حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

          10- قوله: (عَنْ مُعَاوِيَةَ) [خ¦71] هو ابنُ أبي سُفْيانَ صَخْرِ بنِ حَرْبٍ، كاتِبِ الوَحْي لرَسوْل الله صلعم، ذِي المناقِب الجمَّة، المُتوفَّى في رَجَبٍ سنة ستِّين، وله منَ العُمر ثمانٌ وسَبْعون سنة.
          ولَه في البخاريِّ ثمانيةُ أحاديْث.
          قوله: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ)، وفي رِوايةِ الأصيْليِّ: «سَمِعْتُ رَسولَ الله صلعم»، أي: كلامَه حال كَوْنه يقول.
          قوله: (مَنْ يُرِدِ) (مَنْ) شرطيَّة، و(يُرِدِ) فِعْلُ الشَّرْطِ وهُو بضمِّ المُثنَّاة التَّحتيَّة وكَسْر الرَّاء، منَ الإرادةِ: وهي صفةٌ مخصَّصةٌ لأحدِ طَرَفَي المقدورِ بالوُقوع.
          قوله: (خَيْراً) أي: جميع الخيْرات، أو خَيْراً عظيماً، ونُكِّر (خَيْراً) ليُفيد التَّعميمَ؛ لأنَّ النَّكِرةَ في سياقِ الشَّرْطِ كهي في سياقِ النَّفي، والتَّنكيرُ للتَّعظيم؛ إذِ المقامُ يقتضيه، ولِذا قُدِّر كما مرَّ بجَميع وعَظيم.
          قوله: (يُفَقِّهْهُ) بالجزْم في جواب الشَّرط(1)، أي: يجعله فقيهاً، والفِقْهُ لُغةً: الفهم، والحمل عليه هُنا أَولى من الاصْطلاحيِّ ليعم فهم كُلِّ عِلْم من عُلوم الدِّيْن.
          قوله: (وَإنَّمَا أنَا / قَاسِمٌ) أي: أقسمُ بينكم تبليغ الوَحْي من غير تخصيصٍ، فأنا أقسم بينكم العِلْم قسمة عدل، أي: مُلْقٍ لكم العِلْم فألقي إلى كلِّ واحدٍ ما يَليْق به، فقد أعلمَ النَّبيُّ أصحابَه أنَّه لم يُفضِّل في قسمة ما أُوْحيَ إليه(2) أحَداً مِن أُمَّته على الآخَر، بل سَوَّى في البلاغ وعدَلَ في القسمةِ.
          ويحتمل أن يكون المعنى: وأنا قاسمُ المال بإذْنِه تعالى سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً، لكن سياق الكلام يدلُّ على الأوَّل؛ لأنَّه أخبر أنَّ مَن أراد به خَيراً فَقَّهه في الدِّين، وظاهرُه يدلُّ على الثَّاني؛ لأنَّ القسمةَ حقيقةٌ في الأمْوال.
          فإنْ قُلْتَ: ما وَجْهُ المناسبةِ بين اللَّاحِق والسَّابقِ على الاحتمال الثَّاني؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ موردَ الحديث كان عِنْد قِسمة مالٍ، وخصَّص ╕ بعضَهم بِزيادةٍ لمقتَضٍ اقتضاهُ، فتعرض بعض من خفِيَ عليه الحِكْمة فردَّ عليه صلعم بقولِه: «مَنْ يُرِدِ اللهُ به خَيْراً...» إلى آخِره.
          أي: مَن أرادَ الله له الخير يزِيدُ له في فَهمه في أُمورِ الشَّرْع ولا يتعرَّض لأمْرٍ ليس على وَفق خاطرِه؛ لأنَّ الأمْرَ كُلَّه لله، وهو الذي يعطي ويمنع، ويزيد وينقص، والنَّبيُّ صلعم قاسمٌ بأمْر الله، ليس بمعطٍ حتَّى تنسب إليه الزِّيادة والنُّقصان.
          قالَ الطِّيْبيُّ(3): الواوُ في قولِه «وإنَّما أنا قاسِمٌ» للحال مِن فاعلِ «يُفقِّهه» أو مِن مَفعولِه.
          فإنْ قلْتَ: إنَّما تفيدُ الحصرَ، فمعناه: ما أنا إلَّا قاسِم؛ وهذا لا يصح؛ لأنَّ له صفاتٍ أُخَر مثل كوْنه رَسولاً ومُبشِّراً ونَذيراً؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ الحصرَ إنَّما هو بالنِّسْبة إلى اعتقادِ السَّامِع، إذْ يعتقد كَونه معطياً لا قاسِماً، فهو قصر قلب، أي: ما أنا إلَّا قاسم لا معط.
