حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله

          40- قوله: (سَبْعَةٌ) [خ¦660] هذا العدَدُ لا مفهوم له بدليْلِ ورودِ غيرِها.
          فقد وردَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ(1): «مَنْ قَرأَ إذا صَلَّى الغداةَ ثلاثَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورةِ الأنعام إلى: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3] أنزلَ اللهُ أربعين ألْفَ مَلَكٍ، يكتبونَ لهُ مثلَ أعْمالِهم.
          ونزلَ إليه مَلَكٌ منْ فَوْقِ سَبْعِ سمواتٍ ومعَه مِرْزَبَةٌ منْ حديْدٍ، فإنْ أوحى الشَّيطانُ في قَلْبِه شيئاً منَ الشَّرِّ ضَرَبَهُ ضَرْبةً، حتَّى يكون بَيْنَه وبينَه سبْعونَ حجاباً.
          وإذا كانَ يَوْمُ القيامةِ قالَ اللهُ تعالى: / أنا رَبُّكَ وأنتَ عَبْدي، امْضِ في ظِلِّي، واشْرَبْ مِنَ الكَوْثرِ، واغْتسِلْ منَ السَّلْسَبيْلِ، وادخُلِ الجنَّةَ بغَيْر حِسابٍ ولا عِقابٍ».
          وقد وردَ(2): «أَوْحى اللهُ تعالى إلى سيِّدِنا ابراهيمَ ╕: يا خَليْلي، حَسِّنْ خُلُقَكَ ولَوْ مَع الكفَّارِ تَدْخُلْ مَداخِلَ الأبرارِ، وإنَّ كلِمَتي سَبَقَتْ لمن حَسَّنَ خُلُقَه أنْ أُظِلَّهُ تحتَ ظِلِّ عَرْشي، وأُسْقِيَهُ مِن حَظِيْرة قُدْسي، وأُدْنيَهُ مِنْ جِوَاري».
          وقد ورَدَ: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه أظَلَّه اللهُ تحتَ ظِلِّ عَرْشِه يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الوُضُوءُ على المَكَارِه، والمَشيُ إلى المساجِدِ في الظُّلَم، وإطْعامُ الجائعِ»(3).
          ووردَ عنْ وَهْبِ بنِ مُنبِّهٍ(4) وكَعْب الأحْبار قالا: قال مُوسى: إلهِي ما جَزاءُ مَن ذَكَركَ بلسانِه وقَلْبِه؟ قال: «يا مُوسى، أُظِلُّه يَوْمَ القيامةِ بظِلِّ عَرْشي، وأجعَلُه في كَنَفي».
          ووردَ عنْ كَعْبِ بن مالكٍ قال: أوحى اللهُ إلى مُوسى في التَّوراة: «يا مُوسى، مَن أَمَرَ بالمعْرُوفِ ونَهى عنِ المُنكَرِ ودعا النَّاسَ إلى طاعَتي، فلَه محبَّتي في الدُّنيا وفي القَبْر، وفي القيامة في ظِلِّي»(5).
          وعنِ ابن مسْعودٍ(6) قال: إنَّ مُوسى ◙ لمَّا قرَّبَه اللهُ نَجِيّاً، أبصَرَ عَبْداً جالِساً في ظِلِّ العَرْشِ، فسألَه: أي رَبّ مَن هذا؟ قال: «عَبْدي لا يَحْسُدُ النَّاسَ على ما آتاهُم اللهُ منْ فَضْلِه، بَرٌّ بالوالدَين، لا يَمْشي بالنَّميْمةِ».
          وعَن عُتْبةَ بنِ عبدِ الله السُّلَميِّ(7) قال: قالَ رسولُ الله صلعم: «القَتْلى ثَلَاثةٌ...» وذَكَر منهُم: «رجُلاً مُؤمِناً جاهَدَ بنفْسِه ومالِه في سبيْلِ الله تعالى، حتَّى إذا لقي العدُوَّ قاتلَهم حتَّى يُقْتَل؛ فذلك الشَّهيدُ المُفْتَخِرُ في خَيْمةِ الله تحتَ عَرْشِه لا يَفْضُلُه النَّبيُّونَ إلَّا بدرجةِ النُّبوَّةِ».
