حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامي

          7- قوله: (عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ) [خ¦53] هُو عبدُ الله، وكان يُسمَّى تُرْجُمان القُرآن، وهو حَبْرُ الأُمَّةِ وبَحْرُها لكَثْرة عِلْمِه، ودَعا لَه النَّبيُّ صلعم فقالَ: «اللَّهمَّ فَقِّهْهُ في الدِّيْنِ وعَلِّمْهُ التَّأْوِيْل» [خ¦143] [م138/2477].
          وقالَ لهُ المُصْطَفى صلعم: «ألَا أُعلِّمُك(1) كلماتٍ ينفعكَ اللهُ بهنَّ: احْفَظِ اللهَ يَحفظْكَ، احْفظِ اللهَ تَجِدْه أَمامَك، تَعرَّفْ إلى الله في الرَّخاءِ يَعْرِفْك في الشِّدَّة، وإذا سألْتَ فاسألِ الله تعالى، وإذا اسْتعنتَ فاستَعِن بالله تعالى، جَفَّ القَلَمُ بما هو كائنٌ».
          ومِن كلام ابنِ عبَّاسٍ ╠(2): «صاحِبُ المعروفِ لا يَقَعُ، وإنْ وقَعَ وَجَدَ مُتَّكَأً».
          وقال أيضاً: مكْتوبٌ على الجرادِ بالسُّرْيانيِّ: «إنِّي أنا الله، لا إله إلَّا أنا وَحْدِي لا شَرِيك لي، الجَرَادُ جُنْدٌ مِن جُنودِي، أُسلِّطُه على مَن أشاءَ مِنْ عِبادِي».
          وقال: «لمَّا ضُرِبَ الدِّرْهمُ والدِّيْنارُ أخَذَه إبْليسُ فوضَعَه على عَيْنِه وقال: أنتَ ثَمَرةُ قَلْبي وقرَّةُ عَيْني، بِك أُطْغِي وَبك أُكفِّر، وبكَ أُدْخِلُ النَّار».
          ولما وُضع ابنُ عبَّاسٍ بالنَّعْشِ ليُصلَّى عَليْه، جاءَ طائرٌ أبيضُ فدخلَ في كَفَنِه فلم يخرجْ، فالتُمسَ فلم يُوجد! ولمَّا سُوِّي عليه التُّرابُ في قَبْره سُمع صَوْتٌ لا يُرى شخصُه يقولُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ...} [الفجر:27-28] الآيةَ.
          ماتَ بالطَّائف سنةَ ثمانٍ وستِّين.
          قولُه: (إنَّ وَفْدَ) المرادُ به الجماعةُ المختارةُ من القَوْم ليُقدِّمُوهُم في لقاءِ العُظماء.
          وأصلُ الوَفْدِ: الورودُ.
          قال في «المختار»: وَفَدَ فُلَانٌ على الأَمِيْرِ، أيْ: وَرَدَ رَسُوْلاً، وبابُه وَعَدَ، فهُو وافِدٌ، والجمْعُ: وَفْدٌ، مثْلُ صاحِبٍ وصَحْبٍ، وجمْعُ الوَفْدِ أَوْفَادٌ ووُفُوْدٌ، والاسمُ الوِفَادَةُ بالكَسْرِ. انتهى.
          وقال في «المصْباحِ»: وَفَدَ على القَوْمِ وَفْداً، مِن بابِ تَعِبَ(3)، فهُو وافِدٌ، والجمْعُ وُفَّادٌ ووُفَّدٌ، [وعلى](4) وَفْدٍ(5) مِثْلُ صَاحِبٍ وصَحْبٍ، ومنْه: «الحاجُّ وَفْدُ الله»، وجَمْعُ الوَفْدِ أَوْفَادٌ وَوُفُوْدٌ. انتهى.
          قوله: (عَبْدِ القَيْسِ) هُو أبو قَبيلةٍ، وهو ابنُ أَفْصَى، بهمْزٍ مفتوحٍ وبالفاءِ السَّاكنةِ، وبالمُهْمَلة المفتوحة، ابنِ دُعْمِيّ بالدَّال المُهْملة المضمومة والعَيْن السَّاكنة، وياء النِّسْبة، ابنِ جَدِيْلَةَ بنِ أَسدِ بنِ ربيعةَ بنِ نِزَارٍ.