          وإنِ اعتقدَهُما كان من قبيل قصر الإفراد، أي: ما أنا متَّصف بالوَصفَين بلْ أنا قاسم فقطْ، وإنِ اعتقدَ ثُبوتَ أحدِهما لا بعَيْنه كان مِن قبيل قصر التَّعيين.
          قوله: (وَاللهُ يُعْطِي) أي: من الفَهْم على قَدْر ما تعلَّقت به إرادته، فهو يُوفِّق مَن شاءَ منكُم للفَهم والتَّفكُّر في المعنى، فقد أعلمَ النَّبيُّ صلعم بأنَّ التفاوت في أفهامِكُم منه سُبحانه.
          وقد قالَ بعضُ الصَّحابةِ: «نسمَعُ الحديثَ فلا نفهم منه إلَّا الظَّاهر الجلي، ويسمعه آخَرُ منهم أوِ القَرْنُ الذي يليهم أو ممَّن أتى بعدهم فيستنبط مِنْه مسائلَ كثيرةً، وذلك فَضْلُ الله يُؤتيه مَن يشاء».
          قوله (وَلَنْ تَزَالَ) مضارعُ زال النَّاقصة، و(هذه الأُمَّةُ) اسمُها، و(قَائِمَةً) / بالنَّصْب خبرُها، والمرادُ بالأُمَّة: الجماعةُ المتمسِّكُون بسُنَّة المُصْطَفى صلعم.
          قالَ البخاريُّ: المرادُ بهم أهلُ العِلْم. وقال الإمامُ أحمدُ: إنْ لم يكُونوا أهْلَ الحديْث فلا أدْري مَن هُمْ. وقال النَّوويُّ(4): يحتمل أن تكون هذه الطَّائفة مفرَّقةً في أنواع المؤْمنين، فمنهم مُّقاتلون، ومنهمْ فُقهاء، ومنهم مُّحدِّثون، ومنهم زهَّاد، إلى غير ذلك، ولعلَّ هذا هو الأظْهر.
          قوله: (قَائِمَةً) أي: مقيمة ومُستمرَّة على أمْرِ الله، أي: الدِّيْن الحقُّ، أوِ التَّكاليف.
          قوله: (حَتَّى يَأْتيَ أَمْرُ الله) غايةٌ لقولِه (لَنْ تَزَالَ).
          واستُشكل بأنَّ ما بعد الغاية مُخالفٌ لما قبلها؛ إذْ يلزمُ منْه أن لا تكون هذه الأُمَّة يَوْم القيامةِ على الحقِّ!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّ المرادَ من (أَمْرُ الله) الثَّاني لا الأوَّل، وهي معدومةٌ فيه.
          أوِ المرادُ بالغاية: تأكيدُ التَّأبيْد على حدِّ قولِه: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:107].
          أَو: هي غايةٌ لقولِه (لا يَضُرُّهُمْ) لأنَّه أقربُ، ويكون المعنى: حتَّى يأْتيَ بلاءُ الله فيضُرُّهم حينئذٍ، فيكون ما بعدها مخالفاً لما قبْلَها.
          فإن قلْتَ: يُنافِي هذا الحديثُ قولَه ╕: «لا تَقُومُ السَّاعة إلَّا على شِرارِ النَّاسِ»، وقولَه أيضاً: «لا تَقُوْمُ السَّاعة حتَّى لا يقُوْل أحَدٌ: الله الله»!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ المرادَ ﺑ (أَمْرُ الله) الرِّيحُ اللَّيِّنةُ التي تأْتي قُرب السَّاعة، فتأخُذ رُوحَ كُلِّ مؤمنٍ ومُؤمنة، وهذا قبل يوم القيامةِ.
          أوِ المرادُ من هذَيْن الحديثَين الخصوصُ، فالمعنى: لا تقوم على أحَدٍ يُوحِّد الله بموضِع كذا، أو: لا تقوم إلَّا على شِرار النَّاس بمَوضع كذا، بدليلِ حديث: «لا تَزال طائفة مِن أُمَّتي ظاهِرِيْنَ على الحقِّ، لا يَضُرُّهُم مَّنْ خالَفَهُم»، قيل: وأينَ هُمْ يا رسول الله؟
          قال: «ببَيْتِ المَقْدِس».
          وهذا الحديثُ ذكَرهُ البُخاريُّ في باب: «مَن يُرِد الله به خَيْراً يُفقِّهْه في الدِّيْن».


[1] كذا في «ز2» و«ز3» و«م»، وفي الأصل و«ز1» و«ز5» وباقي النُّسخ: الأمر.
وفي هامش الأصل: صوابه: في جواب (مَن).
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: الله.
[3] شرح المشكاة 2/661.
[4] شرح مسلم 13/67.