حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة

          1- قولُه: (عَنْ عَائِشَةَ) [خ¦3] بالهمْزِ، وعَوامُّ المُحدِّثين يُبدلونها ياءً.
          وسمِّيت بذلك إشارة إلى دوامِ معيشتِها وحياتِها فلا تموت صَغيرةً، وكانتْ أعلمَ زَوجاتِه صلعم، وكان النَّبيُّ صلعم يحبُّها كثيراً، وعقدَ عليها وهي بنت سِتِّ سنين، ودخلَ بها وهي بنت تسع سنين، ومكثتْ مَع المُصطفى صلعم عشرَ سنين.
          قوله: (أُمِّ المُؤْمِنِيْنِ) أي: والمؤمنات، فَفيه تغليبُ الذُّكور على الإناثِ؛ قالَه بعضُهم، لكن صحَّ عنها(1) أنَّها قالت: «أَنا أُمُّ رِجالِكُم لا أُمُّ نِسائكُم»؛ وكذلك باقي أزْواجه أُمَّهات المؤمنين وإنْ لم يدخل بهنَّ، وتقييدُ الشَّارحِ الأُجْهُوريِّ بالمَدخول بهنَّ لعَلَّه مَذْهبُه.
          قالَ العلَّامةُ المَلَّويُّ: وكذا مَن جامعهنَّ منْ إمائه، والمرادُ: أُمُّ المؤمنين في الاحْترام والتَّعْظيمِ وحُرْمة التَّزوُّج، لا في جوازِ الخَلْوةِ بهنَّ وتحريمِ بناتهنَّ وجوازِ النَّظَرِ إليهنَّ بغير شهوةٍ وعدم نقضِ الوضوءِ.
          قوله: (أنَّهَا قَالَتْ) هذا الحديثُ يحتملُ أنَّه مَوقوفٌ؛ فإنَّ عائشةَ لم تُدْرِك هذه القصَّةَ، ويحتملُ _وهو الظَّاهر_ أنَّه موصولٌ، وأنَّها سمعتْ ذلك الحديثَ منَ النَّبيِّ صلعم حين أخْبَرَها بعد ذلك لقولِها في الحديث: «قَالَ: فأَخَذَنِي».
          قوله: (أوَّلُ مَا بُدِئَ...) إلى آخره، (أوَّلُ) مبتدأٌ، و(مَا) موصولةٌ أوْ نكرةٌ، و(بُدِئَ) صفةٌ أوْ صِلَةٌ، و(مِنَ الوَحْيِ) بَيانٌ ﻟ (ما)، و(الرُّؤْيَا) خَبَرٌ، أيْ: أوَّلُ الذي _أوْ: شيءٍ_ بُدِئ به مِن الوحي الرُّؤيا... إلى آخرِه.
          قوله: (بُدِئَ) بضَمِّ الباءِ، أيْ: بدأَه اللهُ تعالى بِه لمَّا أرادَ إرسالَه.
          قوله: (مِنَ الوَحْيِ) يحتملُ أن تكون (مِنْ) تبعيضيَّة، أي: مِن أقسام الوَحْي.
          ويَحتملُ أن تكون بَيانيَّة.
          والوَحْيُ لُغةً: الإعلامُ في خفاءٍ، وفي الشَّرْع: إعلامُ الله تعالى أنبِياءه بالشَّيءِ، إمَّا بكتابٍ كالتَّوْراةِ، أَوْ برسالةِ مَلَكٍ كجِبْريلَ، أوْ بمَنامٍ كالرُّؤيا الصَّالحة المذكورةِ في الحديث، أو بإلْهامٍ أو غيرها.
          وقد يجيءُ بمعنى الأمْرِ، نحو: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي} [المائدة:111]، أي: أمرتهم.
          وبمعْنى التَّسْخير، نحو: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]، أي: سخَّرَها لهذا الفِعْل وهُو اتِّخاذها من الجبالِ بُيوتاً، وقد يُعبَّر عن هذا التَّسخيْر بالإلهامِ، والمرادُ بإلهامِها: هِدايتُها ودَِلالتُها على هذا الأمْرِ؛ وإلَّا فالإلْهامُ حقيقةً _وهو إلقاءُ معنًى في القلْب يَثْلُجُ، أي: يطمئن وينشرح له الصَّدْر والخاطِر_ / لا يكون إلَّا للعاقِل.
          وبمَعنى الإشارة، نحو: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11].
          وقد يُطْلَق على المُوحى به.
          تَنْبيهٌ:
          قال الشَّاميُّ في «سِيْرته»(2): وأنواعُ الوَحْي ثمانيةٌ:
          الأوَّلُ: الرُّؤيا الصَّادقة في النَّوْم، وقد جاءَ في «الصَّحيح»: «رُؤْيا الأنْبِياءِ وَحْيٌ»، قالَ تعالى في حَقِّ إبراهيمَ: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].
          الثَّاني: الإلْهامُ، وهو أنْ يَنْفَثَ الملَكُ في رُوْعِه _أي: قَلْبِه_ مِن غيرِ أنْ يراهُ، كما قالَ ╕:
          «إنَّ رُوحَ القُدُس نَفَثَ في رُوْعي _أيْ: إنَّ جِبْريلَ نفَخَ في قَلْبِي_ لَن تموتَ نَفْسٌ حتَّى تستكمِلَ رِزْقَها وأَجَلَها، فاتَّقوا اللهَ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ _أَي: لا تجتهدوا في طَلَب الرِّزْق، بلِ اطْلبوا الرِّزْقَ الحلالَ بقَدْر الحاجةِ_ ولا يحملنَّكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ على أنْ تَطْلُبوه بمَعْصيةِ الله؛ فإنَّ ما عِنْد الله لا يُنالُ إلَّا بطاعَتِه».
          الثَّالث: أنْ يأتيَه مِثْل صَلْصَلَةِ الجرَسِ، أي: مثل صَوْتِه في القوَّة، وهو أَشدُّه كما في حديثِ عائشةَ [خ¦2]: إنَّ الحارِثَ بنَ هِشامٍ ☺ سألَ رسولَ الله صلعم: كيفَ يأتيك الوَحْي؟ فقال صلعم:
          «أحْياناً يأْتِيني مثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ هو أشَدُّه عليَّ، فيُفْصَمُ عَنِّي وقَد وَعَيْتُ ما قالَ، وأحْياناً يتمثَّلُ لي الملَكُ رجُلاً فيُكلِّمُني فأَعِي ما يقولُ».
          ويفْصَمُ بمعنى: يَزُول ولا يبقى شيءٌ، أي: يذهب عَنِّي مشقَّةُ الملَك، و«يتَمثَّلُ» بمعنى: يتصوَّر بصُوْرة رجُلٍ منَ الصَّحابة، بحيث يتداخل بعضُه في بعضٍ.
          الرَّابع: أن يكلِّمَه اللهُ بلا واسطةٍ منْ وراءِ حجابٍ في اليَقَظة، كما في ليلة الإسْراء، على القَول بعَدَمِ الرُّؤية، وكما وقَعَ لمُوسى ╕.
          الخامس: أن يكلِّمَه اللهُ في اليقَظَة من غير واسطة حجابٍ، كما في ليلة الإسراء، على القول الرَّاجح مِنْ أنَّ النَّبيَّ صلعم رأَى رَبَّه بعَيْنَي رأْسِه.
          السَّادِس: أنْ يُكلِّمَه اللهُ في النَّوْم، كما في حديث مُعاذٍ عِنْد التِّرْمذيِّ [3235]: «أَتاني رَبِّي في أحْسن صُوْرة فقال: فيمَ يَختصمُ الملأُ الأعلى؟ فقلتُ: لا أدْري، فوضعَ كفَّه بين كتِفيَّ فوجدْتُ بَرْدَها في ثَنْدُوَتَيَّ _تَثْنيةُ ثُنْدُوَةٍ، وهي مَغْرَزُ الثَّدْي_ وتجلَّى لي عِلْمُ كُلِّ شيءٍ فقال: يا محمَّد فِيمَ يختصمُ الملأ الأعلى؟ فقلتُ: في الكَفَّارات، فقال: وما هي؟
          قلتُ: الوُضُوْءُ عِنْدَ الكَرِيْهاتِ، ونقْلُ الأقْدامِ إلى الجماعات، وانتظارُ الصَّلَوات بعْدَ الصَّلواتِ؛ فمَن فعَلَ ذلك عاشَ حَميْداً وماتَ شهيداً وكان مِن ذِنْبه كيوم ولَدتْه أُمُّه».