          وكانَ سببُ وُفُودِهم أنَّ مُنْقِذَ بنَ حَبَّانَ(6) الذي كان يُخدع في البُيوع، كان يتَّجر / إلى يَثْرِب في الجاهليَّة، فذهبَ إلى المديْنة مَرَّةً بمَلَاحف وتَمْر للمتجر بعد هِجْرة النَّبيِّ صلعم إليها، فبينما مُنْقذٌ قاعدٌ، إذْ مرَّ به النَّبيُّ صلعم، فنهضَ مُنقذٌ إليه، فقال ╕:
          «أمُنْقذَ بن حَبَّان، كيفَ جَميْع هَيْأتِكَ وقَوْمِك؟».
          ثمَّ سألَه عن أشْرافِهم رَجُلٍ رَجُلٍ يُسمِّيهم بأسمائهم، فأسلمَ مُنْقذٌ وتعلَّم سُوْرةَ الفاتحة و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، فكتبَ النَّبيُّ صلعم _أي: أمَرَ بالكتابة_ إلى جماعة عبْدِ القَيْس كتاباً ودفَعَه إلى مُنْقذٍ، فأخذَه وذهَبَ به وكتَمَه أيَّاماً، ثمَّ اطَّلَعَتْ عليه امرأتُه _وهي بنتُ المُنْذِرِ وهو الأشَجُّ بنُ عائذٍ_ وهُو يُصلِّي ويقرأُ، فأنكَرتِ امْرأتُه ذلك وذكَرتْه لأَبِيها المُنْذر فقالت: إنِّي أنكرتُ فِعْلَ بَعْلي مُنذُ قَدِمَ مِن يَثْرب: إنَّه ليَغْسِل أطرافَه، ثمَّ يستقبل القِبْلةَ فيُحْني ظَهْرَه مرَّة ويضعُ جَبِيْنَه في الأرض مرَّةً، ذلك دَيْدَنُهُ _أيْ: عادته_ مُنذُ قَدِم.
          فاجْتمعَ هُو وأَبوها، فأخْبَره بالخبَرِ، فوَقَع الإسلامُ في قَلْبِه، ثمَّ نهضَ الأَشَجُّ بكتابِ رسولِ الله صلعم إلى قومِه فقرأَه عليهم فوقَعَ الإسلامُ في قُلوبِهم وأجْمعوا على المَسيْر إلَيْه ╕، فلمَّا دَنَوا من المديْنة قال ╕ لجُلَسائه:
          «أتاكُمْ وَفْدُ عبْدِ القَيْس، خَيْرُ أهْلِ المشْرِقِ، فيْهمُ الأَشَجُّ، غيرُ ناكِثين العَهْد _أي: ناقضين للعَهْد_ ولا مُبدِّلِيْن ولا مُرْتابِيْن».
          فلمَّا وَصَلوا إليه صلعم رَمَوا بأنفُسهم عَن رِكابهِم، فمنهم مَّن مَشَى، ومنهم مَّن هَرْوَلَ، ومنهم مَّن سَعَى، حتَّى أَتوا النَّبيَّ صلعم فابْتدرَه القومُ بثيابِ سَفَرِهم وقبَّلوا يدَه، وتخلَّف الأشجُّ وهو أصغرُ القومِ في الرِّكابِ حتَّى أناخ راحِلَتَه، والنَّبيُّ صلعم ينظره، وقد أخرجَ هذا الأشجُّ مِن راحِلَتِه ثَوْبَين أبيضَيْن، ثمَّ جاءَ يمشي حتَّى أخذَ بيدِ رسولِ الله صلعم فقبَّلَها _وكان رجُلاً دَمِيماً، بالدَّال المُهْملة، أي: قصيراً قبيحَ المَنْظَرِ_ فلمَّا نَظَر رسولُ الله صلعم إلى دمامتِه وقبحه قال: يا رسول الله، إنَّما يُحتاجُ من الرَّجُل إلى أَصْغَرَيْه لِسانِه وقَلْبِه.
