حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إني أراك تحب الغنم والبادية

          35- قوله: (ابنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) [خ¦609] بمُهمَلاتٍ مفْتوحاتٍ إلَّا العَين الأُولى فساكِنةٌ، وهو عَمْرُو بنُ زيدٍ، وهُو جَدُّ عبد الرَّحمن؛ لأنَّه عبد الرَّحمن بن عبدِ الله بن أبي صَعْصَعةَ.
          قوله: (ثُمَّ المازِنِيِّ) بالزَّاي والنُّونِ المكْسورتَين، نِسبةً لمازِنٍ اسمُ قبيلةٍ، فهُو أنصاريٌّ مازِنيٌّ.
          قوله: (عَنْ أَبِيْهِ) أي: أبي عبد الرَّحمن وهو عبدُ الله.
          وقوله: (إنَّهُ) أي: أباهُ عبدَ الله.
          وقولُه: / (أَخْبَرَهُ) أي: أخبر ابنَه عبد الرَّحمن.
          وقولهُ: (قَالَ) أي: أبو سعيْدٍ الخُدْريُّ.
          وقوله: (لَهُ) أي: لأبِيه وهو عبد الله، أي: قالَ أبو سعيدٍ الخُدْري لعبْدِ الله: (إنِّي أَرَاكَ...) إلى آخرِه، ثمَّ إنَّ عبدَ الله أخبرَ ابنَه عبد الرَّحمن.
          قوله: (وَالبَادِيَةَ) أي: وتُحِبُّ البادِيةَ، أي: الصَّحراء التي لا عمارة فيها لأجْل إصلاحِ الغَنَم بالرَّعي، وهو في الغالبِ يكون في الباديةِ.
          قوله: (في غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يحتملُ أنْ يكونَ (أَوْ) للشَّكِّ من الرَّاوي.
          ويحتملُ أنْ يكونَ للتَّنويع؛ لأنَّه قد يكون في غنَمٍ بلا باديةٍ وقد يكون في باديةٍ بلا غَنمٍ، وقد يكون فيهما مَعاً وقد لا يكون فيهما مَعاً، وعلى كُلِّ حالٍ لا يترك الأذان.
          قوله: (فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ) أي: أعلمت بوقتِها.
          وفي رِوايةٍ: «للصَّلَاةِ» باللَّام بَدَلَ الموحَّدة، أي: لأجْلها؛ لأنَّ الأذان حَقٌّ لها لا للوقْت.
          قوله: (فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي: بالأذان.
          وقوله: (لا يَسْمَعُ مَدَى) أي: غاية صَوْتِ المؤذِّن، فالمؤذِّن لا يُشْهَدُ له إلَّا إذا استوفى وسْعَه وطاقتَه في مَدِّ الصَّوْتِ.
          وظاهرُ الحديثِ أنَّه لا يشهد له إلَّا البعيد، وليس كذلك، إلَّا أنْ يقالَ خصَّ غاية الصَّوْت لكونها أخفى مِن ابتِدائه، فإذا شهِدَ له من بَعُدَ عنْه ووصل إليه مُنتهى صوته فَلَأَن يَشْهَدَ له مَن دَنا منْه وسَمِعَ مبادي صوتِه أَوْلى.
          قال في «مُختصر النِّهاية»(1): «والمؤذِّنُ يُغْفَرُ لَه مَدَى صَوْتِه»، أي: يستكمِل المغْفرةَ إنِ استوفى وُسْعَه في مَدِّ الصَّوت، فيَبْلغ الغايةَ منَ المَغْفرة إذا بلَغَ الغاية منَ الصَّوْتِ.
          أو أنَّه تَمثيلٌ وتشْبيهٌ، يريدُ أنَّ المكانَ الذي يَنْتهي إليه الصَّوْتُ لو قُدِّر أنْ يكون ما بين أقصاهُ وبين مَقامِ المؤذِّنِ الذي فيه ذُنوبٌ تملأ تلك المسافة لغَفَرَها اللهُ تعالى لَه.
          واستشهدَ المُنْذِريُّ للأوَّل برِواية «مَدَّ صَوْتِهِ» بتشديد الدَّال، أي: بقَدْر مَدِّ صَوْتِه.
          قوله: (وَلَا شَيْءٌ) أي: منْ حيوانٍ أو جمادٍ، بأن يخلقَ الله تعالى له إدْراكاً، وهو من عطْف العامِّ على الخاصِّ.
          ولأبي داوُد(2) والنَّسائيِّ(3): «المُؤذِّنُ يُغْفَرُ لَه مَدَّ صَوْتِه، ويَشْهَدُ لهُ كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ».
          ولابنِ خُزيمةَ [389]: «لا يَسْمَعُ صَوْتَه شَجَرٌ، ولا مَدَرٌ(4)، ولا حَجَرٌ، ولا جِنٌّ، ولا إنْسٌ»(5).
          فهذانِ الحديْثان مبيِّنان للمُراد مِن قوله في حديث الباب (ولا شَيْءٌ)، ودخل في (شيءٌ) إبْليسُ.
          فإن قلْتَ: هو عَدوُّ ابنِ آدَمَ، فكيف يشهد له!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ الممنوعَ شهادةُ العدُوِّ على عَدوِّه لا شهادته / له، بلْ هو أكملُ وأبلغُ، والفَضْلُ(6) ما شهدَتْ به الأعداءُ.
