حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا

13- قولُه: (عَنْ عَبْدِ الله) [خ¦100] هو الصَّحابيُّ الزَّاهدُ العابِدُ ابنُ الصَّحابيِّ ☻.
          قوله: (ابنِ عَمْرِو) كانَ قُرشِياً.
          قولُه: (ابنِ العاصِي) بالياءِ و بدُونِها، والجُمهورُ على قراءتِه بالياءِ وبكتابتِه بها، وهو الفصيح عند النُّحاة؛ لأنَّ المنقوصَ إذا كان غيرَ منْصوب على قسمَين: مُنوَّنٌ، وغيرُ منوَّن:
          فالمنوَّنُ الوَقْفُ عليه بحذف الياءِ أَولى، قالَ اللهُ تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7].
          وغيرُ المنوَّن فالوَقْفُ عليه بالياءِ أَوْلى، قالَ ابنُ مالكٍ:
وحَذْفُ يَا المَنْقُوص ذِي التَّنْوِين مَا                     لَمْ يُنْصَبَ أوْلَى مِن ثُبُوْتٍ فاعْلَمَا
          قوله: (إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ) أي: يرْفعُه مِن بين العُلماء ولا يمحوه ولا يزيله منْ صُدورِهم وقُلُوبِهم.
          قولُه: (انْتِزَاعاً) منْصوبٌ على أنَّه مفْعولٌ مُطْلَقٌ والعاملُ فيه النَّصْب الفِعْلُ المرادِفُ لَه وهُو (يَقْبِضُ) في المعنى، على حَدِّ قولِهم: رَجَعَ القَهْقَرَى، فالقَهْقرى منْصوبٌ على أنَّه مفعولٌ مطْلقٌ والعاملُ فيه النَّصب قولُه: رَجَعَ.
          قوله: (يَنْتَزِعُهُ) وفي رِوايةٍ: «يَنْزِعُهُ» بالكَسْر، أي: يمْحوه ويرْفعُه(1) ويُذهِبُه مِن قُلُوب العِبادِ، وهذه الجملةُ صفةٌ لقولِه (انْتِزَاعاً)، فهيَ داخِلةٌ في النَّفْي.
          قوله: (وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ) أظهر في محلِّ الإضمارِ لأجْل زيادةِ تعْظيمِ العِلْم وإلَّا لَقال: يَقْبضه، كما في قولِه تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] بَعْد قولِه: {اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فأظهر لفظ الجلَالة تعظيماً لله تعالى.
          قوله: (بِقَبْضِ العُلَمَاءِ) أي: بقَبْض أرْواحِ العُلماء ومَوْتِ حَمَلَةِ العِلْمِ.
          وفي نُسخة: «بِمَوْتِ العُلَمَاءِ»، ولعلَّها رِواية.
          قولُه: (حَتَّى إذَا...) إلى آخِرِه.
          (حَتَّى) ابتِدائيَّة، / ويصحُّ أن تكون غائيَّةً.
          فإنْ قلْتَ: الواقعُ هنا بَعْد (حَتَّى) جملةٌ شرْطيَّةٌ، فكيف تكون غايةً لما قبلها؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ تقديرَ الحديثِ: ولكن يقبضُ العِلْم بقبضِ العلماءِ إلى أن يتَّخذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً وَقْت انقِراضِ أهْلِ العِلْمِ.
          فالغايةُ في الحقيقة هي ما انسبكَ منَ الجواب المقيّد ذلك بالشَّرْطِ.
          قولُه: (لَم يُبْقِ) بضَمِّ المثنَّاة التَّحتيَّة، وكَسْرِ القافِ، منَ الإبْقاءِ، وفيه ضمِيرٌ يرجعُ إلى الله تعالى هو الفاعل، و(عَالِماً) بالنَّصْبِ على المفْعوليَّة؛ كذا في رِواية الأَصِيْليِّ.
          ولغَيره «يَبْق» بفَتْح حَرْفِ المُضارعة، منَ البقَاءِ، و(عَالِمٌ) بالرَّفع على الفاعليَّةِ.
          وفي رِوايةٍ لمسلمٍ[13/2673]: «حتَّى إذا لم يَتْرُكْ عالِماً»، وفاعلُ «يَتْرُكْ» ضميرٌ عائدٌ على الله.
