حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم

          284- قولُه: (إذا أَنْزَلَ اللهُ بِقَوْمٍ عَذَاباً) [خ¦7108] أي: عُقوبةً لهم على سيِّئِ أعمالِهم.
          قوله: (أصَابَ العَذَابُ مَنْ كَانَ فِيْهِمْ) أي: ممَّن ليس على مِنْهاجهم.
          و(مَنْ) مِن صيَغ العُموم، والمعنى: إنَّ العذابَ يُصيب حتَّى الصَّالحين منهم.
          وعنْدَ الإسْماعيْليِّ، مِن طرِيق أبي النُعمان، عنِ ابن المباركِ: «أصابَ بِه مَنْ بَيْن أظْهُرهم».
          قَوله: (ثُمَّ بُعِثُوا على حَسَبِ أعْمَالِهمْ) أي: إنْ كانت صالحةً فعُقْباهُم صالحة وإلَّا فسيِّئة، فذلك العذابُ طُهرة للصَّالح ونِقْمةٌ على الفاسِق.
          وعن عائشةَ مَرفُوعاً(1): «إنَّ الله تعالى إذا أنزلَ سَطْوتَه بأهْل نِقْمتِه وفيهمُ الصَّالحون قُبضوا معهم، ثمَّ بُعِثوا على نيَّاتِهم وأعْمالِهم».
          صحَّحَه ابنُ حِبَّانَ(2) وأخْرجَه البَيْهقيُّ في «شُعبِه»[7193].
          فلا يلزم من الاشْتراك في الموْت الاشتراك في الثَّواب أوِ العقاب، بل يُجازى كلُّ أحدٍ بعملِه على حسبِ نيَّته، وهذا من الحكم العَدْل؛ لأنَّ أعمالَهم الصَّالحةَ إنَّما يُجازَون بها في الآخِرة، وأمَّا في الدُّنيا فمهما أصابَهم مِن بلاءٍ كان تكْفيراً لما قدَّموه مِن عَمَلٍ سيِّئٍ كتَرْكِ الأمْرِ بالمعروفِ.
          وفي «السُّنن» الأربعة(3)، مِن حديثِ أبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ ☺، سمعَ رسولَ الله صلعم يقول: «إنَّ النَّاسَ إذا رأَوا المُنكَر فلم يُغيِّروه، أوشكَ أنْ يعمَّهمُ اللهُ بعذابٍ».
          وكذا رَواه ابنُ حِبَّانَ وصحَّحَه[305].
          فكان العذاب المرسل في الدُّنيا على الذين ظلموا يتناول مَن كان معهم ولم / ينكِر عليهم، فكان ذلك جزاءً لهم على مداهنتِهم، ثمَّ يوم القيامة يبعث كل منهم فيجازى بعمله، فأمَّا مَن أمَرَ ونهى فلا يرسل الله عليهم العذاب، بل يدفع اللهُ بهم العذاب، ويُؤيِّدُه قولُه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].
          ويدلُّ على التَّعميم لمن لم يَنْه عن المنكرِ وإنْ كان لا يتعاطاه قولُه تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].
          ويُستفاد منْه مشروعيَّة الهرب من الظَّلَمة؛ لأنَّ الإقامةَ معهم من إلْقاء النَّفْس إلى الهلكة؛ قالَه في «بهجة النُّفوس».
          قال: وفي الحديث تحذيرٌ عَظيمٌ لمن سكتَ عن النَّهْيِ، فكيف بمَن داهَنَ، فكيف بمَن رضِيَ، فكيف بمن أعانَ! نسأل اللهُ العافية والسَّلامةَ.
          وعِنْد ابنِ أبي الدُّنيا(4) في كتاب «الأمْرِ بالمعروف»، عن إبراهيمَ بنِ عُمر الصَّنْعانيِّ(5) قال:
          «أَوحى اللهُ تعالى ليُوْشَع بنِ نُونٍ: إنِّي مُهلكٌ مِن قومِك أربعين ألْفاً مِن خِيارِهم وستِّين ألْفاً مِن شِرارِهم، قال: يا رَبِّ هؤلاء الأشْرار، فما بالُ الأخْيار!؟
          فقال: إنَّهم لم يَغْضَبوا لِغضَبي، وكانوا يؤاكِلُونهم ويُشارِبُونهم».
          وقال مالكُ بنُ دِيْنارٍ(6): أَوحى اللهُ تعالى إلى ملَكٍ من الملائكة: أنِ اقْلِب مدينةَ كذا وكذا على أهلِها، قال: يا ربَ إنَّ فيهم عَبْدك فُلاناً ولم يعصك طَرفة عينٍ؟
          فقال: اقْلِبها عليه وعليهم، فإنَّ وجْهَه لم يتغيَّر لي ساعة قطُّ.
          ورَواهُ الطَّبرانيُّ(7) وغيرُه مِن حديث جابرٍ مرفُوعاً، والمحفوظُ كما قالَ البيهقيُّ ما ذكر.
          واعلم أنَّه قد تقوم كثرةُ رُؤية المنكرات مقامَ ارتكابها في سَلْب القُلوب نور التَّمييز والأفكار؛ لأنَّ المُنكرات إذا كثر على القُلوب ورودُها وتكرَّر في العين شهودُها ذهبت عظمتُها من القلوب شيئاً فشيئاً إلى أن يراها الإنسان، فلا يخطر بباله أنها منكراتٌ ولا يفكر أنها معاصٍ، لما أحدث تكرارها من تألف القلوب.
          وفي «القُوْت» لأبي طالبٍ المكِّيِّ عن بعضِهم أنَّه مرَّ يوماً في السُّوق فبالَ الدَّمَ من شدَّة إنكارِه لها بقَلْبِه، وتغيُّرِ مزاجِه لرُؤيتها.
          فلمَّا كان اليوم الثَّاني مَرَّ فرآها فبال دَماً صافياً، فلمَّا كان اليوم الثَّالث مرَّ فرآها فبالَ بوله المعتاد؛ لأنَّ حِدَّة الإنكارِ التي أثَّرت في بدَنِه ذلك الأثر ذهبتْ، فعاد المزاجُ إلى حالِه الأوَّل، وصارتِ البِدْعةُ كأنَّها مألوفةٌ عِنْده معروفةٌ.
          وهذا الحديث ذكره البخاريُّ في باب: «إذا أنزلَ اللهُ بقَوْمٍ عذاباً».


[1] ابن حبان 7314.
[2] ابن حبان 7314.
[3] د 4338، ت 2168، 3057، ـه 4005، حم 1، س في الكبرى 11157.
[4] لم أجد كتابه هذا ووجدته في [العقوبات] له برقم 13.
[5] كذا في «ف3»، وفي الأصل و«ت» و«ز1» و«ز2» و«ز3» و«ز4» و«ز5» و«ف2» و«م»: الصغاني.
[6] [العقوبات] 14.
[7] في الأوسط 7661.