حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة

          207- قوله: (مُغِيْثٌ) [خ¦5283] بضمِّ الميْم، وكسرِ الغين المُعْجَمةِ، ثُمَّ تحتيَّة ساكنةٌ، آخرُه ثاءٌ مُثلَّثةٌ.
          قوله: (يَطُوْفُ خَلْفَهَا يَبْكِي) وفي رِوايةِ وهيبٍ، عَن أيُّوبَ: «يَتْبَعُها في سِكَكِ المديْنةِ، يَبْكِي عَلَيْها» [خ¦5281].
          والسِّكَكُ بكَسْرِ المُهملة وفَتْحِ الكافِ: الطُّرُقُ.
          ووقَعَ في رِواية سعِيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ[ت 1156]: «في طُرُقِ المديْنةِ ونَواحِيها، وأنَّ دُمُوعَه / لتَسِيْل على لِحْيتِه يَتَرضَّاها فَتَخْتارَه، فَلَمْ تَفْعَلْ»؛ لكونها عُتقت تحتَه وهو رقيقٌ فلها الخيارُ.
          وهذا ظاهرُه أنَّ سُؤالَه لها كان قَبْلَ الفُرْقةِ، وظاهرُ قولِ النَّبيِّ صلعم في رِوايةِ الباب (لَو رَاجَعْتِهِ) أنَّ ذلك كانَ بعْدَ الفُرْقَةِ.
          وبِه جزَمَ ابنُ بطَّالٍ(1) فقال: لو كان قبل الفُرْقةِ لقال: لوِ اخترته.
          قلتُ: ويحتملُ أن يكون وقَعَ لهُ ذلك قبْلُ وبعْدُ.
          وقد تمسَّكَ برِوايةِ سعِيدٍ مَن لم يشترطِ الفَور في الخيارِ هُنا.
          قوله: (يَا عَبَّاسُ) هُو: ابنُ عَبْدِ المطَّلبِ، والدُ راوي الحديْث.
          وفي رِواية ابنِ ماجَهْ[2075]: «فَقَالَ النَّبيُّ صلعم للعَبَّاسِ: يا عَبَّاسُ».
          وعِنْد سعيدِ بنِ منْصوْرٍ(2)، عَن هُشيْمٍ قال: أنْبأنا خالِدٌ _هُو الحذَّاءُ_ بسَنَدِه: أنَّ العبَّاسَ كان كلَّم النَّبيَّ صلعم أنْ يطْلبَ إليها في ذلك.
          وفي «مُسند» الإمام أحمدَ [1844]: أنَّ مُغِيثاً توسَّل بالعبَّاسِ في سؤالِ النَّبيِّ صلعم في ذلك.
          وظاهرُه أنَّ قصَّةَ بَرِيرةَ كانتْ متأخِّرةً للتَّاسعة أوِ العاشرةِ؛ لأنَّ العَبَّاسَ إنَّما سَكَنَ المديْنةَ بعْدَ رُجُوعِهم من غَزْوة الطَّائف، وذلك أَواخِر سنة ثمانٍ.
          ويدلُّ لَه أيضاً قولُ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه شاهَدَ ذلك، وهو إنَّما قدِمَ المديْنةَ مَع أبوَيْه.
          وهذا يردُّ قولَ مَن قال: إنَّها كانتْ قَبْلَ الإفْكِ؛ لأنَّ عائشةَ في ذلك الزَّمان كانتْ صغيرةً، فيبعُد وُقوعُ تلك الأُمور والمراجعة والمُسارعة إلى الشِّراءِ والعِتْق منها يومئذ.
          وجوَّز الشَّيخُ تقيُّ الدِّين السُّبْكيُّ أنَّ بَرِيرةَ كانتْ تَخدمُ عائشةَ قبلَ شرائها، أوِ اشترتْها وأخَّرتْ عِتْقَها إلى ما بعد الفَتْح، أو دامَ حزنُ زوجِها عليها مدَّة طويلةً، أو حصلَ منها الفسخُ وطلبَ أن تردَّه بعَقْدٍ جديدٍ.
          أو كانتْ لعائشةَ ثمَّ باعتْها ثمَّ استعارتها بعد الكِتابة. انتهى.
          وأقوى هذه الاحْتمالات الأوَّلُ كما ترى.
          قوله: (مِنْ حُبِّ مُغِيْثٍ بَرِيْرَةَ) إضافةُ (حُبِّ) ﻟ (مُغِيْثٍ) مِن إضافةِ المصْدَرِ لِفاعِلِه، و(بَرِيْرَةَ) مفعولُه.