          فقال له رسولُ الله صلعم: «إنَّ فيْكَ خَلَّتَيْن _أي: خصلتَين_ يحبُّهما اللهُ ورَسولُه: الحِلْمُ والأَناةُ» _بوَزْن قَناةٍ، بمعنى التَّأنِّي وعَدَم العَجَلة_ قال: يا رسول الله، أنا أتخلَّقُ بهما أَمِ الله جَبَلَني عليهما؟
          قال: «بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِما».
          فقال الحمْدُ لله الذي جَبَلَني على خَلَّتَين يُحبُّهما اللهُ تعالى ورسولُه.
          قوله: (مَنِ القَوْمُ، أَوْ: مَنِ الوَفْدُ) / شكٌّ من الرَّاوي وهو ابن عبَّاسٍ.
          قوله: (قَالُوا: رَبِيْعَةُ) أي: ابنُ نِزارِ بنِ مَعَدِ بنِ عَدْنانَ.
          وإنَّما قالوا: رَبِيْعة دُون عَبْدِ القَيْس؛ لأنَّه مِن أولادِ رَبِيْعةَ، وقولُهم: (رَبِيْعةُ) مِن باب التَّعْبيرِ عنِ البعضِ بالكُلِّ؛ لأنَّهم بعض رَبِيعة، وهذا منْ بعضِ الرُّواةِ؛ فإنَّ عِنْد المصنِّف _أعْني: البُخاريَّ في الصَّلاة [خ¦523] _ منْ طريق عَبَّادِ بنِ عَبَّادٍ عِنْد أبي جَمْرةَ قالوا: «إنَّا(7) هذا الحَيَّ مِنْ رَبِيعةَ».
          قالَ ابنُ الصَّلاحِ: (الحيَّ) هُنا منْصوبٌ على الاختِصاص، والمعنى: إنَّا(8) هذا الحيَّ حَيٌّ منْ رَبِيعةَ(9).
          قال: والحيُّ اسمٌ لمنزلِ القَبِيلة، سمِّيتِ القَبيْلة به؛ لأنَّ بعضَهم يَحْيَا ببعْضٍ.
          قوله: (مَرْحَباً) هو منْصوبٌ بفِعْلٍ محذوفٍ وُجوباً، أي: صادَفْتَ رُحْباً، أي: سَعَةً فاستأنِسْ ولا تَسْتَوحِشْ.
          والرَّحَبُ بالفَتْح: الشَّيءُ الواسِعُ، وقد يزِيْدونَ معها: أهْلاً، أي: وجدتَ أهلاً فاسْتأنِس.
          وفيه دليلٌ على استحباب تأْنيسِ القادِم.
          قال في «المخْتار»: رحب: الرُّحْبُ بالضَّمِّ: السَّعَةُ، يقال منه: فلانٌ رُحْبُ الصَّدْرِ، والرَّحَبُ بالفَتْح: الواسِعُ، وبابُه ظَرُفَ، ورُحْباً أيضاً بالضَّمِّ.
          وقولُهم مَرْحَباً وأهْلاً، أيْ: أَتيْتَ سَعَةً وأَتيْتَ أهْلاً فاسْتأْنِسْ ولا تَسْتَوْحِشْ، ورَحَّبَ بِه تَرْحِيْباً: قالَ لَه مَرْحَباً. انتهى.
          قوله: (غَيْرَ خَزَايَا) بنَصْبِ (غَيْرَ) على الحالِ، ورُوي بالكَسْر على الصِّفة، والمعروفُ الأوَّلُ؛ قالَه النَّوويُّ(10)؛ ويؤيِّدُه رِواية المصنِّف _أعْني: البُخاريَّ في الأدب [خ¦6176]_ مِن طرِيق أبي التَّيِّاح، عَن أبي جَمْرةَ: «مَرْحَباً بالوَفْدِ الَّذيْن جاءُوا غَيْرَ خَزَايَا ولا نَدَامَى».
          و(خَزَايَا) جمعُ خَزْيَان كسَكْران وعَطْشان، والخزيانُ: هو المستحيي.
          وقيل: الذَّليل.
          وقيل: المفتضح.
          والمعنى: إنَّهم أسلَموا طَوْعاً مِن غير حَرْبٍ أو سَبْيٍ يُخزيهم ويفضحهم.