          والمرادُ باختصام الملإ الأعلى في الحديث: تَغالُبُهم في كِتابة الثَّوابِ، والمرادُ ﺑ «الوُضُوْءُ عِنْدَ الكَرِيْهَاتِ»: الوضوءُ في شدَّة البَرْد، فإذا فعلَ الإنسانُ تلك الأشياء تغالبَتِ الملائكةُ على كَتْب الثَّواب.
          السَّابع: مجيءُ الوَحْي كدَوِيِّ النَّحْلِ، كما / وردَ عَن عُمر(3) قال: «كانَ رسولُ الله صلعم إذا نزل عليه الوَحْي يُسْمعُ عنده دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحْلِ».
          الثَّامن: العِلْمُ(4) الذي يلقيه اللهُ في قلْبِه وعلى لسانِه عِنْد الاجتهاد في الأحْكام.
          فهذا القِسْمُ هو غير النَّفث.
          هذا ما ذكَرهُ الشَّاميُّ، وبقيَ عليه مِن أقْسام الوَحْي ما كان بكتابٍ كالتَّوْراة، وقد سبقَ في تعريف الوَحْي ما يُفيد ذلك. انتهى.
          قوله: (الرُّؤْيَا) حقيقتُها إدْراكٌ يقومُ بجُزءٍ منَ القلْب لا يحلُّه النَّوم، وهذا في غير الأنبِياء، أو: هو بالنَّظَر إلى مطلق قلب بقطع النَّظَر عن كونه قلب نَبِيٍّ.
          أمَّا الأنبِياءُ، فالنَّومُ لا يستولي على قُلوبهم ولا على جُزءٍ منها، وكانتْ مُدَّةُ الرُّؤيا ستَّةَ أشهر كما ذكَره البَيْهقيُّ(5).
          قالَ العُلماء: وإنَّما ابتدأَ اللهُ تعالى النَّبيَّ صلعم بالرُّؤيا؛ لأنَّه لو لم يبتدِئْهُ بالرُّؤيا وفَجَأَهُ الملَكُ وأتاهُ بغتةً لم يُطِقْ ذلك، ولم ينزلْ عليه شيءٌ منَ القرآن في النَّوْم، بلْ نزلَ كلُّه يقظةً.
          قوله: (الصَّالِحةُ) أي: الصَّادِقةُ، وقوله (في النَّوْمِ) زادَه لزيادة الإيضاحِ أوْ لدفعِ تَوهُّم أنَّ المرادَ رُؤيا العَيْن في اليقَظةِ.
          قوله: (مِثْلَ) بالنَّصْبِ على الحالِ مِن فاعِل «جاءَتْ»، أي: مُشبهةً فَلَقَ الصُّبْح، أوْ على أنَّه صفةٌ لمصْدَرٍ محْذوفٍ، أي: جاءَتْ مَجيئاً مثلَ فَلَقِ... إلى آخرِه.
          وقولُه: (فَلَقِ الصُّبْحِ) أي: ضياءِ الصُّبْح، وخُصَّ بالتَّشْبِيه لظهورِه الواضح الذي لا يشك فيه.
          قال في «المختار»: الفَلَقُ بفتحتَين: الصُّبْحُ بعَيْنِهِ. [انتهى](6).
          وعَلَيه؛ فتكونُ الإضافةُ للبَيان. وقالَ البِرْماويُّ في «شرح البُخاريِّ»(7): أي: كضَوْءِ النَّهارِ.
          قوله: (ثُمَّ حُبِّبَ) لم يُسمَّ فاعِلُه لعدمِ تحقُّق الباعثِ على ذلك، أوْ ليُنبِّه على أنَّه لم يكُن مِن باعَثِ البَشَرِ.
          قوله: (الخَلَاءُ) بالمَدِّ، مصدرٌ بمعنى: الخَلْوة، أي: الاخْتِلاء، والسِّرُّ فيه إنَّ في الخلْوة فَراغ القلْبِ لما يتوجَّه له، وهذا هو أصلُ الخلْوة الواقعةِ من أهلِ السُّلوك، أي: دليلُها.
          قوله: (بِغَارِ حِرَاءٍَ) الغارُ: هُو النَّقبُ في الجبَلِ، وجمعُه: غِيْرَانٌ، و«حِرَاءٌ» بكسرِ الحاءِ المُهمَلة مَع المدِّ والقَصْر، وبالتَّنْوين وعَدَمِه؛ فَفيه أربعُ لُغاتٍ.
          وفيْه الصَّرْفُ وعَدَمُه، فإنْ أُريد به البُقْعة مُنعَ منَ الصَّرْف، وإن أُريد به المكان صُرِف، وكذا قُباءُ، قال بعضُهم نظماً:
حراً وقُباً ذَكِّر وأَنِّثْهُمَا مَعاً                     ومُدَّا وَاقْصِرْ وَاصْرِفْ إنْ شِئْتَ وامْنَعا
          وهو جبَلٌ بينَه وبينَ مكَّة نحو ثلاثة أمْيال على يسارِ الذَّاهبِ إلى مِنًى، وهو المشهورُ الآن بجبلِ النُّوْر، وهو منْ جِبالِ الجنَّة.
          والرِّوايةُ بالمدِّ وكَسْرِ أوَّلِه.
          وفي رِوايةِ الأصيليِّ بالقَصْر والفَتْحِ.
          قوله: (فَيَتَحَنَّثُ) عطْفٌ على (يَخْلُو).
          قوله: (وَهُوَ) أي: التَّحنُّثُ المفهومُ مِن يتَحنَّثُ، وهذه الجملةُ مُدْرَجةٌ منَ الزُّهْريِّ راوي الحديْث، لا منْ عائشةَ.
          قوله: (التَّعَبُّدُ) لم يأْت تصريحٌ بصفةِ تَعبُّدِه / ╕ بذلك الغار، فيحتملُ أنَّه أطْلق في الحديث التَّعبُّد على مجرَّد الخلْوة؛ فإنَّ العُزلةَ عن النَّاس عِبادةٌ خُصوصاً عنِ الكفَّار.
          وقيل: كان يتعبَّد بالتَّفكُّر في مصْنوعاتِ الله تعالى.
          وقيل: كان مُتعبِّداً بشريعة مَن قَبْلَه.
          والصَّحيحُ الوَقْفُ.
          وعبارة «جَمْع الجوامِع»(8): واخْتلفوا هلْ كان المُصطَفى ╕ مُتعبِّداً قبل النُّبوَّة بشرعٍ.
          واختلف المثبِّت، فقيل: نُوح.
          وقيل: إبراهيم.
          وقيل: مُوسى.
          وقيل: عيسى.
          وقيل: بشَرْعٍ مِن غيرِ تَعْيين نَبِيٍّ.
          هذه أقوال، المُختارُ الوَقْفُ، والمُخْتارُ بعْدَ النُّبوَّة المنعُ. انتهى.
          قوله: (اللَّيَالِي) منصوبٌ على الظَّرفيَّة، متعلِّقٌ بالفِعْل: وهُو يتَحنَّثُ، لا بالمصْدَر: وهُو التَّعبُّد، وإلَّا لاقْتضى أنَّ التَّحنُّثَ هو التَّعبُّدُ المقيَّد باللَّيالي، وليس كذلك؛ بلْ هو مُطلق التَّعبُّد.
          وأقلُّ الخلْوةِ ثلاثةُ أيَّام، ثمَّ سبعة، ثُمَّ شَهْر وهو الذي تمَّ به السُّلُوكُ للنَّبيِّ صلعم، والمرادُ: اللَّيالي مَع أيَّامِها، وإنَّما خصَّ اللَّيالي لأنَّ تمامَ الاخْتلاءِ يكونُ بِها.
          قوله: (ذَوَاتِ العَدَدِ) صفةٌ ﻟ (اللَّيَالِي) منْصوبٌ بالكسرةِ، وأتى به بعد (اللَّيَالِي) إشارة إلى كثرة تلْك اللَّيالي، وإبهامُ العدد لاختلافِه، كذا قيل.
          وهو بالنِّسبة إلى المُدد التي يتخلَّلها مجيئه إلى أهلِه، وإلَّا فأصلُ الخلْوةِ قد عُرفت مُدَّتها وهو شهر، وذلك الشَّهْرُ كان رَمَضانَ، رَواهُ ابنُ إسحاقَ. انتهى.
          قوله: (يَنْزِعَ) بفَتْح أوَّلِه، ثمَّ نُونٌ ساكنة، ثمَّ زاي مكْسورةٌ، بمعنى: يذْهَب ويشتاقُ.
          قال في «المصباح»: نَزَعَ إلى الشَّيءِ نِزَاعاً: ذَهَبَ إلَيه واشْتاقَ، وهُو من بابِ ضَرَبَ. انتهى.