          وعَن عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ قال: قالَ رسوْلُ الله صلعم: «السَّابِقُونَ إلى ظِلِّ العَرْشِ يَوْم القِيامةِ، طُوْبى لهم»، قيلَ: يا رَسُوْلَ الله ومَنْ هُم؟ قالَ: «شِيْعَتُكَ يا عليُّ [ومُحبُّوْكَ](8)».
          أي: الذين تُحبُّهم.
          وعنِ ابنِ عبَّاسٍ مَرْفُوعاً(9): «اللَّهمَّ اغْفِرْ للمُعلِّمين، وأَطِلْ أعْمارَهُم، وأظِلَّهُم تحتَ ظِلِّكَ؛ فإنَّهم يُعلِّمونَ كِتابَكَ المُنزَّل».
          فهذا كلُّه دليلٌ على أنَّ العددَ لا مفهوم له.
          قوله: (فِي ظِلِّهِ) الإضافةُ فيه(10) للتَّشريف، وكلُّ ظِلٍّ فهو ملكٌ / لله، وأمَّا الظِّلُّ الحقيْقيُّ فهو مُنزَّه عنْه تعالى؛ لأنَّه مِن خَواصِّ الأجْسامِ.
          أوْ في الكلام مُضافٌ مُقدَّر، أي: ظِلِّ عَرْشِه.
          وقيل: المرادُ بالظِّلِّ: الكَرامةُ والحمايةُ، يقال: أنا في ظِلِّ فُلانٍ، أي: حمايتِهِ.
          قوله: (يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ)، (لَا) نافيةٌ للجِنْس، و(ظِلَّ) اسمُها مبْنيٌّ على الفتْح في محلِّ نَصْبٍ، وخبرُها محذوفٌ تقْديرُه موجودٌ، و(ظِلُّهُ) بالرَّفْع بَدَلٌ منَ الضَّميْر المُستَتِر في خبَرِها، أو بالنَّصْبِ على الاستِثناءِ.
          والمرادُ بذلك اليَوْم يَوْمُ القيامة، الذي يقُومُ فيه النَّاسُ لرَبِّ العالَمين، وتَدْنو الشَّمْس من الخلائق، ويشتدُّ عليهم حَرُّها ويأخذهم العَرَقُ ولا ظِلّ في ذلك اليوم إلَّا ظلّ العَرْشِ، فيظلّ اللهُ تحتَه مَن يرضى عنْه، ويُبعد عنْه مَن لا يرضى عنْه.
          جعلَنا اللهُ تعالى ممَّن يظلّهم اللهُ تعالى تحتَ ظِلِّ عَرْشِه.
          قوله: (الإمَامُ العَادِلُ) المرادُ بِه صاحبُ الولاية العُظمى، و(العَادِلُ) التَّابعُ لأوامِر الله، فيضعُ كُلَّ شيءٍ في مَوضعِه من غير إفْراطٍ ولا تفْريطٍ، وقُدِّمَ على ما بَعْده لعُموم نفْعِه، ويلتحقُ به كُلُّ مَن وَلِيَ شيئاً منْ أُمور المسلمين فعدلَ فيه.
          ويؤيِّدُه رِوايةُ مسْلمٍ[18/1827]، من حديثِ عبدِ الله بنِ عَمْرٍو رَفَعَه: «إنَّ المُقْسِطِيْنَ عِنْد الله على مَنابِر مِنْ نُوْرٍ عَن يَمِيْنِ الرَّحمن، الذين يَعْدِلُوْنَ في حُكْمِهم وأهْلِيْهم وَمَا وُلُّوا».
          وقد جاءَ في الحديْث(11): «الوَاليُّ العادِلُ ظِلُّ الله في الأرْضِ، فمَنْ نَصَحَه في نَفْسِه أوْ في عيالِه أظلَّه اللهُ بظِلِّه يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه».
          وقالَ ╕(12): «يَوْمٌ مِن أيَّام عادلٍ أفْضَلُ مِنْ عِبادةِ سِتِّين سنةً، وَحَدٌّ يُقامُ في الأرْضِ أرْبَى _وفي رِوايةٍ: أزْكى_ فيْها مِن مَطَرٍ أرْبعين صَباحاً».