          قال في «المصباح»: خَزِيَ خِزْياً، مِن بابِ عَلِمَ: ذَلَّ وَهَانَ، وأَخْزاهُ اللهُ تعالى: أَذَلَّه(11) وأَهانَه، وخَزِيَ خَزَايَةً بالفَتْح وهو الاسْتِحْياءُ فهو خَزْيانُ، والمُخْزِيةُ على صيغةِ اسمِ فاعلٍ مِن أَخْزَى: الخَصْلةُ القَبِيحةُ، والجمْعُ المُخْزِيَاتُ والمَخَازِي. انتهى.
          قولُه: (وَلَا نَدَامَى) جمعُ نَدْمان، بمعنى: نادِمٌ، وقيل: نَدَامَى جمعُ نادِمٍ فكانَ القياسُ: نادِمِيْن، لكن قيْل: (نَدَامَى) لمُناسَبة (خَزَايَا) تحسيناً للكلام، كما يقال: لا «دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ»، والقياسُ: تَلَوْتَ.
          قال في «المختار»: نَدِمَ على ما فَعَلَ، مِن بابِ طَرِبَ وسَلِمَ، وتَنَدَّمَ مِثْلُه، وأَنْدَمَهُ اللهُ فَنَدِمَ، ورَجُلٌ نَدْمانُ، أي: نادِمٌ، ويقال: اليَمِيْنُ حِنْثٌ أَو مَنْدَمَةٌ، وقال لَبِيدٌ:
          ولم يُبْقِ هذا الدَّهْرُ في العَيْشِ مَنْدَماً
          ونادَمَهُ على الشَّراب فهُو نَدِيْمُه ونَدْمَانُهُ، وجمعُ النَّدِيْمِ نِدَامٌ، وجمْعُ النَّدْمانِ نَدَامَى، والمرأةُ نَدْمانَةٌ، والنِّسْوةُ نَدَامَى أيضاً.
          وقيل: المُنادَمَةُ مقلوبةٌ منَ المُدَامَنَةِ؛ لأنَّه يُدْمِنُ شُرْبَ الشَّرابِ مَع / نَدِيْمِهِ. انتهى.
          والمعنى: لم يكُن مِنْكُم تأخُّر عنِ الإسلام، ولا أصابَكُم قتالٌ ولا سبْيٌ ولا غير ذلك ممَّا تستحيون أو تذلون أو تَفْتَضِحُونَ بسببِه أو تَنْدَمُونَ عليْه.
          وفي رِوايةٍ: «غَيْرَ الخزايَاْ وَلَا النَّدَامَى»، بالتَّعْريف فيهما.
          وفي رِوَايةٍ: «غَيْرَ خَزَايا وَلَا النَّدَامَى» بالتَّنْكير في الأوَّلِ والتَّعريفِ في الثَّاني.
          قالَ ابنُ أبي جَمْرَةَ: بشَّرهم بالخيْر عاجِلاً وآجِلاً؛ لأنَّ النَّدامةَ إنَّما تكون في العاقِبة، فإذا انتفتْ ثَبَت ضِدُّها.
          وفيه دليلٌ على جوازِ الثَّناءِ على الإنسان في وَجْهه إذا أَمِنَ عليه الفِتْنةَ.
          قوله: (فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ الله) فيه دليْلٌ على أنَّهم كانوا حينَ المَقالة مُسلمِين؛ وكذا في قولهم: (كُفَّار مُضَر).
          قوله: (إنَّا لا نَسْتَطِيْعُ أنْ نأْتيْكَ...) إلى آخرِه.
          الحاصلُ: إنَّ بيْن وَفْدِ عَبْدِ القَيْس ومديْنةِ المُصطَفى صلعم كُفَّار مُضَر، وهُم كانوا لا يقتلون في الأشهُر الحُرم مَن مَرَّ بهم، بلْ كانوا يقتلون في غيرها، فقال عَبْدُ القَيْسِ: إنَّا لا نقدر على الإتْيان لك في غير الأشهُر الحُرم... إلى آخرِ ما في الحديثِ.
          قوله: (إلَّا في الشَّهْرِ الحرَامِ) وللأصِيْليِّ وكَريمةَ: «إلَّا في شَهْرِ الحرَام»، وهي رِوايةُ مُسلمٍ[23/17، 24/17]، وهي منْ إضافة الشَّيءِ إلى نفْسِه، كمَسْجِدِ الجامِع ونِساءِ المؤمناتِ، والمرادُ ﺑ (الشَّهْرِ الحرَامِ) الجنْسُ، فيشمل الأربعةَ الحُرم.