          وقال في «المختار»: نَزَعَ إلى أهْلِه يَنْزِعُ _بالكَسْر_ نِزَاعاً، ونَزَعَ عن كَذا: انْتَهى عنْه، وبابُه جَلَسَ. انتهى.
          قوله: (إلى أَهْلِهِ) متعلِّقٌ ﺑ (يَنْزعَ)، والمرادُ بهم: عِيالُه.
          قولُه: (وَيَتَزوَّدُ) معْطوفٌ على (يتَحنَّثُ)، أو على (يَخْلُو)، لا على (يَنْزعَ) فهو مرفوعٌ، أي: يتَّخذ زاداً.
          وكان زادُه الكَعْكَ والزَّبيْبَ(9).
          وقوله: (لِذلِكَ) أي: المذكُور منَ الخلَاءِ والتَّعبُّد.
          قوله: (ثمَّ يَرْجِعُ) عَطْفٌ على (يتَحَنَّث)، وهذا يدلُّ على أنَّ السُّنَّة عدمُ دوام الانقطاعِ عنِ الأهْلِ، أي: يَرْجعُ من الغار (إلى خَدِيْجةَ فيَتَزوَّدُ) أي: يتَّخذ زاداً، وهو عطفٌ على (يَرْجعُ)، وقوله: (لمثْلِها) أي: اللَّيالي، متعلِّقٌ ﺑ (يَتَزوَّد).
          قوله: (حَتَّى جَاءَهُ) غايةٌ لقولِه (يتَحَنَّث).
          وفي رِوايةٍ «حَتَّى فَجِئَهُ» بكسرِ الجيمِ المُعْجَمة، كما في «المختار»، أي: بَغَتَه، أي: جاءَهُ بَغْتةً.
          وكانَ المجيءُ لستَّة عشر يوماً خلَت منْ رَمَضانَ، وهُو صلعم ابنُ أرْبعين سنة.
          قوله: (الحقُّ) صِفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، والتَّقديرُ: الأمْرُ الحقُّ، وقوله: (وهو في غار حِرَاءٍ) جملةٌ حاليَّةٌ مِن مفعولِ الفِعْل قَبْلَه.
          قوله: (فَجَاءَهُ المَلَكُ) هذه / الفاءُ تفسيريَّة كما في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54]، فقولُه: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} تفسيرٌ لقولِه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}؛ لأنَّ التَّوبةَ كانتْ في الأُمم الماضية بالقَتْل، وليستِ الفاءُ التَّعْقيبيَّة؛ لأنَّ مَجيءَ الملَكِ ليس بعد مجيءِ الوَحْي حتَّى يعقب به، بلْ هُو نفسه، ولا يلزم مِن هذا التَّقرير أن يكون مِن باب تفسير الشَّيءِ بنفسِه، بلِ التَّفسيرُ غير المفسَّر به منْ جهة الإجمالِ وجِهة التَّفصيلِ.
          قوله: (المَلَكُ) أي: وهُو جِبْريلُ، وهو بفتح اللَّام، واحِدُ الملائكةِ، بخلافِ الملِك بكسرِها فإنَّه أَحَدُ مُلُوكِ الأرضِ، ومِن ثمَّ قيل: الأعْلى للأَعلى، والأَسفلُ للأسْفلِ.
          قوله: (اقْرَأْ).
          فإنْ قلْتَ: كيف يأمُرُه بالقراءة مَع عِلْمه بأنَّه ليس بقارئٍ؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ المعنى: تَهيَّأْ للقراءة وتفرَّغْ لها، لا: أوجد القراءة، وذلك كقول المُعلِّم للوَلَد المُتعلِّم: تربَّع واقْرأْ.
          قوله: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) أي: القراءةُ منفيَّة عنِّي.
          والحاصلُ: إنَّ (مَا) الأُولى للنَّفي المشوب بالامْتناع، فكأنَّه قال: القراءةُ منفيَّةٌ عنِّي وأنا ممتنعٌ منها أيضاً، والثَّانية للنَّفي المحض، والثَّالثة للاستفهام.
          وقيل: إنَّ (مَا) للاسْتفهام، وضُعِّفَ بدُخول الباءِ الزَّائدة في خَبَرها؛ إذ ما قبلها مثبتٌ، ولا تُزاد الباءُ إلَّا في النَّفي.
          وأُجِيْبَ بأنَّ الأَخْفَشَ جوَّز زيادَتَها في الخبَر المثبتِ.
          وممَّا يدلُّ على أنَّها استفهاميَّةٌ رِوايةُ ابنِ الأسودِ في «مَغازيه» عن عُرْوةَ أنَّه قال: «كيف أقرأ»، ورِوايةُ عُبيدِالله بنِ عُمَرَ(10) عِنْد ابنِ إسْحاقَ(11): «ماذا أقْرأ».
          ويدلُّ للنَّفي رِوايةُ: «مَا أُحْسِنُ أنْ أقْرَأَ».
          قوله: (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم، وقوله: (فأَخَذَنِي) أي: الملَك.
          قوله: (فَغَطَّنِي) بالغَيْن المُعجَمة والطَّاءِ المُهْمَلة، أي: ضمَّني وعصرني.
          وفي رِواية الطَّبرانيِّ(12): «فَغَتَّنِي» بالتَّاءِ المثنَّاة فوقُ بَدَلَ الطَّاءِ، أي: خَنَقَني.
          قوله: (بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ) بفتْحِ الجيْمِ، ونصبِ الدَّال، منصوبٌ على أنَّه مفعولُ (بَلَغَ)، وفاعِلُه ضميرٌ يعودُ على الملَكِ، والتَّقدير: حتَّى بَلَغَ منِّي الملَكُ الجهْدَ.
          و(بَلَغَ) معناهُ: وصلَ، و(الجهْد): القُوَّةُ.
          والمعنى: إنَّ جِبْريلَ غَطَّ النَّبيَّ صلعم حتَّى بلغَ ووصلَ جِبْريلُ قوَّته ولم يبق فيه بقيَّة.
          واستشكل بأنَّ البِنْيةَ البَشَريَّة لا تقوى على ذلك الضَّمِّ، خُصوصاً وهو صلعم في مبدإ أمرِه!؟
          قلتُ: إنَّ جِبْريل حين غطَّه صلعم لم يكُن على صُورته الحقيقيَّة، بلْ كان على صُورة البشَرِ، فاستفرغَ جهده وقوَّته بحسب الصُّورة التي هو عليها حين الغط.
          وأُجيبَ أيضاً بأنَّ قوَّةَ النَّبيِّ صلعم أعظمُ من قوَّة جِبْريل.
          ويُروى «الجُهْدُ» بضمِّ الجيمِ ورفعِ الدَّال على أنَّه فاعلُ (بَلَغَ) والمفعولُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: حتَّى بلغَ الجُهد مَبلغاً عظيماً.
          قال في «الصِّحَاح»: والجَهْدُ بالفتح، والجُهْدُ بالضَّمِّ معناهُما: الطَّاقةُ، وقد قُرئ بالوجهَين قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة:79]، وقالَ الفَرَّاءُ: بالضَّمِّ: الطَّاقةُ، وبالفتح المَشقَّةُ، / يقال: جَهَدَ دابَّته وأَجْهَدَها: إذا حمَّلَها فوقَ طاقَتِها، وجَهَدَ الرَّجُل في كذا: جَدَّ فيه وبالَغَ. انتهى.
          قوله: (ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أي: أطْلَقَني بعد الغطِّ.
          قوله: (فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ) الحِكْمةُ في هذا الغَطِّ إحضارُ قَلْبِه صلعم وتفريغُه من النَّظَر إلى الدُّنيا ليُقبل بكُلِّيَّتِه على ما يُلْقى إليه.
          وكرَّره ثلاثاً للمُبالغة، وللتَّنْبِيه على أنَّ المُعلِّم ينبغي أن يحتاطَ للمُتعلِّم ويُحافظ على تنبيهه وإحضار مجامع قَلْبِه.
          وفي الحدِيث دليلٌ على أنَّ المؤدِّبَ لا يضْرِب أكثرَ من ثلاث ضرباتٍ، وعدَّ بعضُهم هذا منْ خصائصه صلعم؛ إذْ لم يُنقل عن أحدٍ من الأنبِياء أنَّه حصلَ لَه عِنْد ابتداءِ الوَحْي مثلُ ما حصل للنَّبيِّ صلعم.
          قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي: اِقرأْ مُستَعيناً باسم رَبِّك، فلا تقرأ بقوَّتك ولا بمعرِفَتِك، فهو تعالى يعلِّمُك كما خلَقَك، وهذا أوَّلُ ما نزلَ على الإطْلاق.
