حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده

          92- قوله: (عَنِ المِقْدَادِ) [خ¦2072] بكسرِ الميم، هو ابنُ مَعْدِ يكَرِب الكِنْديُّ، ماتَ سنةَ سبْعٍ وثمانين.
          قوله: (خَيْراً مِنْ أنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) مِن فضل العَمَلِ باليد الشُّغْلُ بالأمرِ المُباح عنِ البطالةِ واللَّهو وكسرِ النَّفس بذلك، والتَّعفُّفُ عن ذلَّة السُّؤال والحاجةِ إلى الغَيْر.
          قال ابنُ المُنْذِرِ(1): وإنَّما يفضل عمل اليد إذا نصحَ العاملُ، ومِن شرطِه أن لا يعتقد أنَّ الرِّزْقَ من الكَسْب، بلْ منَ الله تعالى بهذه الواسطة.
          قال الماوَرْديُّ: أُصولُ المكاسب: الزِّراعةُ، والتِّجارةُ، والصَّنعةُ، والأشْبَه بمذهبِ الشَّافعيِّ أنَّ أطْيبَها التِّجارةُ.
          قال: والأرجحُ عندي أنَّ أطْيبَها الزِّراعةُ؛ لأنَّها أقربُ إلى التَّوكُّلِ.
          وتعقَّبَه النَّوويُّ بهذا الحديث، وأنَّ الصَّوابَ: إنَّ أطيبَ الكَسْبِ ما كان بعملِ اليَدِ.
          قال: فإنْ كانَ زرَّاعاً فهو أطيبُ المكاسبِ؛ لما اشتملَ عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التَّوكُّل، ولما فيه من النَّفْع العامِّ للآدَميِّ وللدَّواب، ولأنَّه لابُدَّ منْه في العادة أن يؤكَلَ منه بغير عِوَضٍ.
          قلتُ: وفوقَ ذلك مِن عَمَلِ اليدِ ما يُكْتسب من أمْوال الكفَّارِ بالجهادِ، وهو مكْسبُ النَّبيِّ صلعم وهو أشرفُ المكاسبِ؛ لما فيه من إعْلاءِ كلمةِ الله، وخذلانِ كلِمةِ أعدائِه، والنَّفْعِ الأُخْرَويِّ.
          قال: ومَن لم يعملْ بيده، فالزِّراعةُ في حقِّه أفضلُ لما ذكرْنا.
          قلت: وهو مبْنيٌّ على ما بحث فيه من النَّفع المتعدّي، ولم ينحصرِ النَّفْعُ المتعدِّي في الزِّراعة، بلْ كلُّ ما يعمل باليدِ فنفعُه مُتعدٍّ؛ لما فيه من تهيئة أسبابِ ما يحتاج النَّاسُ إليه.
          والحقُّ؛ أنَّ / ذلك مختلفُ المراتبِ، وقد يختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأشخاصِ، والعِلْمُ عِنْد الله تعالى.
          قوله: (كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) فكانَ يعملُ الزَّرَدَ ويبيعُه، ويجعلُ الثُّلثَ لنفسِه، والثُّلث لأُمِّه، والثُّلث يتصدَّق بِه.
          وكان نوحٌ نجَّاراً، وإبراهيم بزَّازاً، وإدريس خيَّاطاً، وآدمُ زَرَّاعاً.
          والحِكْمةُ في تخصيصِ داوُدَ بالذِّكْر، أنَّ اقتصارَه في الأكْلِ على ما يعمله بيدِه لم يكُن منَ الحاجة؛ لأنَّه كانَ خليْفةً في الأرض، كما قالَ تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص:26].
          وإنَّما ابتغى الأكْلَ من طرِيق الأفضلِ.
          وفي الحديث فَضْلُ العَمَلِ باليدِ، وتقديمُ ما يُباشره الشَّخصُ بنفسِه على ما يُباشره بغَيْره.
          وفيه _أيضاً_ أنَّ التَّكسُّبَ لا يقدح في التَّوكُّل، وأنَّ ذِكْر الشَّيء بدليلِه أوْقعُ في نفسِ سامِعِه.
          وهذا الحديثُ ذكَرهُ البُخاريُّ في باب: كسب الرَّجُل وعمل يَدِه.


[1] كما في الفتح 4/304.