          ويؤيِّدُه رِوايةُ قرَّةَ عِنْد المؤلِّف _أعْني: البُخاريَّ_ في المغازي بلفظِ [4368]: «إلَّا في أشْهُرِ الحُرُمِ»، ورِوايةُ حمَّادِ بنِ زَيْدٍ عِنْده في المناقبِ بلفظ: «إلَّا في كُلِّ شَهْر حرام»[3510].
          وقيل: اللَّامُ للعَهْدِ، والمرادُ: شَهَرُ رَجَبٍ.
          وفي رِواية البَيْهقيِّ [13126] التَّصريحُ به، وكانتْ مُضَرُ تُبالغ في تعظيمِه؛ فلِذا أُضيف إليهم في حديث أبي بَكْرةَ حيثُ قال: «رَجَبُ مُضَرَ» [خ¦3197]، والظَّاهر أنَّهم كانوا يخصُّونه بمزيد التَّعظيم مع تحريمِهم القِتال في الأشهُر الثَّلاثة الأُخَر؛ ولِذا ورَدَ: «الأشْهُر الحُرُم»، ووَرد: «إلَّا في كُلٍّ شَهْرٍ حَرَامٍ».
          وسُمِّي شَهْراً؛ لشُهْرتِه وظُهورِه، وبالحَرَامِ؛ لحُرْمةِ القِتالِ فيْه.
          وفي الحديث دليلٌ على تقدُّمِ وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ على قبائل مُضَر الذين كانوا بينهم وبين المديْنة، وكانت مساكنُ عبدِ القَيْس بالبَحْرَين وما وَالَاهَا من أطْراف العِراق؛ ولهذا قالوا كما في رواية شُعْبةَ عِنْد المؤلِّف _أعْني: البُخاريَّ[87]_ في العلم: «وإنَّا نأْتيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيْدَةٍ».
          قالَ ابنُ قُتَيْبةَ: الشُّقَّةُ: السَّفَرُ(12). وقال الزَّجَّاجُ(13): هيَ الغايةُ التي تُقْصَدُ.
          ويدلُّ على سبقِهم للإسلام أيضاً ما رواهُ البُخاريُّ في الجمُعةِ مِن طرِيق أبي جَمْرةَ أيضاً[4371]، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: «إنَّ أوَّلَ جُمْعةٍ جُمعت في مسْجدِ / رَسولِ الله صلعم في مَسجِدِ عَبْدِ القَيْس بجُوَاثَى منَ البَحْرَيْن».
          وجُوَاثَى بضمِّ الجيمِ، وبعد الألِفِ مُثلَّثة مفتوحة، وهي قرْيةٌ شهيرةٌ لهم.
          وإنَّما جمعوا بعد رجوع وَفْدهم إليه، فدلَّ على أنَّهم سبقوا جميعَ القُرى إلى الإسلام.
          قوله: (هذا الحيَّ) أصلُه منزلة القَبِيلة، ثمَّ سُمِّيتِ القبيلةُ به اتِّساعاً؛ لأنَّ بعضَهم يَحْيا ببعضٍ.
          وقوله: (مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ) أي: ابن نِزَارٍ، وهو غيرُ منْصَرِفٍ للعَلَميَّة والتَّأنيثِ؛ لأنَّ المرادَ به القبيلةُ، فكُفَّارُ مُضَر كانوا بين رَبِيْعةَ والمديْنةِ، ولا يمكنهم الوصول للمديْنة إلَّا بالمرورِ عليهم، وكانوا يخافون منهم في غير الأشْهُرِ الحُرُم.
          و(مُضَرَ) بضمِّ الميمِ وفَتْح الضَّادِ، مَعْدولٌ عَن: ماضِرٍ، لُقِّبَ بذلك لأنَّه كان يَمْضُرُ قَلْبَ مَنْ رآهُ لحُسْنِه وجَمالِهِ، واسمُه: عَمْرٌو، وكُنيتُه: أَبو إيَاس.
          قوله: (بِأَمْرٍ فَصْلٍ) بالتَّنوين فيهما لَا بِالإضافةِ.
          والأمْر يحتملُ أن يكون واحِدَ الأُمُورِ، أي: الشَّأن.