          قوله: (إلَّا شَهِدَ لَهُ) بلفظ الماضي، وفي رِوايةٍ: «إلَّا يَشْهَدُ لَهُ».
          والسِّرُّ في هذه الشَّهادَةِ _وكفى بالله شهيداً_ اشْتهارُ المشهودِ له بالفضلِ وعُلوِّ الدَّرجة، كما أنَّ اللهَ تعالى يَفْضَحُ بالشَّهادَة قوْماً ويكرم بها آخَرين.
          وفي الحديث دليلٌ على أنَّ الحيوان والجمادَ يفرحُ بالصَّالحين، وقد جاءَ في معنى قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:29] أنَّ الأرضَ التي كان المؤمنُ يتعبَّد فيها والبابَ الذي كان عَمَلُهُ يصعد منْه إلى السَّماء يبكيان عليه أربعين يوماً.
          والمؤذِّن احْتساباً لا تأكُل الأرضُ جسمَه، وقد زِيد عليه تسعة، وقد نظم الشَّيخُ التَّتَائِيُّ خمسةً منهم، فقال:
لا تأكُلُ الأرضُ جِسْماً للنَّبيِّ ولا                     لِعالِمٍ(7) وشهيدٍ قَتْلَ مُعْتَرَكِ
ولا لِقارِئ قُرآنٍ ومُحْتَسبٍ                     أذَانُه لإلهٍ مُجْرِيَ الفَلَكِ
          وأَضافَ إليها الشَّيخُ الأُجْهُوريُّ خمسةً، فقال:
وزِيْدَ مَنْ صَارَ صديقاً كذلك مَنْ                     غَدَا مُحِبّاً لِأَجْلِ الواحِدِ المَلِكِ
ومَن يَمُوتُ بِطَعْنٍ أوْ يُرابِط أوْ                     كَثِير ذِكْرٍ، وهذا أعْظَمُ النُّسُكِ
          والمرادُ بالصديق: مَن لا يزال يَصْدُق ويَتَحرَّى الصِّدْقَ.
          فائدَةٌ:
          ذَكَر محمَّدُ بنُ سَبُعٍ في «شفاءِ الصُّدوْر» أنَّ مَن قال إذا فَرَغَ المؤذِّن من أذانِه:
          «لا إله إلَّا الله، وَحْدَه لا شرِيك له، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ}، اللَّهمَّ أنتَ الذي مننتَ عليَّ بهذه الشَّهادة، وما شهدتها إلَّا لك، ولا يقبلها منِّي غيرُكَ، فاجعلها لي قُربةً من عندك، وحجاباً من نارِك، واغفرْ لي ولوالديَّ ولكُلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ برحمتِك، إنَّك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ»، أدخَلَه اللهُ الجنَّة بغَيْر حسابٍ.
          فائدةٌ أُخرى:
          مَن قالَ حين يسمعُ قَوْلَ المؤذِّنِ أشْهدُ أنَّ محمَّداً رسول الله: «مَرْحباً بحبيبي وقُرَّةِ عيني محمَّد بن عبدِ الله صلعم»، ثمَّ يُقبِّلُ إبهامَيه ويجعلَهما على عَيْنَيْه، لم يَعْمَ ولم يَرْمدْ أَبداً.
          وممَّا جُرِّبَ لحرْقِ الجنِّ: أن يُؤذِّن في أُذُن المصروعِ سَبعاً، ويقرأَ الفاتحة سبْعاً، والمُعوِّذتَين، وآية الكُرسي، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1]، وآخر سُورة الحشرِ مِن: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ...} [الحشر:21] إلى آخرِها، وآخر سُوْرة الصَّافَّات مِن قولِه: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ...} [الصافات:177] إلى آخرِها.
          وإذا قرأتَ آية الكُرسي سَبْعاً على ماءٍ، ورُشَّ بِه وَجْهُ المصْروعِ، فإنَّه يفيقُ.
          قوله: (سَمِعْتُهُ) أي: قوله (لا يَسْمَعُ...). /
          وقال الجلالُ المَحلِّيُّ: أي: سمعتُ ما قلتُه بخطابٍ لي، كما فهمَه الماوَرْديُّ والإمامُ والغزاليُّ، وأوردَوه باللَّفظ الدَّال على ذلك ولم يُوردوه بلفظ الحديث، بل بمعناه: فقالوا: إنَّ رسولَ الله صلعم قال لأبي سعيدٍ: (إنِّي أَرَاكَ...) إلى آخرِه، ليظهر الاستدلال بِه على أذان المنفرد ورفع صوتِه به.
          وهذا الحديثُ ذكره البخاريُّ في باب: رفع الصَّوت بالنِّداء.


[1] لعله يقصد اختصار السيوطي لنهاية ابن الأثير ولا أعلمها مطبوعة والكلام بحروفه في معالم السنن للخطابي 1/155.
[2] بلفظ (مدى) 515.
[3] بلفظ (مجد صوته) 645، 646.
[4] في هامش «ز1»: وهو الحصى الصَّغير.
[5] وتمامُه: «إلَّا شَهِدَ له».
[6] إلى هنا ينتهي السَّقط في «ف3».
[7] في هامش «ز1»: أي: عامل.