حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول

          36- قوله: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ...) [خ¦615] إلى آخرِه.
          أي: لو عَلِموا ما في الأذان من الفضيلة وعِظَم الجزاءِ والخيْر(1)، لكان كلٌّ منهُم يحبُّ أنْ يكون هو المؤذِّن، (ثُمَّ) إذا (لَمْ يَجِدُوْا) طرِيقاً يحصِّلونه به لضيق الوقْتِ وكونِه لا يُؤذِّنُ للمسجد إلَّا واحِدٌ لاقترعوا في تحصيلِه، وكذا يقالُ في قولِه: (وَالصَّفِّ الأَوَّلِ).
          وعدل في قوله: (لَوْ يَعْلَمُ) عن الأصلِ، وهو كون شرطها فِعْلاً ماضياً إلى المضارع قصداً لاستحضارِ صُورة المتعلِّق بهذا الأمْر العجيب، الذي يُفضي الحرصُ على تحصيله إلى الاستهام عليه.
          قالَ ابنُ هِشامٍ: جوابُ (لَوْ) إمَّا مُضارعٌ منفيٌّ ﺑ (لَم) نحو: لو لم يخف الله لم يعصه، وإمَّا ماضٍ مثبتٍ، أو منفيٍّ.
          والغالبُ في المثبتِ دُخولُ اللَّام عَلَيه، نحو: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:65]، ومن تجرُّده منْها، نحو: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة:70].
          والغالبُ في المنفيِّ تجرُّدُه مِنها، نحو: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112].
          قوله: (مَا في النِّدَاءِ) أي: الأذان.
          وقوله: (وَالصَّفِّ الأوَّلِ) أي: ولو يعلمُ النَّاسُ مَا في الصِّف الأوَّل، أي: الذي يَلي الإمام، أي: «مِنَ الخيْرِ والبَرَكَةِ»؛ كما في رِوايةِ أبي الشَّيْخِ(2).
          وقالَ الطِّيْبِيُّ(3): أطْلَقَ مفعول (يَعْلَمُ) وهو (مَا)، ولم يُبيِّن الفضيلةَ ما هي ليفيد ضَرْباً من المبالغة، وأنَّه ما لَا يدخل تحت الوَصْفِ والإطْلاق في قَدْرِ الفضيلةِ؛ وإلَّا فقد بيَّن في الرِّواية الأُخرى «الخيْرِ والبَرَكَةِ».
          قوله: (ثُمَّ لَم يَجِدُوا) أي: شيئاً مِن وجوه الأولويَّة، بأن يقعَ التَّساوي بأنْ لم يكن فيهم أحدٌ متَّصفاً بوَصْفٍ يقتضى تقدَّمَه على غيره، من حُسن صَوْتٍ في الأذان، وعَدَم أنوثةٍ في الصَّفِّ.
          ولأبي ذَرٍّ: «ثُمَّ لا يَجِدُوْنَ».
          وفي بعض الرِّواياتِ: «لا يَجِدُوا».
          فإن قلتَ: ما الموجِب لحذف النُّون، مع أنَّه لا ناصب ولا جازِم يقتضي الحذْفَ؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ بعضَهم جوَّز حذْفَ النُّون بدون / النَّاصِب والجازِم.
          وقالَ ابنُ مالكٍ: حَذْفُ نُونِ الرَّفْع في مَوضع الرَّفْعِ لمُجرَّدِ التَّخفيفِ ثابتٌ في الكلام الفصيح نَثْره ونظمه.
          قوله (إلَّا أنْ يَسْتَهِمُوا) أي: لم يَجدوا شيئاً من وُجوه الأولويَّة إلَّا الاستهام، أي: الاقتراع؛ ومنْه قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141].
          قال الخطَّابيُّ(4) وغيرُه: قيلَ لهُ الاستهام؛ لأنَّهم كانوا يكْتبون أسماءَهُمْ على سهامٍ إذا اختَلَفوا في الشَّيء، فمَن خرجَ سَهْمُه غلبَ.
          وزعمَ بعضُهم أنَّ المرادَ بالاستهام هُنا: التَّرَامِي بالسِّهَامِ، وأنَّه خرجَ مخرجَ المبالغةِ، لكن الذي فهمَه البخاريُّ منْه أَوْلى.
          ويدلُّ عَلَيه رِوايةٌ لمسلمٍ [131/439]: «لَكَانَتْ قُرْعَةٌ».
          وقولُه: (عَلَيْهِ) أي: على ما ذكر، ليشمل الأمرَيْن: الأذانَ، والصَّفَ الأوَّل.
          وقالَ ابنُ عبد البَرِّ(5): إنَّها عائدةٌ على (الصَّفِّ الأَوَّلِ) لا على (النِّدَاءِ) وهو حقُّ الكلام؛ لأنَّ الضَّميْر يعودُ لأقْربِ مذْكورٍ.
