حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات

          78- قوله: (عَنْ عَبْدِ الله) [خ¦1542] وفي نسخةٍ: «عَن أَبِي عَبْدِ الله»، ولعلَّه تحريفٌ.
          قوله: (أنَّ رَجُلاً) قال الحافظُ ابنُ حجَرٍ(1): لم أقفْ على اسمِه.
          قوله: (مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ) أي: الرَّجُل المُحْرِم، مُفرداً كان أو قارِناً أو متمتِّعاً.
          وعند البَيْهقيِّ(2) أنَّ ذلك السُّؤال وقعَ والنَّبيُّ صلعم يخطب في مقدم مسجد المديْنة.
          وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ عِنْد البُخاريِّ في أَواخر الحجِّ [خ¦1841]، أنَّه ╕ / خطب بذلك في عَرَفَات، فيحمل على التَّعدُّد.
          قوله: (قَالَ) أي: مُجيباً للسَّائل.
          قوله: (لا يَلْبَسُ) بالرَّفْع وهو الأشهرُ على الخبَر عن حكم الله؛ إذْ هو جواب السُّؤال، أو خَبَرٌ بمعنى النَّهي، وبالجزْم على النَّهي، وكُسر لالتقاءِ السَّاكنَين.
          فإنْ قلتَ: السُّؤالُ وقعَ عمَّا يجوز لبسه، والجوابُ عمَّا لا يجوز، فلم تحصل المُطابقة، فما الحكْمة فيه؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ الجوابَ بما لا يجوز لبسه أخصرُ وأحصرُ وأضبطُ وأقلُّ ممَّا يجوز، فذِكْرُه أَوْلى؛ إذْ هو قليلٌ، ويفهم منه ما يباح، فتحصل المطابقةُ بين الجواب والسُّؤالِ بالمفهوم.
          وقيل: كان الأليقُ السُّؤالَ عنِ الذي لا يباح؛ إذِ الإباحةُ الأصلُ؛ ولذا أجاب بذلك تنبيهاً للسَّائل على الألْيق، ويسمَّى مثل ذلك أسلوب الحكيْم، نحو: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ...} [البقرة:189] الآيةَ.
          فإنَّهم سألُوا عن حِكْمة اختلافِ القمرِ، حيث قالوا: ما بال الهِلال يبدو دقيْقاً، ثمَّ يزيدُ، ثمَّ ينقص؟
          فأجابَّهم بأنَّ الحِكْمةَ الظَّاهِرةَ في ذلك أن يكون مَعَالِمَ للنَّاس يوقِّتون بها أمْرَهُم، ومَعالِمَ للعِباداتِ الموقَّتة تعرف بها أوْقاتها وخُصوصاً الحج، فبيَّن فسادَ سُؤالِهم وهو أنَّه كان ينبغي أن يسألوا عمَّا ينفعهم في دِيْنهم، ولا يسألوا عمَّا لا حاجة لهم في السُّؤالِ عنه، بأنْ يسألوا عن حِكْمةِ الخلْقِ لا عن حِكْمة اختلافِها.
          قوله: (القُمُصَ) بضمِّ القافِ والميْمِ.
          ولأبي ذَرٍّ، عنِ المُسْتَمْلِيِّ: «القَمِيْصَ» بالإفرادِ.
          قوله: (وَلَا العَمائِمَ) جمعُ عِمامةٍ؛ سمِّيتْ بذلك لأنَّها تَعُمُّ جميْعَ الرَّأْسِ بالتَّغْطِيةِ.
          قوله: (وَلَا السَّرَاوِيْلَاتِ) جمعُ سَرَاوِيْلُ، فارِسيٌّ مُعرَّبٌ، والسَّرَاوِيْنُ بالنُّونِ لغةٌ، والشِّرْوَالُ بالشِّيْن لُغةٌ.
          وسَرَاوِيْلُ ممنوعٌ من الصَّرْفِ؛ لأنَّه منقولٌ عنِ الجمْع بصيغة مَفَاعِيْلَ، وأنَّ واحِدَه سِرْوَالَةٌ.
          وحكى ابنُ الحاجِبِ أنَّ مَن العَرَب مَن يَصْرِفه.