          وقال ╕: «عَدْلُ ساعةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبادةِ سِتِّين سَنةً».
          وقالَ ╕: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُوْرِ المُسْلمين شَيئاً، لا ينظُر اللهُ في حاجَتِه حتَّى يَنْظُرَ في حاجَتِهِم».
          أي: لا يقضي اللهُ حاجَتَه حتَّى يقضي حاجةَ النَّاسِ.
          قوله: (وَشَابٌّ) لم يقُلْ بدَلَه: ورجُلٌ؛ لأنَّ العِبادة مِن الشَّابِّ أشدُّ وأشقُّ لكَثرة الدَّواعي وغلبة الشَّهواتِ وقوَّة / البواعِث على مُتابعة الهوى، فمُلازمةُ العبادةِ حينئذٍ أشدُّ وأَدَلُّ على غَلَبةِ التَّقوى.
          والظَّاهر أنَّ المرادَ بالشَّابِّ هُنا: مَن لم يُجاوز الأربعين.
          قولُه: (نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ) أي: بأنْ تغلبَ طاعتُه على معصيتِه من أوَّل أمرِه.
          وفي رِواية الإمامِ أحمدَ[9663]، عَن يحيى القَطَّانِ: «بعِبادَةِ الله»، وهي رِوايةُ مُسلمٍ[91/1031]، وهما بمعنًى.
          زادَ حمَّادُ بنُ زيْدٍ(13)، عن عُبيدِالله بنِ عُمَرَ: «حَتَّى تُوُفِّيَ على ذلِكَ»، وفي حديثِ سَلْمانَ(14): «أفنى شَبَابَهُ ونَشَاطَهُ في عِبادَةِ الله».
          قوله: (وَرَجُلٌ) المرادُ به الذَّكَر البالِغ أعمُّ مِن أنْ يكون شابّاً أوْ لَا.
          وقوْله: (مُعَلَّقٌ) بفتْحِ اللَّامِ.
          وفي رِوايةٍ: «مُتَعَلِّقٌ» بزيادةِ مُثنَّاة فَوقيَّة بعد الميم، مع كسرِ اللَّام، أي: شديدُ الحبِّ للمساجِد، وإن كان جسدُه خارِجاً عنْها، وكنَّى به عنِ انتظارِ أوْقاتِ الصَّلاة فلا يُصلِّي صلاةً في المسجد ويخرج منْه إلَّا وهو ينتظرُ أُخرى ليُصلِّيها فيه، فهو مُلازِمٌ للمَسْجِد بقَلْبِه وإنْ عَرَضَ لجسدِه عارِضٌ.
          قوله: (تَحَابَّا) بتشْديدِ المُوحَّدة، وأصلُه: تَحابَبَا، فلمَّا اجتمعَ المثلان أُسكنَ الأوَّل منهُما وأُدغمَ في الثَّاني، أي: أحبَّ كلٌّ منهما الآخَرَ حقيقةً لا إظْهاراً.
          ووقعَ في رِواية حمَّادِ بنِ زيدٍ: «ورَجُلان قالَ كُلٌّ منهُما للآخَرِ: إنِّي أُحبُّكَ في الله»، فصُدِّرَا على ذلك، وليس التَّفاعل هُنا كهو في تَجاهل، أي: أظْهرَ الجهْلَ مِن نفْسِه، بلِ المرادُ التَّلبُّسُ بالحبِّ سواءٌ أظْهرَاهُ للنَّاسِ أوْ لَا.
          قوله: (فِي الله) أي: لأجْلِه، لا لغَرَضٍ دُنْيويٍّ.
          وقوله: (اجْتَمَعَا عَلَيْهِ) أي: استمرَّا على الحبِّ لله ما دَامَاْ حَيَّيْن، سواءٌ كان اجتماعُهما بأجسادِهما حقيقةً أمْ لا.
          وفي رِوايةٍ: «اجْتَمَعَا على ذلِكَ».
          وقوله: (وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) أي: بالمَوْتِ، ولم يقطعاها لعارِضٍ دُنيويٍّ، بلِ استَمرَّا عليها حتَّى فرَّقَ بينهُما الموتُ(15).