          وما قيل: أوَّلُ ما نزل سُورة الفاتحة فمَحمولٌ على السُّوْرة التَّامة.
          وما قيل: أوَّلُ ما نزل سُورة المدَّثِّر فمحْمولٌ على الأوَّل بعد فترة الوَحْي.
          قوله: {الْأَكْرَمُ}، أَي: الزَّائدُ في الكَرَم على كُلِّ كريمٍ.
          وكان الأنسبُ للرَّاوي أن يزيد: {بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:4-5]؛ لأنَّ هذه نزلتْ مَع {اقْرَأْ}.
          قوله: (فَرَجَعَ بِهَا) أي: بتلك الآية.
          قوله: (يَرْجُفُ) بوَزْن يَنْصُرُ، أي: يخافُ ويرتعدُ ويضْطرِبُ.
          قال في «المصباح»: رَجَفَ الشَّيءُ رَجْفاً، مِن باب قَتَلَ رَجِيْفاً ورَجَفَاناً: تَحرَّكَ واضْطَرَبَ. انتهى.
          و(فُؤَادُهُ) أي: قلْبُه، فاعِلُ (يَرْجُفُ).
          قوله: (زَمِّلُوْنِي) كرَّرَه مرَّتَين تأْكيداً، أي: لُفُّوني وغَطَّوني بثيابِي؛ لأنَّ العادةَ أنَّ الإنسانَ إذا حصلَ له رِعْدةٌ وغُطِّي سكنت وزالتِ الرِّعْدةُ بالتَّلفيفِ.
          فإنْ قلْت: كيف خاطبَ خَديجةَ بخطاب جمْعِ الذُّكور!؟
          قلت: لا نسلِّم أنَّ الخطابَ لها، ويدلُّ عليه أنَّه لم يقل: فقالَ لها: زَمِّلُوْني، وإنْ سُلِّم أنَّ الخطابَ لخديجةَ فيُجاب بأنَّ خطابَ المفردِ بلفظ الجمْع سائغٌ.
          فإنْ قُلت: السَّائغُ خطابُ المفرد المذكَّر بخطاب جمعِ المُذكَّر لا خطاب المؤنَّثة بجمع المذكَّر!؟
          قلت: إنْ سلم هذا فهي لجزالة عقْلِها وفضْلها(13) نزلت منزلةَ المذكَّر، بلْ ربَّما يقال: نزلت لذلك منزلة الجمْع.
          قوله: (فَزَمَّلُوْهُ) عطفٌ على مُقدَّرٍ، أي: فامتثلوا فزَمَّلُوه.
          قوله: (الرَّوْعُ).
          قال في «المختار»: الرَّوْعُ بالفتح: الفَزَعُ، والرَّوْعةُ: الفَزْعةُ، والرُّوْعُ بالضَّمِّ: القَلْبُ والعقلُ، يقال: وقَعَ ذلك في رُوْعِي، أي: في خَلَدِي وَبَالي، وفي الحديث: «إنَّ رُوْحَ الأَميْن نَفَثَ في رُوْعي»(14)، ورَاعَه مِن بابِ قَالَ. انتهى.
          قوله: (وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ) جُملةٌ حاليَّةٌ مُعترضةٌ بين القَوْلِ ومَقُولِه، وجملةُ «لَقَدْ خَشِيْتُ على نَفْسي» مقولُ القَول، والخبرُ عبارةٌ عن مجيءِ الملَك والغطِّ.
          قوله: (لَقَدْ خَشِيْتُ) جوابُ قسمٍ مُقدَّر، والتَّقديرُ: والله لقد خَشِيتُ على نَفْسي، ومفعول (خَشِيتُ) محذُوفٌ.
          والخشْيةُ / بمعنى الخوْف، والتَّقديرُ: لقد خفْتُ على نفسي الموْت من شِدَّة الرُّعْب أوِ المرض، أو: خشيت أن لا أقْوى على هذا الأمْر ولا أطيقه، وليس معناه أنَّه خشي أن يكون ما أتاهُ ليس مِن عِنْد الله تعالى؛ فإنَّه مُتحقِّق أنَّه مِن عِنْدِه.
          قوله: (كَلَّا) حرْفُ نفْيٍ وإبعادٍ، أي: تباعدْ عن هذا القول ولا تَقُلْه.
          قوله: (مَا يُخْزِيْكَ) وفي رِواية الكِرْمانيِّ(15): «لا يخزيك» وهُو وَهَمٌ، و(يُخْزيكَ) بضَمِّ المثنَّاة التَّحتيَّة، وبالخاءِ المُعجَمة، وبالزَّاي: منَ الخزي، أي: ما يفضحك الله ويهينك.
          ولأبي ذَرٍّ: «مَا يَحزُنكَ» بفتحِ الياءِ وضمِّ الزَّاي، أو بضَمِّ الياءِ وكسرِ الزَّاي وبالنُّونِ وبالحاءِ المُهْمَلة فيهما منَ الحُزْنِ، يقال: حَزَنَه وأَحْزَنَه، وهُما لُغتان قُرئ بهما في السَّبع، والحُزْنُ: الغَمُّ على شيءٍ ماضٍ.
          فالحاصلُ: إنَّ الرِّواياتِ ثلاثةٌ.
          قوله: (إنَّكَ) بكسرِ الهمْزة لوُقوعها في ابتداء الجملةِ المستأنفةِ الواقعة في جواب سؤال مُقدَّر اقْتضتْه الجملةُ السَّابقة، تقديره: ما السَّبب في كون الرَّبّ لا يُخزيه أو لا يَحزُنه؟
          وحاصلُ الجوابِ أن يقالَ: السَّببُ اتِّصافُ المصطَفى صلعم بأُصول مَكارِم الأخلاقِ ومحاسن الأوصافِ؛ لأنَّ الإحسان إمَّا إلى الأقارِب أوْ إلى الأجانِب، وإمَّا بالبدنِ أو بالمالِ، وإمَّا على مَن يستقلُّ بأمْرِه أو مَن لا يستقلّ، وذلك كلُّه مجموعٌ فيما وصفتْه به خديجةُ ╦.
          قوله: (لَتَصِلُ الرَّحِمَ) أي: تُحسن إلى قرابتك، واللَّام للابتداء اقْترنَ بها خبَرُ (إنَّ).
          قوله: (وَتَحْمِلُ الكَلَّ) بفتحِ الكافِ وتشديدِ اللَّام: العاجزُ عنْ تحصيلِ مَصالحِه، الذي لا يَستقِلُّ بنفْسِه ويَحملُه غيرُه عنْه، فهو عِيالٌ على الغَيْر.
          والمعنى: أنَّك تُعينه وتَحمِلُ عنه ما لا يطيقه، أو المرادُ به: الثِّقْلُ _بكسرِ المثلَّثة وإسكانِ القاف_ أي: الأمرُ الشَّاقُّ، والمعنى: وتحمل الأُمور الشَّاقَّة.
          قال في «المختار»: الكَلُّ: العِيَالُ والثِّقْلُ، قالَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل:76]. انتَهى.
          قوله: (وَتَكْسِبُ المَعْدُوْمَ) بفتح التَّاءِ على المشهور والأكْثر والأفصحِ، أي: تُعطي النَّاسَ المعدومَ أيْ الذي لا يجدونه عند غيرك، ﻓ (تَكْسِبُ) متَعدٍّ لمفعولَين، الأوَّل منهما محذوفٌ.
          أوِ المعنى: تكْسِبُ المالَ المعْدومَ، أي: تكسِبُ المالَ الذي يعجز غيرُك عن إصابته، فهو مُتعَدٍّ لمفعولٍ واحدٍ، والعربُ تتمدَّح بذلك.
          وردَّ هذا الثَّاني بأنَّه لا معنى لَه هنا إلَّا بضَمِيْمة أنَّه يجود به.
          ولابن عساكرَ «وتُكْسِبُ» بضمِّ أوَّلِه، أي: تُكْسب غيرَك المالَ المعدومَ، أي: تتبَرَّع له به، أوِ المعنى: وتُكْسِبُ المُعْدِمَ، أي: الفقير، فقد أُطلق المعدوم على المُعْدم مجازاً تنْزيلاً لهذا الفقير منزلة المَعْدومِ. انتهى.
          قوله: (وَتَقْرِي الضَّيْفَ) بفتح أوَّله، والماضي: قَرِيَ، والمصدر: قِرَىً بالكَسْر والقَصْرِ أوْ [قَرَاءٌ](16) بالفَتْح والمَدِّ، وسمعَ بضمِّ أوَّله رُباعيّاً مِن أَقْرَى، والمصدر: إقْرَاءٌ، أي: تُهيِّئ لَه طعامَه وتُنزلَه وتُكْرِمَه.