          قوله: (وَمِنْ بُغْضِ بَرِيْرَةَ مُغِيْثاً) هذا نادِرٌ!
          والأكثرُ أنَّ المحْبوبَ يكونُ مُحبّاً لمنْ يُحبُّه، فتكونُ المحبَّةُ من الجانِبَيْن، وأنَّ المبْغوضَ يكونُ مُبْغضاً لمن يبغضه، فيكونُ البُغْضُ مِن الجانِبَين.
          قوله: (لَوْ رَاجَعْتِهِ) كذا في الأُصول، بمُثنَّاة واحدةٍ.
          ووقَع في رواية ابنِ ماجَهْ[2075]: «لَوْ راجَعْتِيْهِ»، بإثباتِ تحتانيَّةٍ ساكنةٍ بَعْد المُثنَّاةِ.
          وهي لغةٌ قليلةٌ؛ كذا قالَ الحافظُ(3).
          وتعقَّبَه العَيْنيُّ(4) فقال: إنْ صحَّ هذا في الرِّواية فهيَ لُغةٌ فصيحةٌ؛ لأنَّها مِن أفصَح الخلْقِ.
          قالَ القَسْطلَّانيُّ(5): قلتُ: الشَّاذُّ يقعُ في كلامِ الله تعالى.
          وزادَ ابنُ ماجَهْ: «فَإنَّهُ أَبو وَلَدِكِ»؛ وظاهرُه أنَّه كانَ لَه منْها وَلَدٌ.
          قوله: (قَالَتْ) وفي رِوايةٍ لابنِ عساكرَ: «فَقَالَتْ».
          وقوله: (تَأْمُرُنِي) أي: بذلك.
          وهو على حذْفِ أداةِ الاستِفهامِ، كَما هو مُصرَّحٌ بها في بَعْضِ النُّسَخِ، زادَ الإسْماعيليُّ: «قَالَ: لا».
          وفيه إشْعارٌ بأنَّ الأمْرَ لا ينْحصر في صِيْغة اِفْعَلْ؛ لأنَّه خاطَبَها بقولِه: (لَوْ راجَعْتِه، فَقَالَتْ: تَأْمُرُنِي)، أيْ: أتُريدُ بهذا القَول الأمْرَ فيجب عليَّ.
          وعِنْد ابنِ مَسعُودٍ(6)(7) مِنْ مُرْسَلِ ابنِ سِيْريْنَ بسَنَدٍ صَحيحٍ فقالَت: يا رَسول الله، أشَيءٌ واجِبٌ عليَّ؟ قال: «لا».
          قوله: (إنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ) في رِواية ابنِ ماجَهْ: «إنَّما أَشْفَعُ»، أي: أقولُ ذلك على سَبِيل الشَّفاعةِ لَه، لا على سَبيْلِ الحتْمِ عَلَيك.
          قوله (فَلَا حَاجَةَ لِي فِيْهِ) أي: وإذا لم تُلزمْني بذلك لا أختار العَوْد إليه.
          وقد وقَعَ في رِوايةٍ(8): «لَو أعْطَاني كذا وَكَذا ما كُنت عِنْدَهُ».
          وفي الحديثِ دِلالةٌ على أنَّه لا يجب قَبول / شفاعتِه صلعم، وأنَّ ردَّها لا تنقيص فيْه؛ وإلَّا لما فعَلَتْهُ وأقرَّها عليْهِ.
          وفيه دلالة _أيضاً_ على جوازِ الشَّفاعةِ من الحاكِم عِنْد الخصم في خصْمِه إذا ظهَرَ حَقُّه وإشارته عليه بالصُّلْح.
          وفيه دلالة _أيضاً_ على جوازِ حُبِّ المُسْلم للمُسلمةِ وإنْ أفْرطَ في الحبِّ، ما لم يأتِ محرماً، ولمَّا ردَّتْ شفاعةَ النَّبيِّ صلعم قَلَبَ اللهُ الحالَ، فانقلبَ حُبُّه بُغضاً وبُغْضُها حُبّاً.
          وهذا الحديثُ ذكَره البُخاريُّ في باب: شفاعة النَّبيِّ صلعم في زَوْج بَرِيْرَةَ.


[1] شرح البخاري 7/432.
[2] كما في الفتح 9/409.
[3] الفتح 9/409 وعبارته: (لغة ضعيفة) ولذا تعقبه العيني          
[4] في العمدة 20/269.
[5] لم أجده.
[6] ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 9/409.
[7] كذا في الأصل و«م» وباقي النُّسخ! وهو عندي تحريفٌ، والصَّواب: سَعْد.
[8] الفتح 9/409.