          ونازعَه القُرْطُبيُّ(6) وقال: إنَّه يلزم منْه أنْ يبقى (النِّدَاء) ضائعاً لا فائدة فيه، قال: والضَّميْرُ يعودُ على معْنى الكلام المُتقدِّم، ومثلُه قَولُه تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] أي: جميع ما ذكر.
          قلتُ(7): وقد رَواه عبد الرَّزَّاق بلفظِ: «لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِما»، فهذا مفصحٌ بالمرادِ مِن غير تكلُّفٍ.
          قوله: (لاسْتَهَمُوْا) أي: لاقْترعوا عليه.
          ولعبد الرَّزَّاقِ، عَن مالكٍ: «اسْتَهَمُوا عَليْهِما»، وهو مُبيِّنٌ _كما تقدَّمَ_ أنَّ المرادَ بقولِه هَا هُنا (عَلَيْهِ) المذْكورُ من الاثنَين.
          قوله: (مَا في التَّهْجِيْرِ).
          قال الإمامُ مالكٌ: التَّهْجِيرُ: إتيانُ المسجدِ للجُمعة في وَقْت الهاجِرة.
          وأمَّا حديثُ التَّبكير [خ¦881]، وهو ما وردَ عن أبي هُريرة، أنَّ رسولَ الله صلعم قال:
          «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجمُعةِ غُسْلَ الجنابةِ، ثُمَّ راحَ في السَّاعة الأُولى فكأنَّما قَرَّبَ بَدَنةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاعة الثَّانيةِ فكأنَّما قرَّبَ بقَرةً، ومَن راحَ في السَّاعةِ الثَّالثة فكأنَّما قَرَّب كَبْشاً أقْرنَ، ومنْ راحَ في السَّاعة الرَّابعةِ فكأنَّما قرَّبَ دَجَاجةً، ومَنْ راحَ في السَّاعة الخامسةِ فكأنَّما قرَّبَ بَيْضَةً.
          فإذا خَرَجَ الإمامُ، حَضَرَتِ الملائكةُ يستمِعونَ الذِّكْرَ».
          فمحمولٌ على التَّبكير أوَّل ساعةٍ من السَّادسة، ويكون المرادُ بالسَّاعة الأُولى الجزْءُ الأوَّلُ مِن السَّادسةِ.
          وأبقاه إمامُنا الأعظمُ على حقيقتِه؛ وهو أنَّ المُرادَ السَّاعةُ الأُولى من أوَّلِ / النَّهار.
          والمراد بالتَّهْجيْر في هذا الحديث: التَّبْكيْرُ إلى الصَّلَواتِ.
          قوله: (لَاسْتَبَقُوْا إلَيْه) أي: إلى التَّهْجير.
          قال ابنُ أبي جَمْرةَ: المرادُ بالاستباقِ معنًى لا حِسّاً؛ لأنَّ المسابقةَ على الأقْدام حسّاً تقتضي السُّرعة في المشْي، وهو ممنوعٌ منْه. انتهى.
          وإنَّما عبَّر هنا بالاستباق وفيما قبله بالاستهام؛ لأنَّ التَّزاحمَ المقتضي للاقتراع موجودٌ في الصَّفِّ الأوَّل والنِّداءِ، وغيرُ موجود في التَّهْجير؛ لأنَّ الزَّمان ظرفٌ يسع القليلَ والكثيرَ.
          قوله: (وَلَوْ يَعْلَمُوْنَ مَا في العَتَمَةِ) أي: صلاة العشاءِ.
          وقوله: (وَالصُّبْحِ) عطفٌ على (العَتَمَةِ)، أي: لو يعلمون الثَّوابَ الحاصِل في صلاتهما مع الجماعة، (لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً).
          وتسميةُ العشاءِ عتمة إشارة إلى أنَّ النَّهْيَ الواردَ ليس للتَّحْريم، بل لكراهة التَّنزِيه.
          واعلمْ أنَّه لا يلزم مِن جعلهما سواء في المُبادرة إليهما استواؤُهُما في الأجْرِ؛ فلا يردّ أنَّه ╕ قال: «مَنْ شَهِدَ العَتَمَةَ(8) فكأنَّما قامَ نِصْفَ اللَّيل، ومن شَهِدَ الصُّبْحَ فكأنَّما قامَ اللَّيلَ(9) كُلَّهُ».
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: الاستهام في الأذانِ.


[1] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[2] في الأذان كما في الفتح 2/56.
[3] شرح المشكاة 3/897.
[4] أعلام الحديث 1/462.
[5] الاستذكار 1/378.
[6] المفهم 2/65.
[7] قاله ابن حجر 2/97 ولم أجد فيه بهذا اللفظ.بل فيه (عليه) 2007.
[8] مسلم 260/656 بلفظ (العشاء) وأما بلفظ (العتمة) فهو في مصنف عبد الرزاق 2009.
[9] قوله: «ومن شهد الصبح فكأنما قام الليل» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».