          قوله: (وتُعِيْنُ على نَوَائبِ / الحقِّ) أي: حَوادِث الحق، أي(17): الحوادِث الحقة، فالإضافة من قَبيل إضافة الموصوف لصفتِه، وإنَّما أضافَ النَّوائب للحَقِّ لتخرج نوائب الباطِل؛ لأنَّها تكون حقة وباطلة.
          أو المعنى: النَّوائب الواقعة من الحقِّ وهو الله تعالى، والمرادُ: تُعين على دفْعِها.
          قوله: (فَانْطَلَقَتْ بِه خَدِيْجَةُ) أي: مضت معَه ومُصاحبةٌ له، فالباءُ للمُصاحَبة، والمصاحبةُ تلزم الفِعْل اللَّازم المتعدِّي بالباء، وهو مذهبُ المُبرِّدِ والسُّهيْليِّ.
          ومذهبُ الجُمهور أنَّ التَّعدية بالباءِ لا تقتضي مُصاحبةَ الفاعِل للمفعولِ.
          قوله: (حَتَّى أَتَتْ بِهِ) غاية ﻟ (انطلقت)، وفاعل (أتتْ) ضميرٌ عائدٌ على خديجةَ، و(وَرَقَةَ) بفتح الرَّاءِ مفعولٌ.
          قوله: (ابنَ عَمِّ) هو بنصب (ابْنَ)، ويُكتب بالألِف، وهو بَدَلٌ مِن (وَرَقَةَ) أو صِفةٌ أو بيانٌ، ولا يجوز جَرُّه؛ فإنَّه يصير صفةً ﻟ (عَبْدِ العُزَّى) وليس كذلك، ولا كتبُه بغير ألِفٍ لأنَّه لم يقَعْ بين عَلَمَيْن.
          قوله: (تَنَصَّرَ) أي: صار نصْرانياً، وكان قد خرجَ هو وزيدُ بنُ عَمْرِو بنِ نُفيلٍ(18) لما كَرِها عِبادةَ الأوْثان إلى الشَّام وغيرِها يسألون عنِ الدِّيْن.
          فأمَّا وَرَقَةُ فأعْجبَه دِيْنَ النَّصرانيَّة فتنَصَّر، وكأنَّه لَقيَ من بقِيَ من الرُّهبان على دِين عيسى ◙ ولم يبدِّل، ولهذا أخبر بشأْن النَّبيِّ صلعم والبشارة به إلى غير ذلك ممَّا أفسدَه أهلُ التَّبديلِ.
          قوله: (الكِتَابَ العِبْرَانيَّ).
          قيل: هو الإنجيلُ. وقيل: التَّوراة.
          والإنجيلُ كان سُرْيانياً.
          وعَن سفيانَ: «ما نزلَ من السَّماء وَحْيٌ إلَّا بالعربيَّة، وكانتِ الأنبِياءُ تترجم لقومِها بلِسانهم».
          قوله: (الإنْجِيْلِ) من النَّجْلِ وهو الإخراجُ؛ لأنَّ الأحكامَ مَنْجُولةٌ منه، أيْ: مُستخرَجةٌ مِنْه، ومنه قولهم: أَنْجَلَ فلانٌ وَلَداً، أي: أخْرَجَه.
          وقيل: الإنْجِيلُ مأخوذٌ من التَّناجِل وهو التَّنازع؛ لأنَّهمُ اختلفوا فيه وغيَّروا وبدَّلوا.
          والإنْجِيْلُ بكَسْر الهمْزةِ، وقرأَه الحسنُ البصريُّ بفَتْحِها، فهو أعْجميٌّ؛ إذْ ليس في العربية أَفْعِيْل بفَتْح الهمْزةِ.
          قوله: (بِالعِبْرَانِيَّةِ) متعلِّقٌ ﺑ (يكتب)، وهي نسبةٌ للعِبْر بكَسْر العين وسُكونِ المُوحَّدة زِيدَ فيه ألِفٌ ونُونٌ على غير قياسٍ.
          قيل: سُمِّيت بذلك لأنَّ الخليْلَ على نبِيِّنا وعليه أفضَلُ الصَّلاة والسَّلامُِ تكلَّم بها لمَّا عَبَرَ الفُراتَ فارَّاً منَ النُّمْروْذِ.
          قوله: (مَا شَاءَ اللهُ) مفعولٌ ﻟ (يكتب)، و(أَنْ يَكْتُبَ) مفعولُ (شاءَ).
          قوله: (مِنَ ابنِ أَخِيْكَ) أرادتْ بذلك الكلامِ تعظيمَ وَرَقَةَ واستعطافَه وحُنُوَّه، أو جرياً على عادة العَرَب من أنَّ الصَّغيرَ يقالُ لَه: ابنُ أَخٍ، والكبِيرَ يقال له: عَمٌّ، وليس ابنَ أخيْه حقيقةً، بل يقدَّر ثلاث مُضافات، أي: مِن ابنِ ابنِ ابنِ ابنِ أَخِيْك، ويقدَّر مضافٌ بين (أَخِي) والكاف، أي: ابن أخي أَبِيك، والمرادُ الأبُ الثَّالث؛ لأنَّ أبا وَرَقَةَ الثَّالثَ أخو أَبِي النَّبيِّ صلعم الرَّابع، وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلعم ابنُ عبدِ الله بنِ عَبْدِ المطَّلبِ بنِ هاشِمِ / بن عَبْد مَناف بن قُصيٍّ، ووَرَقَةَ هُو ابنُ نَوْفَلِ بن أسد بن عبد العُزَّى بنِ قُصيٍّ، فعَبْدُ العُزَّى أَبٌ ثالثٌ لوَرَقَةَ وهو أخو عبد مَناف، وهُما وَلَدَا قُصيٍّ، وعبدُ مَنافٍ أَبٌ رابعٌ له ╕، فالثَّالثُ من آباء وَرَقَةَ وهو عَبْد العُزَّى أَخو الرَّابع من آبائِه صلعم وهو عبد مَناف.
          ولهما أخٌ ثالثٌ يقال له: عبد الدَّار، فقُصيٌّ له أولاد ثلاثة، فمصدوق الابن الأوَّل: محمَّد صلعم، ومصدوق الابن الثَّاني: عبد الله، ومصدوق الابن الثَّالث عبد المطَّلب، ومصدوق الابن الرَّابع: هاشِم، ومصدوق الأخ في قوله (أَخِيك): عبد مَناف، ومصدوق الأب الثَّالث لِوَرَقَةَ هُو عبد العُزَّى.
          وأمَّا خديجةُ فهي بنتُ خُويْلِدِ بنِ أسد بن عبدِ العزَّى، وخُويلدٌ أبوها، ونَوْفلٌ أبو وَرَقَةَ أخوان؛ لأنَّهما وَلَدا أَسدٍ، فوَرَقةُ ابنُ عَمِّها؛ فلذلك قالتْ لَه: (يا ابنَ عَمِّ اسْمَعْ...) إلى آخرِه.
          قوله: (مَاذا تَرَى) فيه حذْفٌ يدلُّ عليه سياقُ الكلام، وقد صُرِّحَ به في «دلائل النُّبوَّة» لأبي نُعيمٍ بسَندٍ حَسَنٍ إلى عبدِ الله بن شَدَّاد في هذه القصَّة قال: «فأَتتْ به وَرَقَةَ ابنَ عَمِّها فأخْبَرَتْه بالذي رأى». انتهى.
          فالمحذوفُ قولُه في هذه الرِّواية «فأخْبرته بالذي رأَى»، و(ما) اسمُ استفهامٍ مُبتدأٌ، و(ذا) مَوصولةٌ خَبَرٌ، وجملةُ (تَرَى) صِلَةٌ، والعائدُ محذوفٌ، وحذفه لأنَّه منصوبٌ بفِعْلٍ، قال في «الخُلاصة»:
.........................                     والحذْفُ عندهُم كثيرٌ مُنْجَلِي
في عائدٍ مُتَّصِلٍ إنِ انْتَصَب                     بفِعْلٍ... البيتَ.
          قوله: (خَبَرَ مَا رَأَى) أي: خَبَر الذي رآهُ من الملَك والغَطِّ المتقدِّم.
          قوله: (هذا النَّامُوْسُ) أشارَ بقولِه (هذا) إلى الملَك الذي ذكَره النَّبيُّ صلعم في خَبَره، و(النَّامُوْسُ) المرادُ به: جِبْريلُ؛ لأنَّ اللهَ خصَّه بالغَيْب.