          قوله: (وَلَا البَرَانِسَ) جمع بُرْنُسٍ، بضمِّ الموحَّدة والنُّونِ.
          قالَ في «القامُوْسِ»: البُرْنُسُ: قَلَنْسُوَةٌ طَوِيْلَةٌ، أَوْ: كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ دُرَّاعَةً كانَ أَوْ جُبَّةً.
          قوله: (وَلَا الخِفَافَ) بكسرِ الخاءِ المعجمة، جمعُ خُفٍّ.
          فنبَّه صلعم بالقُمُصِ والسَّراويْلِ على كلِّ مخيطٍ، وبالعَمائمِ والبَرَانِسِ على كُلِّ ما يغطي الرَّأس مخيطاً كان أو غيرَه، فيحرم على الرَّجُلِ سَتْر رأسِه أو بعضه كالبياضِ الذي وراء الأذن بما يعدُّ ساتراً عُرفاً ولو بعصابةٍ / ومرهمٍ _وهو ما يوضع على الجراحة_، وطين ساتر، لا ستره بماءٍ كأن غطِس فيه، وخيطٍ شدَّ به رأسه، وهودجٍ استظلَّ به وإنْ مسه، ولا بوضْعِ كَفِّه وكذا كَفّ غيره، ومحموله كقُفَّةٍ على رأْسِه؛ لأنَّ ذلك لا يعدّ ساتِراً.
          وظاهرُ كلامِهم عدمُ حُرمة ذلك، سواءٌ قصد الستر به أَمْ لا، لكن جزمَ الفُوْرَانيُّ وغيرُهُ بوُجوب الفِدْيةِ فيما إذا قصد بحمل القفة ونحوها السترَ.
          وظاهرُه حُرمة ذلك حينئذٍ، ولا أثر لتوسُّده وسادةً أو عمامةً فإنَّه حاسر الرَّأس عرفاً، ونبَّه بالخِفَاف على ما يستر الرِّجُل ممَّا يُداسُ عَلَيه مِن مَدَاسٍ وجَوْرَبٍ وغيرهما.
          قوله: (إلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ) الجملةُ في مَوضع رفْعٍ صِفةٌ ﻟ (أَحَدٌ).
          ويستفادُ منه _كما قالَه ابنُ المنير في «الحاشية»_ جوازُ اشتمالِ أحدٍ في الإثباتِ خِلافاً لمن خصَّه بضرورة الشِّعْر، كقوله:
وَقْد ظَهَرَتْ فلَا تَخْفى على أَحَدٍ                     إلَّا على أَحَدٍ لا يَعْرِفُ القَمَرَا
          قال: والذي يظهر لي بالاستِقْراءِ، أنَّ أحداً لا يُستعمل في الإثباتِ إلَّا أنْ يعقبَ النَّفْيَ وكانَ الإثباتُ حينئذٍ في سياقِ النَّفْيِ، ونظيرُ هذا زيادةُ الباءِ، فإنَّها لا تكون إلَّا في النَّفْي، ثمَّ رأيناها زِيدتْ في الإثباتِ الذي هو في سِياقِ النَّفْيِ كقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:33]. انتهى.
          والمستثنى منْه محذوفٌ.
          ذكره مَعْمَرٌ(3) في رِوايتِهِ عنِ الزُّهْريِّ، عَن سالمٍ بلفظ: «ولْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ في إزَارٍ وَرِدَاءٍ ونَعْلَيْنِ».
          قوله: (فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) ولأبي الوَقْتِ: «فَلْيَلْبَسِ الخفَّيْنِ» بالتَّعريف.
          وفي نسخةٍ: «فَيَلْبَسُ خُفَّيْنِ» بدون لامِ الأمْرِ، وهو تحريفٌ، والأمْرُ للإباحة لا للوجوب.
          قوله: (وَلْيَقْطَعْهُما) الواوُ لا تقتضي ترْتيباً؛ لأنَّه يجبُ عليه قطعهما قبل اللبس، ولا فِدْية عليه حينئذٍ؛ لأنَّها لو وجبتْ لبيَّنَها النَّبيُّ صلعم، وهذا مَوضعُ بيانها.
          وقالَ الحنفيَّة: عليه الفِدْيةُ، كما إذا احتاج إلى حَلْق الرَّأس يحلقه ويفدي.