          فإنْ قلتَ: إنَّ (يُبْقِ) ماضٍ لوُقُوعِه بَعْدَ (لم) النَّافية، فكيف يقع بعد (إذا) التي للاستقبال؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ (لم) جَعَلَتِ الفِعْل ماضِياً، و(إذا) جَعَلَتْ نَفْيَ الفِعْلِ مُستقبَلاً، فَتَعارَضَا فتساقطَا، ويبقى المضارع على أصلِه وهو إفادة الاستقبالِ.
          أو يقالُ: إنَّهما تعادَلَا فيُفيد الفِعْلُ الاستمرارَ مِن المُضي إلى الاستقبالِ.
          قولُه: (اتَّخَذَ النَّاسُ) بالرَّفْع على الفاعليَّة، وظاهرُ ذلك أنَّه لا يتَّخذ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً إلَّا إذا انتفى بقاءُ العالِم، مَع إنَّنا نجِدُ كثيراً من النَّاسِ يتَّخذون الرُّؤساء الجهَّال مَع وُجودِ العُلماءِ كَما هو مُشاهَد الآن!
          وأُجِيْبَ بأنَّ المرادَ بالنَّاسِ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِن أفْرادِ النَّاسِ، فلا يصح أنَّ الكُلَّ يتَّخذونَ ذلك إلَّا عِنْد فَقْدِ العالِم.
          ويُجاب _أيضاً_ بأنَّ هذا الحديثَ جَرَى مَجْرى الغالِبِ مِن أنَّ النَّاس يتَّخذونَ الرُّؤساء الجهَّال عِنْد فَقْدِ العالِم، ومن غير الغالب قد يتَّخذونَهم مَع وُجودِ العُلماءِ.
          قولُه: (رُؤُوْساً) بضمِّ الرَّاءِ والهمْزةِ، والتَّنوين، جمعُ رَأْسٍ، وهو الكبيرُ.
          ولأبي ذَرٍّ _أيضاً كما في «الفَتْح»[1/195]_: «رُؤَسَاءَ» بفَتْح الهمْزة، وفي آخِره همْزةٌ أُخرى مفْتوحةٌ جمعُ رَئِيْسٍ، وهُو الكبِير أيضاً.
          قوله: (جُهَّالاً) بالضَّمِّ والتَّشديد والنَّصْبِ، صفةٌ لسابقِه، ظاهرُه أعمُّ من الجهْل البَسيْطِ: وهُو انتفاءُ العِلْم بالشَّيء، ومنَ الجهْلِ المركَّب: وهو انتفاءُ العِلْم بالشَّيء مَع اعتقادِ خلافِ الواقع.
          قولُه: (فَسُئِلُوا) بضمِّ السِّيْن، والضَّميْر للرُّؤوس، أي: سألهم السَّائلُ.
          قولهُ: (فَأَفْتَوا) أي: أخبروا بجوابِ الحادثةِ التي سُئلوا عنْها.
          وقولُه: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بغير عِلْم الصَّواب.
          [قوله](2): (فَضَلُّوا)، أيْ: في أنفُسِهم، وهو مأْخوذٌ من الضَّلال.
          وقوله: (وَأَضَلُّوا) أي: أضلُّوا السَّائلين، فهو مَأْخوذٌ منَ الإضْلالِ.
          واعلمْ أنَّه لا تنافي بين هذا الحديثِ وحديثِ [خ¦71]: «ولَنْ تَزَالَ هذه الأُمَّةُ قائِمةً على أَمْرِ الله حتَّى يأْتيَ أمْرُ الله»؛ لأنَّ الحديثَ الذي هُنا بعد(3) إتيان أمْر الله تعالى المفسَّر بالرِّيح التي هي ألْين مِن الحَرِيرِ يبعثُها اللهُ تعالى فتقبض / أرْواحَ المؤمنين حتَّى لا يبقى أَحدٌ في قلْبِه مثقال ذرَّةٍ منَ الإيمانِ، حتَّى لو دخلَ أحدٌ منَ المؤمنين في كبدِ جَبلٍ لدخلَتْ عليه حتَّى تَقْبضَه.
          وإنْ أُريدَ ﺑ «أَمْرُ الله» يوم القيامة، فالمراد اتِّخاذ الرُّؤساء الجهَّال في بعض المواضع، فلا يُنافِي أنَّ البعضَ الآخرَ لا ينقطع منْه العُلماء كبَيْت المقْدِس أوْ كالمغرِب.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البخاريُّ في: باب كيف يُقبض العِلْمُ.


[1] من هنا يبدأ السقط في الأصل.
[2] ما بين الحاصِرتَين منِّي.
[3] كذا في «ز1» و«ز2» و«ز3» و«ز5»، وفي «م»: بعد.