          قيل: هو صاحبُ السِّرِّ مُطْلقاً.
          وقيل: صاحبُ سِرِّ الوَحْي.
          وقيل: أصلُ النَّامُوْسِ صاحِبُ الخيْر، ضِدُّ الجاسُوْسِ فإنَّه في الشَّرِّ.
          قال في «المختار»: نامُوْسُ الرَّجُلِ صاحِبُ سِرِّهِ الذي يُطْلِعُه على باطِنِ أَمْرِهِ ويَخُصُّهُ بما يَسْتُرُه عن غَيْره، وأهلُ الكتابِ يُسمُّونَ جِبْريلَ ◙ النَّامُوْسَ. انتهى.
          فكلامُه ظاهرٌ في القول الأوَّل، وهو الصَّحيحُ الذي عليه الجُمهور.
          قوله: (الَّذِي نَزَّلَ اللهُ) بفتح النُّونِ، وتشديدِ الزَّاي.
          وفي رِوايةِ الكُشْمَيْهَنيِّ: «أَنزَلَ اللهُ».
          فيُستعمل الأوَّل فيما نُزِّلَ مُنجَّماً _أي: مُفرَّقاً_، فهو يدلُّ على التَّكرير غالباً، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]، أي: شيئاً بعد شيءٍ، وقال: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97]، ومنْ غير الغالِب استعمالُه فيما نزل جُمْلةً واحدةً؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32].
          ويُستعمل الثَّاني فيما نُزِّل جملةً، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]؛ لأنَّه نُزِّلَ فيها إلى سماء الدُّنيا دفعةً واحِدةً.
          قوله: (على مُوْسَى).
          فإنْ قلتَ: إنَّه نصرانيٌّ مِن قَوْم عيْسى، فلمَ قال (على مُوسى) ولم يقل: على عيسى!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ كتاب مُوسى مشتملٌ على أكثر الأحكام، فهو كثيرُ الشَّبَه بكتابِنا. /
          وأُجِيْبَ _أيضاً_ بأنَّ موسى بعث بالنَّقْمة على فِرْعَونَ ومَن تبِعَه بخلافِ عيسى، وكذلك وقعتِ النِّقْمة على يدِ النَّبيِّ صلعم لفِرْعونَ هذه الأُمَّة _وهو أبو جَهْلِ بنُ هِشامٍ_ ومَن معه ببَدْرِ لعَنَهم اللهُ تعالى.
          وأُجِيْبَ _أيضاً_ بأنَّ نزولَ جِبْريلَ ◙ على مُوسى متَّفقٌ عليه بين أهل الكتابَيْن بخلاف عيسى؛ فإنَّ كثيراً من اليهود يُنكِرون نُبوَّته، ومن لازم ذلك إنكارُ نزولِ جِبْريل عَلَيه.
          قوله: (يَا لَيْتَنِي).
          (يا) حرفُ تَنْبيهٍ أو نِداء، والمُنادى محذوفٌ، أي: يا نفسي ليتَني، فجرَّد مِن نفسه شخصاً فناداهُ.
          و(لَيْتَ) مِن أخوات إنَّ، نونُها للوقاية، والياءُ اسمُها.
          و(فِيْهَا)، أي: في النُّبوَّة، أي: في زمنِها مُتعلِّقٌ ﺑ(جَذَعاً)، و(جَذَعاً) منصوبٌ في رِواية غير الأصيليِّ وأبي ذَرٍّ، وهي أكثرُ وأشهرُ، ونصبُه على أنَّه خبر كان المقدَّرة والجملةُ خبرُ (لَيْتَ).
          وقيل: مَنْصُوبٌ بفِعْلٍ مُقدَّرٍ، والتَّقْديرُ: جَذَعْتُ جَذَعاً، والجملةُ خَبَرُ (لَيْتَ).
          وقيل(19): النَّصْب على الحالِ إذا جعلتَ (فِيْهَا) خبر (لَيْتَ)، والعامل في الحال ما تعلَّق به الخبرُ من معنى الاستقرار.
          وقيل: منصوبٌ ﺑ (لَيْتَ) على أنَّه خَبَرٌ بناءً على أنَّها تنصبُ الجزأَيْن.
          وفي رِوايةٍ لأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: «جَذَعٌ» بالرَّفع على أنَّه خبرُ (لَيْت).
          والجذَعُ بفتح الجيمِ والذَّال المُعجَمة: هو الصَّغير منَ البهائم، واستعير هنا للشَّاب، كأنَّه تمنَّى أن يكون عند ظهورِ الدُّعاءِ إلى الإسلام شاباً ليكون أمكنَ لنَصْرِه، وبهذا تبيَّن سِرُّ وصْفِه بكَونه كبِيراً أعْمى.
          قوله: (لَيْتَني أَكُوْنُ) بإسقاط حرفِ النِّداءِ.
          وفي رِواية: «يا لَيْتَني».
          وقولُه (إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) معمولٌ ﻟ (أَكُوْنُ) بناءً على مذْهَب ابنِ مالكٍ مِن أنَّ الفِعْل المستقبلَ يعملُ في إذْ، كما في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39].
          وعبارةُ ابنِ مالكٍ فيه استعمالُ إِذْ في المستقبل، كإذَا، وهو صحيحٌ، وغفلَ عنه أكثرُ النُّحاة، وهو كقوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} ، وأقرَّه عليه غيرُ واحدٍ.
          وتعقَّبه شيخُ الإسلام(20) بأنَّ النُّحاةَ لم يغفلوه، بلْ منعوا ورُودَه وأوَّلوا ما ظاهره ذلك، وقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدَّالة على المضي لتحقق وقوعِه، فأنزلوه منزلةَ الماضي.
          ويقوِّي ذلك هُنا أنَّ في رِواية البُخاريِّ في التَّعبير: «حِيْنَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ».
          وعِنْد التَّحقيق ما ادَّعاه ابنُ مالكٍ فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيرُه فيه ارتكاب مجاز، ومجازُهم أوْلى لما ينبني عليه من إيقاع المستقبل في صُورة المضي تحقيقاً لوُقوعِه أوِ استحضاراً للصُّورة الآتية. انتهى.
          وفي هذا التَّمنِّي دليلٌ على جوازِ تمنِّي المستحيل إذا كان في فِعْل خيرٍ؛ لأنَّ وَرَقَةَ تمنَّى أن يعودَ شاباً وهو مُستحيلٌ عادة.
          قال الحافظ ابنُ حَجَرٍ(21): ويظهر لي أنَّ التَّمنِّي ليس مقصوداً على بابِه، بلِ المرادُ مِن هذا التَّنبِيهُ على صحَّة / ما أخبر به، والتَّنويهُ بقوَّة تصديقِه فيما يجيء به. انتهى.
          قوله: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ) بفَتْح الواوِ وتشديدِ الياءِ وفتحِها، جمعُ مَخْرَجٍ، والهمْزةُ للاستفهام.
          فإنْ قلْتَ: الأصلُ أن يجاءَ بالعَطْف قبل أداةِ الاستفهامِ، كما في قولِه تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[الأنعام:95] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [تكوير:26]!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ الهمْزة خُصَّت بالتَّقديم على العاطِف لأصالَتِها في الاستفهام.
          قالَ الزَّمَخْشَريُّ: إنَّ الهمْزةَ في محلِّها والعطْفَ على جملة مقدَّرة بعد الهمْزة، والتَّقديرُ هنا: أمُعادِيَّ هُم ومُخْرجِيَّ هُم!؟(22)
          وجملةُ (مُخْرِجِيَّ هُمْ) من المبتدإ المؤخَّر والخبرِ المقدَّم عطفٌ على جملة الاستفهام قبلها، منْ عَطْفِ الإنشاءِ على الإنْشاءِ.
          وأصلُ (مُخْرِجِيَّ): مخرجون لي، فحذفتِ النُّون للإضافة واللَّامُ للتَّخفيف، فصار: مخرجوي، اجتمعتِ الواوُ والياءُ وسبقتْ إحداهُما بالسُّكون قلبت الواوُ ياءً وأُدغمتِ الياءُ في الياءِ وقلبت الضَّمَّة كسرةً لتصح الياء، فهو مرفوعٌ بالواوِ المنقلبة ياء المدْغَمة في ياء المتكلِّم.
          واسْتَبْعَدَ النَّبيُّ صلعم أنْ يُخرجوه، لأنَّه لم يقم به سببٌ يقتضي الإخراجَ لما اشتمل عليه من مكارِم الأخلاقِ التي تقدَّمَ مِن خديجةَ وصْفُها.
          قوله: (قَالَ: نَعَمْ) أي: هُم مُخْرِجُوكَ.
