حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة

23- قوله: (وَكَّلَ) [خ¦318] قال الحافظُ ابنُ حجرٍ(1): وفي رِوايتِنا بالتَّخْفيف مِنْ: وكله بكَذا، إذا استكفاهُ إيَّاهُ فصرَفَ(2) أمْرَه إليه.
          قولُه: (بِالرَّحِمِ) هو محلُّ وُقوعِ نُطْفةِ الرَّجُلِ من المرأةِ.
          قوْله: (يَقُوْلُ) أي: عِنْد وُقوع النُّطفةِ التماساً(3) لإتمام الخِلْقة والدُّعاء بإفاضة الصُّورة الكامِلة عليها، فليس في ذلك فائدة الخبر ولا لازِمه؛ لأنَّ الله تعالى عالِمٌ بالكُلِّ، وهو على نحو قولِه تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] قالَتْه تحسُّراً وتحزُّناً.
          قوله: (يَا رَبِّ) بحذْفِ ياءِ المتكلِّم؛ إذْ أصلُه: يا رَبِّي.
          ويجوزُ فيه: يا رَبّاً.
          و: يا رَبَّ، بفَتْح الباءِ.
          و: يا رَبُّ، بضمِّها.
          وقُرئ: / {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف:33].
          و: يا رَبِّيَْ، بإثباتِ ياءِ المتكلِّم ساكِنةً أو مفْتوحةً.
          و: يا رَبَّاهُ، بالهاءِ وَقْفاً.
          قوله: (نُطْفَةًٌ) بالنَّصْبِ، وهيَ رِوايةُ القابسيِّ وابنِ عَساكِرَ، وهو مفعولٌ لمحذوفٍ، أي: خلقت نُطْفةً.
          وبالرَّفْع، خبَرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، أي: هذه نُطْفةًٌ، وهي كما قال ابنُ الأَثيرِ(4): الماءُ القليلُ والكَثير، والمرادُ بها هنا: المَنيُّ، أي: يقولُ نُطْفةً بعد تغيُّرها وانْقِلابِها دَماً.
          قوله: (عَلَقَةٌ) أي: قِطْعةُ دَمٍ جامِدٍ، وفيْه الوَجْهان السَّابِقان.
          قوله: (مُضْغَةٌ) أي: قِطْعة لحمٍ بقَدْر ما يمضغ، وفيه الوجْهان السَّابقانِ أيضاً.
          فإنْ قلْتَ: كيف يكون الشَّيء الواحِد نُطْفةً عَلَقةً مُضْغةً؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ الأخبارَ الثَّلاثةَ تصدر عن الملَكِ في أوقاتٍ مُتعدِّدةٍ لا في وقْتٍ واحدٍ، فإنَّ مُدَّةَ النُّطفة أربعون يَوْماً، وكذا ما بعده كما في الحديثِ الآخَرِ:
          «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُه في بَطْنِ أُمِّه أرْبعينَ يوماً نُطْفةً(5)، ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثْلَ ذلك، ثُمَّ يكونُ مُضْغةً مِثْلَ ذلك». انتهى.
          فإنْ قلْتَ: الخبرُ فائدتُه إعلامُ المخاطب بمَضمون الخبرِ إن لم يكُن عِنْده علْمٌ بمضمونِه، أو إعلامُه بعِلْم المتكلِّم به، أي: إعلامُ المخاطب بأنَّ المُتكلِّم يعلمُ مضمونَ الخبَرِ إنْ كان المخاطبُ عالماً بذلك.
          ويُسمَّى الثَّاني: لازم فائدة الخبر، ويسمَّى الأوَّل: فائدته، ولا يتصوَّران هُنا؛ لأنَّ اللهَ تعالى علَّامُ الغيوب، فهو عالمٌ بالمضمون وبأنَّ المتكلِّمَ ثابتٌ له العِلْم بالنُّطفة وغيرها!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ هذا الإخْبارَ وارِدٌ على خلاف مقتضى الظَّاهرِ فلا يلزم أحدهما، فالغرضُ من إخْبارِ الملَكِ بذلك التماسُ إتمام خلقِه والدُّعاءُ بإفاضة الصُّورة الكامِلة أو الاستعلام عن ذلك، ونَظيرُه قولُه تعالى حِكايةً عن أُمِّ مَرْيم: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36]، أيْ: فاقبَلْها يا الله منِّي.