          وعُدَّت هذه الخصلةُ واحدةً مَع أنَّ مُتعاطيها اثنان؛ لأنَّ المحبَّةَ لا تتمُّ إلَّا باثنَين، أو لمَّا كان المتحابَّانِ بمعنًى واحدٍ كان عَدُّ أحدِهما مُغْنياً عَن عَدِّ الآخَرِ؛ لأنَّ الغَرَضَ عدُّ الخصالِ لا عدّ جميعِ مَن اتَّصفَ بها.
          قولُه: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ) أي: للزِّنا بها؛ وهو ما جزَمَ به القُرْطبيُّ(16).
          وقالَ بعضُهم: يحتملُ أنْ يكون دعته إلى التَّزوُّج بها، فخافَ أن يشتغِلَ عنِ / العِبادةِ بالافْتِتان بها، أو خافَ أنْ لا يقوم بحَقِّها لشغله بالعبادةِ عنِ التَّكسُّب بما يليق بها.
          والأوَّلُ أظهرُ.
          والصَّبْرُ عنِ الموصوفة بما ذكر مِن أكْمل المراتب، لكَثرة الرَّغبة في مثلِها وعسر تحصيلِها، لاسِيَّما وقد أغنتْ عن مشاق التَّوصُّل إليها بمُراودةٍ ونحوِها، وهي مَرتبةٌ صِدِّيقيَّة ووراثةٌ نبَويَّة.
          قولُه: (ذَاتُ مَنْصِبٍ) بكسرِ الصَّادِ كمَسْجِدٍ، والمرادُ به الأصلُ أوِ الشَّرَفُ أَوِ المالُ.
          وقوله: (وَجَمَالٍ) أي: حُسن.
          وإذا انتفى من المرأة أحدُ الوصْفَين ودَعَتْهُ وقال: (إنِّي أَخَافُ اللهَ تعالى) هلْ تحصل لَه تلْك الخُصوصيَّة أَمْ لا !؟
          ظاهرُ الحديْث الثَّاني.
          قوله: (فَقَالَ) أي: بلسانِه زَجراً لها عنِ الفاحشة أوِ اعْتذاراً إليها، أو بقَلْبِه زجراً لنفسه. قالَ القُرْطبيُّ(17): إنَّما يصدرُ ذلك عن شِدَّة تخوّف مِن الله تعالى ومتينِ تقوًى وحَياءٍ.
          وقوله: (إنِّي أَخَافُ اللهَ)، وفي رِوايةٍ زيادة: «رَبَّ العالَميْن».
          قوله: (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ(18)) أي: تطوّع.
          أمَّا الصَّدقةُ الواجِبة فإظْهارها أفضَلُ.
          وقد وردَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ(19): «نفَقةُ السِّرِّ في التَّطوّع تَفْضُلُ عَلَانِيَتَها بسَبْعين ضِعْفاً، وصَدَقةُ الفَرْضِ عَلَانيتُها أفضلُ مِنْ سِرِّها بخَمْسةٍ وعِشْرينَ ضِعْفاً».
          قوله: (أَخْفَى) يحتملُ أنْ يكونَ على حذْفِ الواوِ، وهذه الواوُ يحتملُ أنْ تكونَ عاطِفةً على (تَصَدَّقَ)، أو للحالِ مَع تقديرِ «قَدْ»، فهي جُملةٌ ماضوية حاليَّة(20) مقْرونةٌ بالواوِ و«قَدْ» المُقدَّرتَين.
          وفي رِوايةٍ: «تَصَدَّقَ فأَخْفَى»(21).
          وفي روَايةٍ: «فأَخْفَاهَا» [خ¦1423].
          وفي رِوايَةٍ: «تَصَدَّقَ إخْفَاءً»(22)، بكسرِ الهمْزةِ، والمَدِّ، أي: صَدَقَةَ إخْفاءٍ، فهو مَصْدَرٌ(23) منصوبٌ على المفعوليَّة المطْلَقة على حذف مضافٍ، والعاملُ فيه (تَصَدَّقَ).