          وقوله: (لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ) الجملةُ تعليلٌ لقولِه (نَعَمْ).
          قوله: (إلَّا عُوْدِيَ)، وفي رِواية يُونسَ في التَّفسير [خ¦4953]: «إلَّا أُوْذِيَ»، فذَكَر وَرَقَةُ أنَّ العِلَّة في ذلك مجيئُه لهم بالانتقالِ عنْ مألوفِهم.
          قوله: (وَإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ).
          (إنْ): شرْطيَّةٌ، والذي بعدها مجزومٌ بها، و(يَوْمُكَ) بالرَّفع فاعلُ (يُدْرِكْ)، أي: يوم إخْراجِكَ، ولما كان وَرَقَةُ سابقاً واليوم مُتأخِّراً أَسْندَ الإدْراكَ لليوم؛ لأنَّ المتأخِّر هو الذي يدرك السَّابقَ.
          قوله: (أَنْصُرْكَ) مجزومٌ جواباً للشَّرط، وقوله (نَصْراً) مفعولٌ مُطْلقٌ مبيّن للنَّوع لوصفِه بقوله (مُؤَزَّراً) بضمِّ الميمِ وفتْحِ الهمْزةِ والزَّاي المشدَّدة، أي: قوِيّاً، مأخوذٌ من الأَزْرِ وهو القُوَّة(23).
          وأنكَرَ القزَّازُ أنْ يكونَ في اللُّغة مُؤَزَّرٌ منَ الأَزْرِ!
          وقال أَبو شَامَةَ: يحتملُ أن يكونَ مِن الإزَارِ، أشارَ بذلك إلى تشميرِه بنُصْرتِه، قال الأخْطَلُ:
          قَوْمٌ إذا حارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ...
          قولُه: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بفَتْح الشِّيْنِ كـ : يَلْبَث وَزْنًا، ومعنًى، وأصلُ النَّشَبِ التَّعلُّقُ، أي: لم يتعلَّق بشيء من الأُمور حتَّى مات.
          وهذه الجملةُ يحتملُ أنْ تكونَ مِن كلام الرَّاوي، ويحتملُ أنْ تكُون منْ كلام النَّبيِّ صلعم لعائشةَ.
          قوله: (أنْ تُوُفِّي) أي: لم يلبثْ، أي: لم يمكث بعد إخبارِه للنَّبيِّ صلعم؛ لأنَّه تُوفِّي، فهو على حذف لام التَّعليل، وهذا يخالف ما في «السِّيْرة» لابن إسحاقَ أنَّ وَرَقَةَ كان يمرُّ ببِلال وهو يؤذِّن؛ وذلك يقتضي أنَّه تأخَّر إلى زمن الدَّعْوة وإلى أن دخلَ بعضُ النَّاس في الإسلام، فإنْ تمسَّكنا بالتَّرجيح فما في «الصَّحيح» أصح.
          وإنْ لحظنا الجمْع أمكَن أن يقال: الواوُ في قولِه (وَفَتَرَ / الوَحْيُ) ليست للتَّرتيب، فلعلَّ الرَّاوي لم يحفظ لوَرَقَةَ ذِكْراً بعد ذلك في أَمْرٍ من الأُمور، وجعلَ هذه القضيَّة انتهاءَ أمْرِه بالنِّسْبة إلى عِلْمه لا إلى ما هو الواقع.
          قوله: (وَفَتَرَ الوَحْيُ) أي: احتبسَ وتأخَّر مُدَّةً من الزَّمان مُقدَّرة بثلاث سنين، أو بسنتَين ونصف، أو بأربعين يوماً، أو بخمسة عشر يوماً، أو بثلاثة أيَّام.
          وقد حصلَ للمُصطَفى صلعم في مدَّة فَتْرة الوَحْي حُزْنٌ شديدٌ حتَّى صارَ يذهبُ إلى رُؤوسِ الجِبالِ فيكادُ يُلْقي نفسَه مِنْها.
          والحكْمةُ في فَتْرةِ الوَحْي ذهابُ الرَّوْع والخوفِ الذي حصلَ لَه أوَّلاً، واشتياقُه إلى نُزولِه، وقد وكَّل اللهُ تعالى بالنَّبيِّ صلعم إسْرافِيْلَ في تلْك المدَّة، فكان يعلِّمه الكلمة والشَّيء من غير القُرآن لأجْلِ أن يريحَه من التَّعب الذي حصل له بقَطْع جِبْريل عنه.
          قوله: (قَالَ ابنُ شِهْابٍ: وَأخْبَرَني أَبو سَلَمَةَ) إنَّما أَتى بحرفِ العطفِ ليُعلم أنَّه معطوفٌ على ما سبق في «الكتاب» _أعْني: «البُخاريَّ»_ كأنَّه قال: أخْبَرَني عُرْوَةُ بكذا وأَخْبَرَني أَبو سَلَمَةَ بكذا.
          وأَبو سَلَمَةَ هُو ابنُ عبدِ الرَّحمن بنِ عَوْفٍ.
          وأخطأَ مَن زَعَمَ أنَّ هذا معلَّقٌ _وإنْ كانتْ صورتُه صورةَ تَعْليقٍ_ ولو لم يكن في ذلك إلَّا ثُبوت الواوِ العاطفة فإنَّها دالةٌ على تقدُّم شيءٍ عطفته، وقد تقدَّم قولُه: عنِ ابنِ شِهَابٍ، عَن عُرْوَةَ... فساقَ الحديْثَ إلى آخِرِه، ثمَّ قال: (قالَ ابنُ شِهابٍ)، أيْ: بالسَّنَدِ المذْكُور (وأَخْبَرَني أَبو سَلَمَةَ).
          قوله: (الأَنْصَارِيَّ) صفةٌ ﻟ (جابِرَ). وقولُه (قَالَ) أي: جابِر، وقولُه (وَهُوَ يُحدِّثُ) جملةٌ حاليَّةٌ، أي: قال جابرٌ في حال كونه يُحدِّث.
          قوله (عَنْ فَتْرَةِ) متعلِّقٌ ﺑ (يُحدِّثُ)، ودلَّ(24) هذا وقَولُه (فإذا المَلَكُ الَّذِي جاءَنِي بحِرَاءٍ) على تأخُّر سُورة {الْمُدَّثِّرُ} عَن {اقْرَأْ}(25).
          ولمَّا خلتْ رِواية يحيى بنِ أبي كثيرٍ المذْكورة في التَّفْسير عنْ أبي سَلَمَةَ، عَن جابرٍ عن هاتَين الجمْلتَين أشكل الأمر، فجزمَ مَن جَزَمَ بأنَّ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدئر:1] أوَّلُ ما نزلَ، ورِوايةُ الزُّهْريِّ هذه الصَّحيحة ترفعُ ذلك الإشكالَ.
          قوله (فَقَالَ)، أي: النَّبيُّ صلعم، وقولُه (فِي حَدِيْثِهِ)، أيْ: حديث النَّبيِّ صلعم المتعلِّق ﺑ (فَتْرة الوَحْي) مُتعلِّقٌ ﺑ (قَالَ).
          قوله: (بَيْنَا) هيَ ظرفُ زَمانٍ تُضاف للجُمْلتَين الاسميَّة والفِعْليَّةِ، وتُضاف للمُفْرَدِ قليلاً، وأصلُها بَيْنَ فأُشبعت فتحةُ النُّون فصارَتْ ألِفاً، والتَّقدير بحسب الأصلِ: بَيْن أوقات أَنا أمْشِي.
          ولتضمُّنها معنى الشَّرطِ تفتقرُ إلى جوابٍ يتمُّ به المعْنى، والأفصحُ في جوابها عِنْد الأَصْمَعيِّ أن يصحبَه «إذْ» أَو «إِذَا» الفجائيتان، والأفصحُ عِند غيرِه التجرُّدُ منهُما، ومنه:
          فبَيْنا نحنُ نَرْقُبُه أَتانَا
          وجوابُ (بَيْنَا) قولُه (إذْ سَمِعْتُ). /
          وقوله: (مِنَ السَّمَاءِ) أي: من جهةِ السَّماءِ.
          قوله: (فَإذا المَلَكُ) أيْ: وهُو جِبْريْلُ.
          و قوله: (بِحِرَاءٍ) أي: بِغَارِ حِرَاءٍَ.
          و قوله: (على كُرْسِيٍّ) متعلِّقٌ ﺑ(جالِسٌ) الواقع خَبَراً عنِ المُبْتدإ وهو (الملَك)، و(كُرْسِيٍّ) بضمِّ الكافِ وقد تُكْسَر.
