حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لن يدخل أحدًا عمله الجنة

          225- قوله: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجنَّةَ) [خ¦5673].
          استُشكل بقولِه تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]!؟
          وأُجِيبَ بأنَّ مَحْمَلَ الآيةِ على أنَّ الجنَّةَ تُنالُ المنازِلُ فيها بالأعْمال؛ لأنَّ درجات الجنَّةِ مُتفاوتَةٌ بحسبِ تَفاوت الأعْمال، وأنَّ محْملَ الحديثِ على أصْل دخولِ الجنَّة.
          فإنْ قلْتَ: إنَّ قولَه تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] صريحٌ في أنَّ دُخولَ الجنَّةِ أيضاً بالأعْمال!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّه لفظٌ مجملٌ بيَّنَه الحديثُ، والتَّقديرُ: ادخُلُوا مَنازل الجنَّة وقُصورَها بما كنتُم تعملون، وليس المرادُ أصلَ الدُّخول، أوِ المرادُ: ادْخُلوها بما كنتم تعملون مَع رحمةِ الله لكم وتفضُّله عليكم؛ لأنَّ اقْتسامَ منازلِ الجنَّة برحمتِه.
          وكذا أصلُ دُخولها، حيثُ ألْهم العامِلين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيءٌ مِن مُجازاته لعِبادِه منْ رحْمتِه وفضلِه، لا إله إلَّا هو، له المُلك وله الحمْدُ.
          قوله: (وَلَا أَنْتَ يَا رَسُوْلَ الله) أيْ: ولا أنْتَ يُنجيك عملك ويُدخلك الجنَّة مَع عِظَم قَدْرِكَ.
          قوله: (إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ) وفي روايةِ المُسْتَمْلِيِّ: «بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ»، بإضافةِ (فَضْلِ) لِلَاحِقِه، أي: يُلبسني ويَسْتُرُني برحْمتِه، مأْخوذٌ مِنْ غَمَدْتُ السَّيْفَ وأَغْمَدْتُهُ، ألْبَسْتَهُ غِمْدَهُ وغَشَّيْتَهُ.
          وفي رِوايةِ سُهيْلٍ(1): «إلَّا أنْ يَتَدَارَكَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ».
          وفي رِوايةِ ابنِ عَوْنٍ(2) عِنْد مُسلمٍ [73/2816]: «بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ».
          وعِنْد مُسْلمٍ، مِن حديثِ جابرٍ [77/2817]: «لا يُدْخِلُ أَحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الجنَّةَ، ولا يُجِيْرُهُ مِنَ النَّارِ، / ولا أَنا، إلَّا بِرَحْمَةِ الله».
          قوله: (فَسَدِّدُوا) أي: اقْصدوا السَّدَادَ، أي: الصَّوابَ، أي: اتِّباعَ السُّنَّةِ، فيَتَقبَّلُ اللهُ عملَكُم، وينزل عليكم الرَّحْمةَ.
          قال في «المخْتار»: التَّسْدِيْدُ: التَّوْفِيْقُ للسَّدَادِ بالفَتْح، وهُو الصَّوابُ والقَصْدُ منَ القَوْلِ والعَمَلِ. انتهى.
          وسَدَّ يَسِدُّ مِنْ بابِ ضَرَبَ. انتهى، «مِصْباح».
          وقولُه: (وَقَارِبُوا) أي: توسَّطوا في العَملِ ولا تفرِّطوا فتجهدُوا أنفسَكُم في العِبادة؛ لئلَّا يؤدِّي ذلك إلى الملَل فتتركوا العَمَل والعِبادة فيحصل منكُمُ التَّفْريطُ.
          يقال: شَيءٌ مُقَارِبٌ بكَسْرِ الرَّاءِ، أي: وَسَطٌ.
          وفي روايةٍ للحَمُّوْييِّ والمُسْتَمْلِيِّ: «وَقَرِّبُوا»، بتشْديدِ الرَّاءِ، بدون ألِف.
          وفي رِواية بُسْرٍ(3)، عَن أبي هُريرةَ عِنْد مُسلمٍ(4): «وَلكِن فَسَدِّدُوا».