          ويَحتملُ أن يكونَ واحِدَ الأَوامِرِ، أي: القَول الطَّالب للفِعْل، فالمرادُ به ما قابَلَ النَّهْي.
          و(فَصْلٍ) بمَعنى: فاصِل، كعَدْلَ بمعنى: عادِل، أي: الذي يفصلُ بين الحقِّ والباطِلِ، أيْ: يُميِّز بَيْنهما.
          ويحتملُ أن يكون بمعْنى: مُفصَّل، أي: المُوَضَّح للمُرادِ مِن غَيْره.
          وقال الخطَّابيُّ(14): الفَصْلُ البَيْنُ، وقيل: المُحْكَمُ.
          قوله: (نُخْبِرْ) مجْزومٌ في جواب الأمْرِ، أو بشَرطٍ مُقدَّرٍ على الخلاف في ذلك.
          قوله: (مَنْ وَرَاءَنا) بفَتْح الميْم.
          وفي رِوايةٍ بكَسْرها.
          والمرادُ بمَن وراءهم قومهم، وعلى الرِّواية الثَّانية فالمفعولُ محذوفٌ، أي: قومنا.
          قوله: (وَنَدْخُلْ) بالجزْمِ عطْفٌ على (نُخْبِرْ)، وسقطتِ الواوُ في بعض الرِّواياتِ فيرفع (نُخْبِرُ) على أنَّه صفةٌ ثانيةٌ ﻟ (أَمْر) ويجزم (نَدْخُلْ) في جواب الأمْرِ.
          قالَ ابنُ أبي جَمْرةَ: فيه دليلٌ على إبداءِ العُذْرِ عِنْد العجزِ عَن توفية الحقِّ واجباً أو مَنْدوباً، وعلى أنَّه يُبدأ بالسُّؤال عنِ الأهَمِّ، وعلى أنَّ الأعمالَ الصَّالحة تُدْخلُ الجنَّة إذا قُبلت، وقَبولُها يقعُ برَحْمةِ الله تعالى.
          قوله: (وَسَأَلُوْهُ عَنِ الأَشْرِبةِ) أيْ: عن حُكْمِها مِن حِلٍّ وحِرْمٍ.
          قوله: (أَمَرَهُمْ بِالإيمانِ بِالله وَحْدَهُ).
          فإنْ قلت: كيف قالَ (أمَرَهُم بأرْبعٍ)، ثمَّ قال: (أمَرَهُم بالإيمان بالله وحْدَه)؛ فإنَّ الإيمانَ واحِدٌ؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه أُطلق على الإيمان (أَرْبع) باعتبارِ أجزائِه الأربعة.
          قوله: (شَهَادَةُ أنْ لا إله إلَّا اللهُ) هذا دَليلٌ على أنَّ الإيمانَ والإسلامَ بمعنًى واحدٍ؛ لأنَّه فسَّر الإسلامَ في حديثٍ آخَرَ بما فسَّر به الإيمان ها هُنا مَع أنَّهما مُتغايران!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ في العبارة حَذْفًا، والتَّقديرُ: أتدْرون ثَمَرات الإيمان. /
          فإنْ قلْتَ: إنَّ منْ ثَمَراتِه الحجَّ، ولم يذكُرْه، فما النُّكْتةُ في ذلك؟!
          أُجِيْبَ بجوابَين:
          الأوَّل: إنَّ الحجَّ لم يُفرضْ سَنةَ قدومِهم؛ لأنَّ قُدومَهم كان سنةَ ثمانٍ عامَ الفَتْحِ، وفريضة الحجِّ سنةَ تسْعٍ منَ الهجْرة على بعض الأقوالِ.
          الجواب الثَّاني: إنَّ النَّبيَّ صلعم عَلِمَ أنَّهم لا يستطيعونَ الحجَّ بسبب كُفَّارِ مُضَرَ.
          قوله: (وَأنْ تُعْطُوا مِنَ المغْنَمِ الخمُسَ).
          فإنْ قلْتَ: لمَ عَدِلَ في هذا عنْ لفظِ المصْدَرِ الصَّريْح إلى هذا اللَّفظ؟!