          أو على الحال من الفاعِل، أي: مخفياً، فالمصْدرُ بمعنى اسم الفاعِلِ، أو: ذا إخْفاءٍ، فهو على حذفِ مُضافٍ، أو يجعل نفس الإخفاء مُبالغةً.
          قوله: (حَتَّى لا تَعْلَمَ...) إلى آخرِه.
          بالرَّفْع: نحو: مَرِضَ زيدٌ حتَّى لا يَرْجُوْنَهُ، فحتَّى تفريعِيَّة.
          وبالنَّصْبِ: نحو: سِرْتُ حتَّى تَغِيْبَ الشَّمْسُ، فهي غائيَّةٌ.
          وذِكْر اليَمين والشِّمال مُبالغةٌ في الإخْفاءِ والإسْرارِ في الصَّدقةِ، وإنَّما بالغَ بهما دون غيرهما لقُربهما من بعضِهما، أو لمُلازمتِهما، ومعناه: لو قُدِّرتَ الشِّمالُ رجُلاً مُستيقِظاً لمَا عَلِمَ بصَدَقةِ اليمينِ / لِمُبالَغَتِه في الإخْفاءِ.
          وقيل: هُو من مَجازِ الحذفِ، أي: حتَّى لا يعلم مَلَك شمالِه، أو حتَّى لا يعلم مَن على شمالِه من النَّاس.
          أوْ هو منْ باب تسميةِ الكُلِّ بالجزْءِ، فالمرادُ ﺑ (شِمَالِهِ): نفْسُه، أي: إنَّ نفْسَه لا تعلم ما تُنْفقُ يَمينُه مُبالغةً.
          ووقعَ في «مُسلمٍ»[91/1031]: «حتَّى لا تَعْلَمَ يَمِيْنُه ما تُنْفِقُ شِمالُهُ».
          ولا يخفى أنَّ الصَّوابَ الأوَّلُ؛ لأنَّ السُّنَّة المعهودةَ إعطاءُ الصَّدقةِ باليمين لا بالشِّمال، والوَهَمُ فيه مِن أحدِ رُواتِه، وهذا يُسمِّيه أهْلُ الصِّناعةِ: المَقْلُوْبَ، ويكون في المتْنِ والإسْنادِ.
          قوله: (ذَكَرَ اللهَ) أي: بقَلْبه منَ التَّذكُّر، أو بلسانه مِن الذِّكْر.
          وقوله: (خَالِياً) أي: مِن الخلْق؛ لأنَّه أقْرب إلى الإخلاصِ وأبعدُ مِن الرِّياءِ.
          أو (خَالِياً) من الالتِفاتِ إلى غير الله تعالى وإنْ كانَ في مَلَإ؛ ويؤيِّدُه رِوايةُ البيهقيِّ(24): «ذُكِرَ اللهُ بينَ يَدَيْهِ».
          ويؤيِّدُ الأوَّل رِوايةُ ابنِ المباركِ(25) وحَمَّادِ(26) بن زيدٍ: «ذَكَرَ اللهَ في خَلَاءٍ»، أي: في مَوضعٍ خالٍ، وهي أصحُّ.
          قوله: (فَفَاضَتْ عَيْناهُ).
          قال في «المخْتَار»: وفَاضَ الماءُ، أي: كَثُرَ حَتَّى سَالَ على ضِفَّةِ(27) الوادِي، وبابُه بَاعَ. [انتهى](28).
          أي: فاضَتِ الدُّمُوع من عَيْنَيه لرِقَّة قلْبِه وشدَّة خَوْفِه مِن جلالِه، أو مزيد تشوّقه إلى جمالِه، والفيضُ انصبابٌ عنِ امْتِلاءٍ، فوُضع مَوضعَ الامْتلاءِ للمُبالغةِ، أو جُعلتِ العَيْن من فرط البكاءِ كأنَّها تفيض بنفسِها.
          قال القُرْطبيُّ(29): وفيضُ العَيْن بحسَبِ حالِ الذَّاكِر، وبحسب ما ينكشف لَه، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاءُ منْ خشيةِ الله، وفي حال أوْصاف الجمالِ يكون البكاءُ من الشَّوْقِ إليْه.
          قلتُ: قد صرَّحَ في بعض الرِّواياتِ بالأوَّل، فَفي رِواية حمَّادِ بنِ زيدٍ: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيةِ الله»، ونحوه في رِوايةِ البَيْهقيِّ.