          قوله: (فَإذَا أَرَادَ اللهُ).
          وللأَصيْليِّ: «وَإذا أَرَادَ اللهُ».
          وقوله: (أنْ يَقْضِيَ) أي: يتَمِّم خَلْقَه، فالقضاءُ بمعنى التَّتمِيم، ويُطْلق على الإرادة الأزليَّة المتعلِّقة بالأشياءِ على ما هي عليه أزَلاً عِنْد الأَشاعِرةِ، أو عِلْمه بالأشياءِ على ما هيَ عَلَيه عِنْد(6) الماتُريديَّة، وأمَّا القُدْرة: فهو إيجادُه الأشياء على قَدْرٍ مخصوصٍ بتقْديرٍ مُعيَّنٍ في ذواتها على وِفْق الإرادة عِنْد الأَشاعِرةِ.
          وأمَّا عِنْد الماتُريديَّةِ: فهُو إيجادُ الله الأشياءَ على طبق العِلْم.
          وقد نظمَ سيِّدي عليٌّ الأُجْهُوريُّ الفَرْقَ بَيْنَهُما فقال:
إرادةُ الله مَعَ التَّعلُّقْ                     في أزَلٍ قَضاؤُه فحَقِّقْ
          وفي نُسخةٍ: قضاءُ رَبِّ الفَلَقِ. /
والقَدَرُ: الإيجَادُ للأشياءِ على                     وَجْهٍ مُعَيَّنٍ أَرادَهُ عَلَا
وبَعْضُهُمْ قَدْ قَالَ: مَعْنى الأوَّلِ                     العِلْمُ مَع تَعَلُّقٍ في الأَزَلِ
والقَدَرُ: الإيْجَادُ للأُمُوْر                     على وِفَاقِ عِلْمِهِ المذْكُوْرِ
          قولُه: (خَلْقَهُ) أي: ما في الرَّحِم مِن النُّطْفةِ التي صارَتْ عَلَقةً مُضْغةً، وهذا هو المرادُ بقولِه: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5].
          وقد عُلم بالضَّرورة أنَّه إذا لم يُرِدْ خَلْقَه تكونُ غيرَ مُخلَّقةٍ، وقد صرَّحَ بذلك في حدِيثٍ رَواهُ الطَّبَرانيُّ(7) بإسنادٍ صَحيْحٍ، مِن حديْث ابنِ مَسْعودٍ ☺ قال:
          «إذا وَقَعَتِ النُّطْفةُ في الرَّحِمِ، بَعَثَ اللهُ مَلَكاً فَقَالَ: يا رَبّ مُخلَّقةٌ أو غَيْر مخلَّقةٍ؟ فإنْ قال: غيرُ مُخلَّقةٍ، مَجَّهَا الرَّحِمُ دَماً».
          قوله: (قَالَ) أيْ: الملَكُ.
          وقوله: (أَذَكَرٌ) خَبرُ مبتدإٍ محذوفٍ، أي: أَهُوَ ذَكَرٌ، ويصحُّ أن يكون مُبْتَدأً والمسوغ للابتداءِ بالنَّكرة التَّخصيص بأحَدِ الأمْرَين، إذِ السُّؤال فيه التَّعْيين.
          وللأَصيْليِّ «ذَكَراً» بالنَّصْبِ، بتقدير: أَتُريدُ أوْ أتَخْلُقُ ذَكَراً، أو أتجعل ذَكَراً أَمْ أُنثى، وكذا شَقيٌّ وسَعيدٌ.
          قولُه: (شَقِيٌّ) أي: أَعَاصٍ لكَ هُوَ.
          وقوله: (أَمْ سَعِيْدٌ) أي: مُطِيعٌ، وحذف أداة الاستفهام لدلالة السَّابق.
          وللأَصِيْليِّ: «شَقِيّاً أَمْ سَعِيْداً».