          قلتُ: إشْعاراً بمعنى التَّجدُّد الذي للفِعْل؛ لأنَّ سائرَ الأركان كانت ثابتةً قبلَ ذلك، بخلاف إعطاءِ الخمُسِ، فإنَّ فريضتَه كانتْ مُتجدِّدةً.
          قال النَّوويُّ(15): عدَّ جماعةٌ هذا الحديثَ من المشكلات، حيث قال: (أَمَرَهُمْ بأَرْبَع) مَع أنَّ المعدودَ خمسٌ، واختلفوا في الجواب عنْه:
          فقيل: إنَّ أوَّلَ الأربع المأمور بها إقامُ الصَّلاة، وإنَّما ذَكَر الشَّهادتيَن تبرُّكاً بهما، كما قيل في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، فلم يكُنِ الغرضُ ذِكْرَ الشَّهادتَين؛ لأنَّ القَوْمَ كانوا مُؤمنين مُقرِّين بكلمَتَي الشَّهادة، ولكن ربَّما كانوا يظنُّون أنَّ الإيمانَ مقصورٌ عليهما كما كان الأمْرُ في صَدْر الإسلامِ.
          وقيل: إنَّ قولَه: (وأنْ تُعْطُوا) معْطوفٌ على قولِه: (بأَرْبع)، أي: آمُركم بأربع وبأنْ تُعْطُوا، ويدلُّ عليه العُدولُ عن سياق الأربعِ والإتيانُ ﺑ (أَنْ) والفِعْل مَع توَجُّه الخطابِ إليهم.
          وقيْل: إنَّه عَدَّ الأربع التي وعَدَهُمْ بها، ثمَّ زادَهُم خامسةً، ولا تمتنع الزِّيادة إذا حصل الوَفاءُ بالعَهْدِ، ويدلُّ على ذلك لفظُ رِواية مُسلمٍ[26/18] منْ حديث أبي سعيدٍ في هذه القصَّة:
          «آمُرُكُم بأرْبعٍ: اعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا بِه، وأَقِيْمُوا الصَّلاةَ، وآتُوا الزَّكَاةَ، وصُوْمُوا رَمَضَانَ؛ وأعْطُوا الخمُسَ منَ المَغانِم(16)».
          وقِيل: إنَّه عَدَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ واحدةً؛ لأنَّها قَرِينتها في كتابِ الله تعالى، وتكونُ الرَّابعةُ أداءَ الخمُسِ.
          وقيل: إنَّ الأُمورَ الخمْسةَ المذْكُورةَ هُنا تفْسيرٌ للإيمان، وهو أحدُ الأربعة الموعود بذِكْرِها، والثَّلاثة الأُخَر حذفَها الرَّاوي اخْتِصاراً أوْ نِسْياناً.
          قوله: (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أي: عن تعاطي وشُرْب ما يُنبذ ويُلْقى في هذه الظروف الأربع منَ النَّبيذ، فهو من إطْلاق المحل وإرادة الحالِ، أي: ما في الحنْتَمِ ونحوه.
          وصرَّح بالمرادِ في رِواية النَّسائيِّ(17) وقال: «وأنْهاكُمْ عَنْ أرْبع: ما يُنْبذ في الحنْتَمِ»، وخصَّت هذه الأربع بالذِّكْرِ؛ لأنَّ ما يُلْقى فيها يُسْرِعُ إليه التَّغيُّر والإسْكارُ. /
          قوله: (الحنْتَمِ) هو بالحاءِ المُهْمَلَةِ، وبالنُّون السَّاكنة، والمثنَّاة الفَوقيَّة.
          قال أبو هُريرةَ: «هيَ الجِرَارُ الخُضْرُ»، أي: الفَخَّارُ الأخْضرُ الذي يكون منْ جنْسِ السَّلاطين التي تُدهَن بالزُّجاج.
          وقالَ ابنُ عُمَرَ: «هيَ الجِرَارُ كُلُّها».
          وقال أَنسُ بنُ مالكٍ: «جِرَارٌ يُؤْتى بها مِن مُضَرَ، مُقيَّراتُ الأجْوافِ»، أيْ: معمولةٌ بالقارِ، وهو الزِّفْتُ.
