حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال

          85- قَوله: (إلَّا سَيَطَؤُهُ) [خ¦1881] أي: يدخلُه ويَمْشي عليه.
          وفي نسخةٍ: «سَيَطُوْفُ بِه»، ولعلَّها تَحريفٌ.
          قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ(1): هو على ظاهرِه وعُمومِه عِنْد الجُمهورِ، وشذَّ ابنُ حَزْمٍ(2) فقال: «المرادُ: لا يدخله بعثه وجُنوده»! وكأنَّه استبعدَ إمْكان حلولِ الدَّجَّال جميع البلادِ لقصر مدَّتِه، وغفلَ عمَّا في «صحيح مُسلم»(3) أنَّ بعضَ أيَّامِه يكون قَدْرَ السَّنَة. انتهى.
          قوله: (إلَّا مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةَ) أي: فلا يطَؤهُما، وهو مُستثنى من ضمير المفعولِ في (سَيَطَؤُهُ)، وهو راجعٌ إلى كوْنه مُستثنى من العُموم المستفاد منَ الحصْرِ.
          وفي رِوايةٍ: «وَبَيْت المَقْدِس»، أي: فلا يبقى موضعٌ إلَّا ويدخله إلَّا مكَّةَ والمديْنةَ وبيتَ المقْدِس.
          فقد وردَ عِنْد الطَّبريِّ، من حديث عبدِ الله بنِ عَمْرٍو: «إلَّا الكَعْبةَ وبَيْتَ المَقْدِسِ»(4)، وزادَ أَبو جَعْفرٍ الطحاويُّ(5): «ومَسْجِدَ الطُّوْرِ».
          وفي بعضِ الرِّواياتِ: «فلا يَبْقى له موضعٌ إلَّا ويأخُذه غير مكَّة والمديْنة وبَيْت المقْدِسِ وجَبل الطُّوْرِ؛ فإنَّ الملائكةَ تطرده عَن هذه المواضِعِ»(6).
          قوله: (لَيْسَ لَهُ) سقطتْ لفظةُ (له) مِن رِواية أبي الوَقْت، وسقطَ لَه أيضاً لفظةُ (نَقْبٌ).
          وضميرُ (لَهُ) راجعٌ ﻟ (الدَّجَّالُ)، وهو خبرُ (لَيْس) مُقدَّم، و(مِنْ نِقابِهَا) متعلِّقٌ بمحذوفٍ، حالٌ مِن (نَقْبٌ)، وسُوِّغ مجيءُ الحالِ من النَّكِرة تقدُّمُ الحالِ / عليها، وضميرُ (نِقَابِهَا) عائدٌ على (المَدِيْنَةَ).
          و(نَقْبٌ) اسمُ (لَيْسَ) مؤخَّر، والتَّقدير: ليس نَقْبٌ كائِناً للدَّجَّالِ حالة كون النَّقْب كائناً من نِقابِ المديْنةِ.
          والمرادُ: إنَّه ليس للدَّجَّال بابٌ يدخل منه إلَّا وتمنعه الملائكةُ.
          قولُه: (إلَّا عَلَيْهِ) أي: النَّقْب.
          وقوله: (مَلَائِكَةٌ) وفي رِوايةٍ: «المَلَائِكَةُ».
          قولُه: (صَافِّيْنَ) حالٌ مِن (المَلَائِكَةُ)، وقولُه: (يَحْرُسُوْنَهَا) حالٌ منْ ضميرِ (صَافِّيْنَ)، فهي حالٌ مُتداخِلةٌ.
          أو حالٌ منَ (المَلَائكَةُ)، فهي حالٌ مُترادِفةٌ.
          قوله: (ثُمَّ تَرْجُفُ المَدِيْنةُ) أي: تضْطَرِبُ وتتحرَّك من الزَّلْزلةِ التي أتتْ فيها.
          قال في «المختار»: الرَّجْفَةُ: الزَّلْزَلَةُ، وقَدْ رَجَفَتِ الأَرْضُ، مِنْ بابِ نَصَرَ. انتهى.
          وقال في «المصْباح»: رَجَفَ الشَّيْءُ رَجْفاً، مِنْ بابِ قَتَلَ، وَرَجِيْفاً وَرَجَفَاناً: تَحرَّكَ واضْطَرَبَ. انتهى.
          وقوله: (بِأَهْلِهَا) الباءُ يحتملُ أن تكون سببيَّةً، أي: تتزلزل وتضْطَرِب بسببِ أهْلِها لينتفض إلى الدَّجَّال الكافرُ والمنافقُ.
          وأن تكون للملابسة، أي: ترجف ملتبسةً بأهْلها.
          وقال المُظْهِريُّ(7): (تَرْجُفُ المَدِيْنةُ بِأَهْلِهَا)، أي: تحرِّكهم وتُلقي ميلَ الدَّجَّالِ في قَلْب مَن ليس بمُؤمنٍ خالِصٍ، فعلى هذا فالباءُ صِلَةُ الفِعْل.
          قوله: (رَجَفَاتٍ) بفتَحَاتٍ كما هو الرِّواية، وإلَّا فيجوز إسكانُ الجيْم.
          قوله: (فَيُخْرِجُ إلَيْهِ) أي: إلى الدَّجَّال في الرَّجْفةِ الثَّالثة.
          وفي روايةٍ للحمُّويي والكُشْميهَنيِّ: «فَيُخْرِجُ اللهُ إلى الدَّجَّالِ».
          وقوله: (كُلَّ مُنَافِقٍ وَكَافِرٍ) بالرَّفْع، فاعلٌ على الرِّواية الأُولى.
          وبالنَّصْب، مفعولٌ على الرِّواية الثَّانية.
          ويبقى بالمديْنة المؤمن الخالِص، فلا يُسلَّطُ عَلَيه الدَّجَّالُ.
          وخُروج غَيْره بسبب الرَّجْفةِ لا بسبب الخوْفِ مِن الدَّجَّال، فلا يعارض هذا الحديثُ حينئذٍ ما في حديث أبي بَكْرةَ أنَّه «لا يَدْخُلُ المدِيْنةُ رُعْبُ الدَّجَّالِ» [خ¦1879]؛ لأنَّ المرادَ بالرُّعْبِ: ما يحصل من الفَزَع منْ ذِكْره والخوْفِ من عُتوِّه، لا الرَّجْفة التي تقع بالزَّلزلة لإخْراج مَن ليس بمُخْلِصٍ.
          فائِدةٌ:
          من كذَّب المسيحَ الدَّجَّالَ لا يُؤاخَذ بعَمَلِ سوءٍ سلَفَ مِنْه، كما قالَه القُرْطبيُّ في «التَّذْكِرة»(8).
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: لا يدخلُ الدَّجَّالُ المديْنةَ.
          فهو مَع ما قبله في بابٍ واحدٍ، لكنَّ البخاريَّ قدَّم هذا الحديثَ على الذي قَبْله، فكانَ يَنْبغي للمصنِّفِ أن يجري على منوالِه وأُسلُوبِه.


[1] فتح الباري.
[2] المحلى 7/281.
[3] 110_2937.
[4] هو في المعجم الكبير للطبراني برقم 14292، فلعل الطبري تصحف عن الطبراني، والمؤلف تابع الزرقاني في الموطأ على هذا التصحيف وهو على الصواب في سبل الهدى والرشاد.
[5] شرح مشكل الآثار 4978.
[6] سبل الهدى والرشاد 4/266، وشرح الزرقاني على الموطأ 4/366.
[7] كما في القسطلاني 3/338.
[8] دار المنهاج ص 1284.