          وقال الحنابِلةُ: ومَن لم يجد إزاراً لبسَ سَرَاوِيْل، ومتى وجدَ إزاراً خلعَه أو نَعْلَين لبس خُفَّيْن ويحرم قطعهما له.
          واستدلُّوا بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ وجابرٍ في «الصَّحيح»(4): «مَنْ لم يجد نَعْلَيْنِ فلْيلْبَسْ خُفَّيْنِ»، وليس فيه ذِكْر القَطْع، وقالوا: قطعُهما إضاعةُ مالٍ، وأنَّ حديثَ ابنِ عُمَرَ المصرِّح بقطعِهما [خ¦1543] [خ¦5803] [خ¦5852] منْسوخٌ!
          وأُجِيْبَ بأنَّه لا يرتاب أَحدٌ من المُحدِّثين أنَّ حديثَ ابنَ عُمَرَ أصحُّ منْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ؛ لأنَّ حديثَ ابنَ عُمَرَ جاءَ بإسنادٍ وُصفَ بأنَّه أصحُّ الأسانيدِ، واتَّفق عليه عنِ ابنِ عُمر غيرُ واحدٍ من الحفَّاظ، منهم نافعٌ وسالمٌ، / بخلاف حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، فلم يأْتِ مَرْفوعاً إلَّا مِن رِواية جابرِ بنِ زَيْدٍ عَنْهُ.
          وبأنَّه يجبُ حملُ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وجابرٍ على حديثِ ابنِ عُمَرَ؛ لأنَّهما مُطْلَقانِ، وفي حديث ابنِ عُمر زيادةٌ لم يذكُراها، ويجبُ الأخذ بها.
          وبأنَّ إضاعةَ المالِ إنَّما تكون في المنهي عنه، لا فيما أَذِنَ فيْه.
          والسِّرُّ في تحريم المخيطِ وغيره ممَّا ذكر، مخالفةُ العادة والخروج عنِ المألوف لإشعار النَّفس بأمرَين: الخروج عن الدُّنيا، والتَّذكر للبس الأكْفان عِنْد نزع المخيطِ، وتنبيهها على التلبُّس بهذه العِبادة العظيمة بالخرُوج عن معتادها، وذلك مُوجبٌ للإقْبالِ عليها والمحافظةِ على قوانينِها وأرْكانِها وشرائطِها وآدابِها.
          قوله: (وَلَا تَلْبَسُوْا) بفَتْح أوَّله وثالثِه.
          قوله: (زَعْفَرَانٍ) بالتَّنكيْر في رِواية أبي ذَرٍّ.
          وفي رِواية غيرِه: «الزَّعْفَرَانُ» بالتَّعريف.
          وقوله: (أَوْ وَرْسٌ) بفتح الواوِ، وسُكون الرَّاء، بعدها سينٌ مُهمَلةٌ، بالتَّنكيْر لا غير، وهو نبْتٌ أصْفَرُ مثلُ نباتِ السِّمْسِمِ، طَيِّبُ الرِّيح، يُصبغ به بين الصُّفرة والحُمْرةِ، أشهرُ طيبٍ في بلادِ اليَمَنِ.
          لكن قالَ ابنُ العربيِّ(5): الوَرْسُ وإنْ لم يكن طِيْباً، فلَه رائحةٌ طَيْبةٌ، فأرادَ النَّبيُّ صلعم أنْ ينبِّه به على اجتنابِ الطِّيب وما يُشبهه في ملائمة النَّعيمِ.
          وهذا الحِكَم يشترك فيه النِّساءُ مع الرِّجالِ، بخلاف الأوَّل فإنَّه خاصٌّ بالرِّجالِ.
          وهذا الحديثُ ذكَرهُ البخاريُّ في باب: ما(6) يلبس المحرم من الثِّيابِ.


[1] الفتح 3/401.
[2] السنن الكبرى 9326.
[3] كذا في «ز2» و«م»، وليست بباقي النُّسخ.
[4] خ 5804، 5853 ابن عباس، م 5/1179 جابر.
[5] العارضة 4/54.
[6] كذا في الأصل، وفي «م» زيادة: لا.