          ومعنى الاستدراك: إنَّه قد يُفهم من النَّفْيِ المذكورِ نفيُ فائدةِ العملِ، فكأنَّه قيل: بل لَّه فائدةٌ وهي أنَّ العملَ علامةٌ على وُجودِ الرَّحْمةِ التي تُدْخِل العامِلَ الجنَّةَ، فاعمَلُوا واقْصدوا بعملِكم السَّدادَ.
          قوله: (وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ) بتحتيَّةٍ بَعْد النُّونِ، آخرُه نونُ توكيدٍ، وهو لفظُ نَفْيٍ بمعنى النَّهْي، وهذه رِوايةُ الأكْثرِ.
          ووقعَ في رِوايةِ الكُشْميهَنيِّ: «وَلَا يَتَمَنَّ»، بحذْف التَّحتيَّة والنُّون، على لفظِ النَّهْيِ.
          وكذا هُو في رِواية هَمَّامٍ(5)، عَن أبي هُريرةَ بزِيادة نُونِ التَّوْكيدِ، وزادَ بعْدَ قولِه (أَحَدُكُمُ المَوْتَ): «وَلَا يَدْعُ بِه مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُ».
          وقوله: «مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُ»، قيد في الصُّورتَين، ومفهومُه أنَّه إذا حلَّ به لا يمنع من تَمنِّيه رِضاً بلِقاءِ الله، ولا من طلبه من الله كذلك وهو كذلك.
          وحِكْمةُ النَّهْي عن ذلك أنَّ في طلبِ الموْتِ قبلَ حُلُولِه نوعُ اعتراضٍ ومُرَاغمةٌ للقَدَر، وإنْ كانتِ الآجالُ لا تَزيد ولا تَنقص.
          قال النَّوويُّ: في الحديْث التَّصريحُ بكراهة تمنِّي الموت لضُرٍّ نزلَ به في دُنياه، أمَّا إذا خافَ فِتْنةً في دِيْنِه فلا كراهة فيه، وقد فعَلَه خلائقُ من السَّلَف لذلك.
          قوله: (إمَّا مُحْسِناً) هو بالنَّصْب على الخبَريَّة ليكون المقدَّر، أي: إمَّا أن يكونَ مُحسناً.
          ووقعَ في رِواية أحمدَ [8072] عَن عبد الرَّزَّاقِ الرَّفْعُ على أنَّه بَدَلٌ مِن (أَحَد)، وكذا يقالُ في (مُسِيْئاً).
          قوله: (فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ) أي: يطلب العُتبى وهي الإرضاءُ.
          قالَ في «المخْتار» تقولُ: اسْتَعْتَبَهُ فَأَعْتَبَهُ، أي: اسْتَرْضَاهُ فَأَرْضَاهُ. [انتهى] (6) .
          أيْ: يطلبُ رِضاْ الله بالتَّوْبة ورَدِّ المَظالم، و(لَعَلَّ) في الموضعَين للرَّجاءِ المجرَّد منَ التَّعْليل، وأكثرُ مجيئها في الرَّجاءِ إذا كان معها تعليلٌ، نحو قولِه تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189].
          وهذا التَّرجِّي مُشعرٌ بالوقوع غالباً لا جَزْماً، فخرجَ الحديث مخرجَ تحسينِ الظَّنِّ بالله، وأنَّ المحْسنَ يرجو منَ الله الزِّيادةَ بأن يُوفِّقَه للزِّيادة منْ عَمَلِه الصَّالح، وأنَّ المُسيءَ لا ينبغي له القُنوط منْ رَحْمةِ الله ولا قطع رَجائِه.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في باب: منع تَمنِّي المَرِيْض المَوْتِ.


[1] في مسلم 74/2816.
[2] كذا في «ز1»، وفي الأصل و«م»: عوف.
[3] كذا في «ف3»، وفي الأصل و«م» وباقي النُّسخ: بشر.
[4] 71/2816 نسختي: «سددوا».
[5] مسلم 13/2682.
[6] ما بين الحاصرتين منِّي.