف عنِ المسألةِ.


[1] قوله: «وحزام بكسر... المكي» زيادة من «ز2» و«م»، وسقطت من الأصل وباقي النُّسخ.
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: وخمسين.
[3] كذا في الأصل، وفي «م»: من حيث.
[4] حم 15356، ك 6048، طب 3081، 3095.
[5] قوله: «خير الآخذ» زيادة من الأصل وباقي النُّسخ، وفي «الموطَّإ»: «خَيْرًا لأحَدِنا».