          قال في «المصباح»: والكُرْسيُّ بضمِّ الكافِ أشْهرُ مِن كَسْرِها، والجمْعُ كَرَاسيُّ مُثقَّلٌ وقد يُخفَّف، قالَ ابنُ السِّكِّيْتِ في باب ما يُشدَّدُ: وكُلُّ ما كانَ واحِدُه مُشدَّداً شَدَّدْت جَمْعَه، وإنْ شئْتَ خَفَّفْتَ. انتهى.
          قوله: (فَرُعِبْتُ مِنْهُ) بضمِّ الرَّاءِ، وكَسْرِ العَيْن.
          وللأصيليِّ بفَتْح الرَّاءِ وضمِّ العَيْن، أي: فَزِعْتُ، فدَلَّ على بقيَّةٍ بقيتْ معَه من الفَزَع الأوَّل، فزالتْ بالتَّدْريج.
          كذا في الأُجْهُوريِّ و«فَتْح البارِي» بضمِّ العَيْن.
          وعبارةُ «المخْتار» و«المصْباح» صريحةٌ في أنَّه بفَتْح العَين:
          فعبارةُ «المصباح»: رَعَبْتُ رَعْباً، مِن بابِ نَفَعَ: خِفْتُ، ويَتَعدَّى بِنَفْسِهِ وبالهمْزَةِ أيضاً فيُقال: رَعَبْتُه وأَرْعَبْتُه. انتهى.
          وعِبارةُ «المُخْتار»: رَعَبَهُ يَرْعَبُهُ كقَطَعَهُ يَقْطَعُه، رُعْباً بالضَّمِّ: أَفْزَعَهُ. انتهى.
          إلَّا أنْ يقالَ: الحديثُ محمولٌ على الفِعْل اللَّازِم، وما في الكتابَين محمولٌ على المُتعدِّي.
          قولُه: (زَمِّلُوْنِي زَمِّلُوْنِي) بالتَّكريرِ مرَّتَين لأَبوَي ذَرٍّ والوَقْتِ.
          ولكَرِيْمةَ والأصيْليِّ مرَّة واحدة.
          ولمُسْلِمٍ[257/161] كالمؤلِّفِ _أعْني: البُخاريَّ في التَّفْسيْر [خ¦4922] [خ¦4924] مِن رِواية يُونسَ_: «دَثِّرُوْنِي»، وهو أنسبُ بقولِه (فأَنْزلَ اللهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}).
          قولُه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] ناداهُ بالمُدَّثِّرِ تأنيْساً له وتلطُّفاً(26) به، والمعنى: يا أيُّها المُتلَفْلِف(27) بثيابِه.
          قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:2]، أي: فخَوِّفْ وحَذِّرْ منَ العذاب مَن لم يُؤمنْ بِكَ.
          وفيه دَِلالةٌ على أنَّه أُمِرَ بالإنذار عَقِبَ نُزولِ الوَحْي للإتيان بالفاءِ في قوله {فَأَنْذِرْ} المفيدة للتَّعقيب، واقتصر على الإنذارِ لأنَّ التَّبْشير لا يكون إلَّا لمن دخلَ في الإسلام، ولم يكُن إذ ذَّاك مَن دخلَ فيه، فمتعلَّق الإنذار محقَّق وهو الكفَّار.
          قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أيْ: عَظِّم ربَّكَ بأن تعتقدَ اتِّصافه بصفاتِ الكَمالِ وتُنزِّهه عن صفاتِ النَّقْصِ.
          قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهِّرْ ثيابَكَ من النَّجاساتِ.
          وقيل: معناه: قَصِّرْ.
          وقيل: الثِّيابُ: النَّفْسُ، وتطهيرُها اجتنابُ النَّقائص(28).
          قولُه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي: اترُكِ الرُّجْزَ، أي: الوَثَنَ.
          والرُِّجْزُ في اللُّغة العَذَابُ، وسمَّى الأوثان هُنا رِجْزاً لأنَّها سببُه، والمرادُ: أمره لغَيْره بتَرْكِه؛ لأنَّ المصطفى صلعم لم يكُن عابِداً للوَثَنِ.
          قوله: (فَحَمِيَ الوَحْيُ) أي: كثُر بعْد نُزوْلِ هذه الآيةِ، أي: كَثر نُزولُه.
          وقولُه: (وَتَتَابَعَ) عَطْف تَفْسيْرٍ على قولِه (حَمِيَ).
          ويَحتملُ أنَّ يُراد بحَمِيَ الوَحْيُ: قَوِيَ، و(تَتابَعَ) تكاثَر.
          ووقعَ في رِوايةِ الكُشْمَيْهَنيِّ وأبي الوَقْتِ «وتَوَاتَرَ»، والتَّواتُرُ: مَجيءُ الشَّيءِ يَتْلُو بَعضُه بعْضاً مِن غيْر تَخلُّلٍ.
          تَنْبِيهٌ:
          هذا / الحديْثُ يدلُّ على أنَّ أوَّلَ ما نزلَ مِنَ القُرآن على الإطْلاقِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ...} إلى {مِنْ عَلَقٍ}، وأوَّلَ ما نزلَ بعد فَتْرةِ الوَحْي: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ...} إلى {فَاهْجُرْ}، فليسَ القَولُ بأنَّ أوَّلَ ما نزلَ {اقْرَأْ} والقولُ بأنَّ أوَّلَ ما نزلَ {الْمُدَّثِّرُ} مُختلِفَين.
          وأمَّا القوْلُ بأنَّ أوَّلَ ما نزلَ الفاتِحة، فهو مَحْمولٌ على أوَّل ما نزلَ من السُّوَر التَّامَّة، وما تقدَّم في أوَّل ما نزلَ منَ الآياتِ.
          وكان مُدَّة الوَحْي بعْد الفَتْرة بمكَّة عشرَ سِنين وبالمديْنة كذلك، ومدَّةُ فَتْرة الوَحْي ثلاثَ سنين، وأوَّلُ ما نزلَ عليْه الوَحْي كانَ عُمره صلعم أرْبعين سنة، فسِنُّه صلعم ثلاثٌ وسِتُّون سَنة.


[1] البيهقي في الكبرى 13804.
[2] هي «سُبل الهدى والرَّشاد في سِيْرة خير العِباد» لمحمَّد بن يوسف الصَّالحيِّ الشَّاميِّ.
[3] المستدرك 3479، النسائي في الكبرى 1439، البيهقي في الدلائل 2983.
[4] من «ز2» و«م»، وليست في الأصل.
[5] كذا في الفتح 1/27.
[6] ما بين الحاصرتَين منِّي.
[7] هو «اللَّامع الصَّبيح في شرح الجامع الصَّحيح»، ينظر فيه ░1/ 43▒.
[8] حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع 2/393.
[9] كذا في «ز1» و«م» وباقي النُّسخ، وفي الأصل: والزيت.
[10] قوله: «عُبيد الله بن عمر» كذا في «ت» و«ز2» و«ز4» و«ز5» و«ف3» و«م»، وفي الأصل و«ز1» و«ز3»: عبد الله بن عمر.
والمحفوظ: عبيد بن عمير، كما في «السِّيْرة» لابن إسحاق.
[11] سيرة ابن هشام 1/221.
[12] لم أجدها في الطبراني ورأيتها في تاريخ الرسل والملوك للطبري 2/298، فلعل الاسم تصحف من الطبري إلى الطبراني، وفي دلائل النبوة للبيهقي 451، وهي كذلك في سيرة ابن هشام 1/221.
[13] كذا في الأصل، وفي «م»: وفطنتها.
[14] أخرجه الخطابي بسنده في «تصحيفات المحدثين» ص 209.
[15] هي رواية أبي الوقت كما في طبعة دار الكمال العامرة.
[16] ما بين الحاصرتَين منِّي.
[17] قوله: «حوادث الحق، أي» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».
[18] كذا في «ز2» و«م»، وفي الأصل: نوفل.
[19] قوله: «منصوب بفعل مقدر... وقيل» زيادة من الأصل و«ز1» و«ز5» وغيرها، وسقطت من «م» و«ز2».
[20] ابن حجر في فتح الباري 1/26.
[21] الفتح 1/26.
[22] نقله الكرماني في الكواكب ░1/40▒، والعيني في العمدة ░1/59▒ والقسطلاني والأنصاري والبرماوي.
[23] قوله: «وهو القوة» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».
[24] كذا في الأصل، وفي «م»: دل.
[25] يُريد سُورةَ العَلَق.
[26] كذا في «ت» و«ز1» و«م»، وفي الأصل: وتعطفاً.
[27] كذا في الأصل، وفي «م»: المتلفف.
[28] من هنا يبدأ السَّقط من الأصل.