          ويشهد لَه ما رواهُ الحاكمُ[7668] مِن حديْث أَنسٍ مَرفُوعاً: «مَنْ ذَكَر اللهَ فَفَاضَتْ عَيْناهُ مِنْ خَشْيةِ الله حتَّى يُصِيْبَ الأرْضَ مِنْ دُمُوْعِهِ، لم يُعذَّبْ يَوْمَ القِيامةِ».
          تَنْبِيهٌ:
          ذِكْرُ الرِّجالِ في هذا الحديثِ لا مفهوم لَه، بلْ يشتركُ النِّساءُ معهم فيما ذكر.
          نَعَمْ؛ لا يدخُلن(30) في الإمامة العُظمى إنْ(31) كانَ المُرادُ بالإمام العادِل: الإمامَ الأعْظمَ؛ / وإلَّا فيُمكن دُخول المرأةِ في الإمام العادِل حيثُ تكون ذات عيالٍ فتعدلَ فيه(32)، أو تغلَّبت على الإمامة.
          ولا تدخلن في خصلة مُلازمة المسْجدِ؛ لأنَّ صلاتهنَّ في بُيُوتهنَّ أفضلُ مِن المسجِد، وما عدا ذلك فالمُشاركةُ فيه حاصِلةٌ لهنَّ، حتَّى الرَّجُل الذي دَعَتْه المرأة، فإنَّه يتصوّر في امرأةٍ دَعاها مَلِكٌ جميل _مَثَلاً_ فامتنعتْ خَوْفاً من الله تعالى مَع حاجَتِها.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: من جلس في المسجدِ ينتظرُ الصَّلاةَ.


[1] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش ص77 والسيوطي في [تمهيد العرش في الخصال الموجبة لظل العرش] وقال: هذا حديث غريب؛ والمتهم به: إبراهيم بن إسحق، قال الدارقطني: إنه متروك.......
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط 6506.
[3] ذكره صاحب [اتحاف الخيرة المهرة] 7748 وقال: رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو القاسم الأصبهاني.
[4] حلية الأولياء 4/45.
[5] أخرجه أبو نعيم في حلية الاولياء ░6/35▒.
[6] في شعب الإيمان 6201 عن موسى بن سعيد وليس عن ابن مسعود وهو بلفظ قريب في مصنف ابن أبي شيبة 27125 عن عمرو بن ميمون.
[7] حم 17693، البيهقي 18993، الدارمي 2411.
[8] في الأصل: «ومحبوبك»، والمثبتُ من المصادِر.
[9] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 3/277، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
[10] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[11] ذكره السيوطي في جمع الجوامع 10879 وعزاه لابن شاهين والأصبهاني معاً في الترغيب؛ وهو ضعيف.
[12] أورده صاحب اتحاف الخيرة المهرة 2/4198 وقال: رواه الأصبهاني بسند ضعيف.
[13] في رواية الجوزقي كما في الفتح 2/145 نقلاً عن العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
[14] عند سعيد بن منصور كما في الفتح 2/145 نقلاً عن العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
[15] قوله: «وبم يقطعاها... بينهما الموت» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».
[16] المفهم 3/76.
[17] المفهم 2/76.
[18] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[19] أخرجه الطبري في تفسيره ░6197▒.
[20] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[21] عزاها ابن حجر في الفتح 2/146 لمسند أحمد.
[22] وقعت للأصيلي كما في الفتح 2/146.
[23] كذا في الأصل، وسقطت من «م».
[24] لم أجدها وعزاها للبيهقي ابن حجر في الفتح 2/147.
[25] عند البيهقي 5186.
[26] كذا في «ز5» و«م»، وفي الأصل: حماد.
[27] كذا في الأصل، وفي «م»: شفة.
[28] ما بين الحاصرتَين منِّي.
[29] المفهم 3/77 بتصرف سببه النقل عن ابن حجر 2/147.
[30] كذا في الأصل، وفي «م»: تدخلن.
[31] كذا في الأصل، وفي «م»: إذا.
[32] كذا في الأصل، وفي «م»: فيهم.