          قوله: (فَمَا الرِّزْقُ) أي: الذي ينتفع به حلالاً أو حَراماً، قليْلاً أو كثيْراً، إذِ الرِّزْقُ: كلُّ ما ساقَه اللهُ إلى الحيوان لينتفع بِه، ومنْه العِلْمُ.
          قوله: (فَمَا الأَجَلُ) كذا في رِوايةِ أبي ذَرٍّ.
          وفي رِواية غَيْره: «وَالأَجَلُ»، أي: وَقْت مَوْتِه أو مدَّةُ حَياتِه إلى مَوْتِه؛ لأنَّه يُطلق على المدَّةِ وعلى غايَتِها.
          قوله: (فيُـَكْتَبُ) بالبناءِ للفاعِل، وضميرُه لله أوْ للمَلَك.
          وبالبناءِ للمفعولِ، أي: المذْكُور، والمكْتُوب الأُمور الأربعة، والمكتوب عليه الشَّخص والبَطْن هو الظَّرف.
          والكتابةُ يحتملُ أنْ تكون حقيقةً، ومحلُّها صحيْفةُ الأعْمالِ أو على الجبْهة بين عَيْنَيه، ويحتملُ أنْ تكونَ مَجازاً عن التَّقْديرِ.
          فإنْ قُلْتَ: إنَّ التَّقديرَ أزليٌّ لا أنَّه حاصِلٌ في البَطْنِ؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ الحاصلَ في البَطْن تعلُّقُه بأوَّلِ الوُجودِ، ويسمَّى قَدَراً، فقولُه: (فيُكْتَبُ في بَطْنِ أُمِّه) أي: فتتعلَّق إرادةُ الله بأوَّل وُجودِ هذا الشَّخْص في حالِ كونه في بَطْنِ أُمِّه، وما كان في الأَزَلِ فهو أمْرٌ عقليٌّ ويسمَّى قَضاءً.
          ويحتملُ أنْ تكونَ مَجازاً عنِ الإلْزام وعَدَمِ الانْفكاكِ عنْه، فقوله: (فيُكْتَبُ) أي: فيجعل اللهُ هذا غيرَ منفكٍّ عن هذه الأشياءِ، وهو ظاهرٌ.
          وفي رِوايةٍ للأصيْليِّ: «قَالَ: فَيُكْتَبُ».
          قوله: (في بَطْنِ أُمِّهِ) ظَرْفٌ لقوله: (يُكْتَبُ).
          واعلمْ أنَّ هذا الحديثَ جَمَعَ جمِيعَ أحْوالِ الشَّخص؛ إذْ فيه بَيانُ حالِ المَبْدَإ وهو خَلْقه ذَكَراً أَمْ أُنثى وحالِ المعادِ وهي السَّعادة وضدّها، وما بينهما / وهُو الأَجَل، وما يتصرَّف فيه وهو الرِّزْق.
          وقد جاءَ(8): «فَرَغَ اللهُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الخَلْقِ والخُلُقِ، والأَجَلِ والرِّزْقِ».
          و«الخلْقِ» الأوَّلُ بالفَتْح: وهو الذُّكُورةُ وضِدُّها، والثَّاني بِضَمِّهَا: السَّعادةُ وضِدُّها.
          وهذا الحديثُ ذكَرهُ البُخاريُّ في باب: قول الله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5].


[1] الفتح 1/418.
[2] كذا في الأصل، وفي «م»: وصرف.
[3] في هامش «ز1»: أي: طلباً.
[4] النهاية في غريب الحديث والأثر [نطف] 5/75.
[5] متفق عليه دون لفظة (نطفة) وهي ثابتة في الأذكار والرياض للنووي [خ¦ 3208] [م1/2643].
[6] قوله: «الأشاعرة، أو علمه... عليه عنه» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».
[7] ليس بهذا اللفظ وبمعناه في الكبير 8884، 9146، 10440 وليس فيها: «فإنه قال غير مخلقة مجها...».
[8] أخرجه الطبراني في الأوسط 1560، وذكره السيوطي في الجامع الكبير (جمع الجوامع) وعزاه لابن عساكر 23/207.