          وقال الأَبِيُّ: واختلفَ في الحنْتَمِ، فقال ابنُ حبيبٍ: هو كلُّ فَخَّارٍ كان أَخضر أوْ أبيض، وأنكَره غيرُه وقال: إنَّما الحنْتَمُ ما طلي من الفَخَّارِ بالحنْتَم المعمولِ منَ الزُّجَاج ونحوِه؛ لأنَّه الذي يُسْرع إليه شدَّةُ التَّغيُّر؛ وهذا هو المُعْتَمَدُ.
          وحُكْمُ ما يُنبذ فيه الكراهةُ، وإنْ ظنَّ الإسْكارَ حَرُم.
          قوله: (وَالدُّبَّاءِ) بضمِّ الدَّال والمَدِّ، وحكى القزَّازُ فيه القَصْرَ: هو القَرْعُ. قال النَّوويُّ: المرادُ: اليابسُ منهُ.
          والمرادُ: أَو أَن تتخذ مِنْه.
          قوله: (وَالنَّقِيْرِ) بالنُّونِ المفتوحةِ والقافِ المكْسورة، وجاءَ تفسيرُه في «صحيح مُسلمٍ»[26/18] أنَّه إناءٌ يتَّخذُ منَ الجِذْع، أي: النَّخْل، ويُنْقَر وسَطُه ويُنْبذُ فيه، فيكون فيه شِدَّة التَّغيُّر.
          قال في «المصْباح»: والنَّقِيْرُ: خَشَبةٌ تُنْقَرُ ويُنْبذُ فيه، ونُهيَ عنْه، فَعِيْلٌ بمَعْنى مَفْعُولٍ. انتهى.
          وقالَ في «المخْتارِ»: والنَّقِيْرُ _أيضاً_ أصْلُ خَشَبةٍ يُنْقَرُ فيُنْبَذُ فيْه نَبِيْذُهُ، وهُو الذي وَرَدَ النَّهْيُ عنْه. انتهى.
          قوله: (المُزَفَّتِ) بالزَّاي والفاءِ المُشدَّدة، أي: المَطْليُّ بالزِّفْتِ.
          قوله: (المُقَيَّرِ) بالقافِ، والمُثنَّاة التَّحتيَّة المشدَّدة المفْتوحةِ، وهو ما طُلِيَ بالقارِ، ويقالُ لَه: القِيْرُ.
          وهُو نبْتٌ يُحرَقُ إذا يَبِسَ، يُطْلى به السُّفُنُ وغيرُها كما يُطْلى بالزِّفْت؛ قالَه صاحبُ «المُحْكَم»(18).
          وهذا شكٌّ منَ الرَّاوي، أيْ: قال (المُقيَّر) بَدَل (المُزَفَّت)، فشكَّ الرَّاوي في أَيِّ اللَّفظَين قالَه النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (احْفَظُوْهُنَّ) أي: تلْك الأوامر والنَّواهي.
          قوله: (وَأَخْبِرُوْا) بهمْزةِ القَطْع المفتوحةِ، و(بِهِنَّ) متعلِّق به.
          وهذا الحديثُ ذكَرَه البخاريُّ في باب: أداء الخمُس منَ الإيمان.


[1] مسند أحمد 2804.
[2] أورده صاحب عيون الأخبار ابن قتيبة الدنيوري 2/64.
[3] كذا في الأصل! وفي «المصباح» وعدَّة نسخ خطيَّة: وَعَدَ.
[4] ما بين الحاصرتين منِّي.
[5] من «ز3» و«ز5» و«م» وغيرها، وليست في الأصل.
[6] ذكره النووي في شرحه على مسلم 1/181.
[7] كذا في الأصل، وفي «م»: إن.
[8] كذا في الأصل، وفي «م»: إن.
[9] صيانة صحيح مسلم ص150.
[10] في شرح مسلم 1/187.
[11] إلى هنا ينتهي السَّقط من «ف2».
[12] ينظر: «غريب القرآن» لابن قُتيبة (ص: 187 - علميَّة).
[13] معاني القرآن وإعرابه 2/450.
[14] أعلام الحديث 1/185.
[15] شرح مسلم 1/184.
[16] كذا في الأصل و«م» وباقي النُّسخ، وفي «صحيح مسلم»: الغنائم.
[17] في الكبرى 6833 بلفظ: «عن الشرب في الختم».
[18] هو لابن سِيْدَهْ، ينظر فيه ░6/499 – علْميَّة▒.