حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ذكرت وأنا في الصلاة تبرًا عندنا

          63- قوله: (وَرَأَى مَا في وُجُوْهِ القَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ) [خ¦1221] بيان ﻟ (مَا).
          وقوله: (لِسُرْعَتِهِ) علَّةٌ ﻟ (تَعَجُّبِهِمْ).
          وفيه دليلٌ على أنَّ عادةَ سيِّدِنا محمَّدٍ صلعم كانتِ الإقامةُ بعد الصَّلاةِ في المسجِد، كما يؤخذ ذلك من قولِه (لِسُرْعَتِهِ) وتعجُّب الصَّحابة.
          وفيه دليلٌ على أنَّ مخالفةَ العادةِ تقتضي التَّشويشَ على الإخْوان إذا لم يُعرف السَّبب لذلك، يُؤخذ ذلك من تعجُّبِ الصَّحابةِ.
          قوله: (فَقَالَ: ذَكَرْتُ) هذا هو محلُّ ترجمة البُخاريِّ، وهذا يدلُّ على جوازِ تذكُّر المرءِ وهو في الصَّلاة، وليس بمُفْسدٍ لها.
          قوله: (تِبْراً) هو ما كانَ منَ الذَّهَب غير مضْرُوبٍ، فكان هذا التِّبْرُ منَ الصَّدقة التي أتي بها إليه ليتصَدَّق بها على المُسلمين.
          قوله: (فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ) أي: لما فيه مِن حبس الصَّدَقةِ.
          وقولُه: (أَوْ يَبِيْتَ) شَكٌّ من الرَّاوي.
          وفي هذا دليلٌ على جواز إبْقاءِ المالِ على ملك صاحبِه طُول يومه، ولا يخرجه ذلك عن مقام الزُّهْد، يُؤخذ ذلك مِن قوله: (كَرِهْتُ...) إلى آخرِه.
          ولم تقعْ منْه ╕ الكراهية في اليوم الواحِد.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الزُّهْدَ مندوبٌ إليه، ويُؤخذ منه جوازُ الاقْتناءِ بشرطِ تأدية الحقوقِ.
          وفيه دليلٌ لأهْل التَّصوُّفِ الذين لا يبيتون على / معلومٍ.
          قال المؤلِّفُ: وقد رأيتُ بعضَ أهلِ الشَّأن، كانَ كلَّما فتح عليه في يومِه لا يبيت عِنْده شيءٌ، فلمَّا كان في بعض الأيَّام وردَ عليه جمعٌ كبيرٌ للزِّيارة، وأتاهُ فتوحٌ كثيرةٌ.
          فقالَ الخويدمُ في نفسِه: إنْ أظهرت له جميع الفتوح ما يفضل عن القَوم يَخْرُجُ عنْه، وهذا جمعٌ كبيرٌ ويُصبحون وليس معهم شيءٌ يفطرون عَلَيه، فنترك منْه شيئاً جيداً بحيث يكفيهم لغدِهم لا يعلم بِه الشَّيْخُ.
          ففعلَ ذلك وأخرجَ الباقي، فأكل القَومُ، فما فضل منهم أمَرَ الشَّيْخُ بإخراجِه من المنزل إلى الفُقراءِ والمساكين على عادتِه، فلمَّا أصْبَحَ لم يأْتهم شيءٌ من الفتوح، فقامَ الخويدمُ ومدَّ السماطَ وأخْرجَ طعاماً كثيراً فقالَ لَه الشَّيْخُ: مِن أينَ هذا؟!
          فذكر له ما وقعَ منْه، ثمَّ قال له: يا سَيِّدي، لو ما فعلتُ هذا كان هذا الجمْع اليوم بلا شيءٍ، فقالَ لَه الشَّيْخُ:
          فِعْلُك هذا مَنَعَنا مِن الفتوح في هذا اليوم، فمَنْ جَدَّ وَجَدَ، ومَنْ أخلصَ عُوملَ بحسَبِ إخْلاصِه، فالنَّاقِدُ بصيرٌ، والمُعامَلَةُ مَع وفِيٍّ كريمٍ غنيٍّ رحيمٍ.
          قولُه: (عِنْدَنَا) فيه دليلٌ على أنَّ للرَّجُلِ أنْ يتركَ مالَه عند أهْلِه، وكان ذلك التِّبْرُ عِنْد بعضِ أهْلِه كما أخبر أَوَّلاً أنَّه ╕ دخَلَ(1) على بعض أزْواجِه ولم يأت أنَّه كان له شيءٌ مغلق عليه دُون أَهْلِهِ.
          قوله: (فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) أي: لما فيه من المُسابقة إلى الخيراتِ.
          وفيه دليلٌ على جوازِ النّيابة في المعروفِ.
          ويؤخذ منَ الحديث أنَّ مِن حَقِّ الصُّحبةِ العَمَلُ على زوالِ التَّشويشِ عنِ الصَّاحِب _وإنْ قلَّ_ إنْ أمكنَ ذلك.
          وفيه دليلٌ على العمل بما يظهر مِن الشَّخْص دون إفْصاحٍ ولا سؤالٍ، يُؤخذ ذلك من أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يُخبرهم إلَّا بعد ما رأى في وُجوه القَوْم التَّعجُّبَ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ كُلَّ ما في القلْب يظهر على الوَجْه، ولا يخفى ذلك إلَّا على مَن لا نور لَه في قلْبِه _أعْني بالنُّور: ما ورَّثَه صلعم لبعضِ أُمَّتِه_، ومما يؤيِّد ذلك قولُه صلعم:
          «المُؤمِنُ يَنْظُرُ بِنُوْرِ الله»(2).
          فإذا نظرَ بنُور الله لم يخفَ عليه مِن علاماتِ الوَجْه ما في القَلْبِ، فإنْ قويَ إيمانُه صارَ مِن أصحابِ المُكاشفاتِ الذين يُبصرون القُلُوب بأعْين بصائرِهم كما يُبصرون الوُجوه بأعين رُؤوسِهم.
          وهذا الحديثُ ذَكَرهُ البخاريُّ في باب: تفكُّر الرَّجُل الشَّيء في الصَّلاةِ.


[1] إلى هنا ينتهي السَّقط في الأصل.
[2] ت 3127 بلفظ: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».