حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر

          228- قوله: (لا عَدْوَى) [خ¦5707] بالعَيْن المُهْملة والواوِ المفتوحتَين، بينهُما دالٌ مُهْملةٌ ساكنةٌ، آخرُه ألِفٌ مقصورة، أي: لا سِرَايةَ للمَرَضِ مِن صاحبِه إلى غيره.
          وهذا نفيٌّ لما كانتِ الجاهِليَّة تعتقدُه في بعض الدَّاءات أنَّها تُعدي بطبعِها، وهو نفيٌ بمَعنى النَّهْي.
          قوله: (وَلَا طِيَرَةَ) بكَسْرِ المُهملة، وفَتْح التَّحتانيَّة، وقد تسكَّن، هي التَّشاؤمُ، وهو مصدرُ تَطَيَّرَ، مِثْلُ: تَخَيَّرَ خِيَرَةً.
          قال أهْلُ اللُّغةِ: لم يجئْ من المصادِر هكذا غير هاتَين.
          وتعقِّب بأنَّه سمع طِيَبَةً، وأوردَ بعضُهم التِّوَلَةَ، وفيه نَظَرٌ.
          وأصْلُ التَّطيُّر أنَّهم كانوا في الجاهِليَّة يعتمِدون على الطَّيْر، فإذا خرَجَ أحدُهُم لأمْرٍ فإنْ رأى الطَّيْرَ طارَ عَن يميْنِه تيمن به واستمرَّ، وإنْ رآه طارَ عَن يَسارِه تشاءم به ورجعَ، وربَّما كان أحدُهم يهيِّج الطَّيْر ليَطيْر فيعتمدونها، فجاءَ الشَّرْعُ بالنَّهْيِ عَن ذلك.
          فقوله: (لا طِيَرَةَ) أي لا تشاؤم بالطَّيْر، نفيٌ بمعنى النَّهْي، وقد كان بعضُ عُقلاءِ الجاهِليَّة يُنكر التَّطيُّر ويتمدح بتركِه.
          قالَ شاعرٌ منْهم:
وما عاجِلاتُ الطَّيْر تُدْني منَ الفَتى                     نَجَاحاً ولا عن رَيْثِهنَّ قُصُوْرُ
          وقالَ آخرُ:
لَعُمْرُكَ ما تَدْري الضَّوارِبُ بالحصى                     ولا زاجِراتُ الطَّيْرِ ما الله صانِعُ
          وكان أكثرُهُم يتَطيَّرون ويعتمدون على ذلك، ويصح معهم غالباً لتزين الشَّيطان لهم ذلك، وبقيتْ من ذلك بقايا في كثير منَ المُسلمين.
          و قد أخرجَ ابنُ حِبَّانَ في «صحيحِه»[6123] مِن حديثِ أَنسٍ ☺ رَفَعَه: «لا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ على مَنْ تَطَيَّرَ».
          وأخْرجَ ابنُ عَدِيٍّ بسَنَدٍ لَيِّنٍ(1)(2)، عَن أبي هُريرةَ ╩ رفَعَه: «إذا تَطَيَّرْتُمْ فامْضُوا، وعلى الله فَتَوَكَّلُوا».
          وأخْرجَ / الطَّبرانيُّ(3)، عنْ أبي الدَّرْداءِ رَفَعَه: «لَنْ يَنالَ الدَّرَجاتِ العُلى مَنْ تكَهَّنَ، أوِ اسْتَقْسَمَ، أو رجعَ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّراً».
          وأَخرجَ البيْهقيُّ في «الشُّعب»[1137] من حديث(4) عبدِ الله بنِ عَمْرٍو(5) مَوقُوفاً: «مَنْ عَرَضَ لَه مِن هذه الطِّيَرةِ شيءٌ فلْيقُلِ: اللَّهمَّ لا طَيْر إلَّا طَيْرك، ولا خَيْر إلَّا خَيْرُكَ، ولا إله غَيْرُكَ».
          قوله: (وَلَا هَامَةَ) قالَ أبو زيدٍ: هي بالتَّشْديدِ، وخالَفَه الجميْعُ فخفَّفُوها وهو المحفوظُ في الرِّواية، وكأنَّ مَن شدَّدَها ذهبَ إلى واحِدةِ الهَوَامِّ وهي ذَواتُ السُّمُومِ.
          وقيل: دَوابُّ الأرضِ التي تهتمُّ بأذى النَّاس.
          وهذا لا يصح نَفْيه إلَّا إنْ أُريد أنَّها لا تضر لذَواتها وإنَّما تضر إذا أراد اللهُ إيقاعَ الضَّررِ عن إصابتِها.
          وقد ذكر الزُّبير بنُ بكَّارٍ أنَّ العَرَبَ كانت في الجاهِليَّة تقول: إذا قُتل الرَّجُلُ فلم يؤخَذ بثأرِه، خرجتْ مِن رأْسه هامَة _وهي دُودةٌ_ فتدورُ حَوْل قَبْره فتقول: اسقوني! فإذا أُدْرِكَ بثأره ذهبتْ، وإلَّا بقيَتْ.
          وفي ذلك يقولُ شاعِرُهُم:
يا عَمْرُو ألَّا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقَصَتِي                     أَضْرِبْكَ حتَّى تقُولَ الهامَةُ: اسْقُوْنِي
          قال: وكانتِ اليهودُ تزعمُ أنَّها تدورُ حَوْل قَبْره سبعةَ أيَّامٍ، ثمَّ تذهب.
          وقال أبو عُبيْدةَ: كانوا يزْعمونَ أنَّ عظامَ الميِّتِ تَصيْر هامَةً فتَطِير، ويسمون ذلك الطَّائرَ: الصَّدَى.
          فعلى هذا، فالمعنى: لا حياةَ لهامَةِ الميِّتِ.
          وذكَر ابنُ فارِسٍ وغيرُهُ من اللُّغويِّين نحوَ الأوَّلِ، إلَّا أنَّهم لم يُعيِّنوا كونها دُودةً، بلْ قال القَزَّازُ: الهامَةُ طائرٌ منْ طَيْر اللَّيلِ.
          كأنَّه يعني: البُوْمةَ.
          وقالَ ابنُ الأعرابيِّ: كانوا يتَشاءَمُون بها إذا وقعتْ على بَيْتِ أحَدِهم، يقول: نَعَتْ إلَيَّ نَفْسي، أو أحَداً مِن أهْل دارِي.
          وعلى هذا فالمعنى: لا شُؤم بالبُوْمَةِ.
          وروى أبو نُعيْمٍ في «الحِلْية»[5/391]، عنِ ابنِ مَسْعودٍ قال: كنتُ عِنْد كَعْبِ الأحْبارِ وهُو عِنْد عُمر بن الخطَّاب فقالَ كَعْبٌ:
          يا أَميرَ المؤمنين، ألَا أُخبرُك بأغْرب شيءٍ قرأتُه في كُتُبِ الأنبِياءِ!
          إنَّ هامَةً جاءتْ إلى سُليمانَ بنِ داوُدَ فقالَتِ: السَّلامُ عليكَ يا نبِيَّ الله، قال: وعليكِ السَّلامُ يا هامَةَ، أخْبِرِيني كيفَ لا تأكُلينَ منَ الزَّرْع!؟
          قالتْ: يا نبيَّ الله، إنَّ آدَمَ أُخرج منَ الجنَّة بسببِه، فقال: فكيف لا تَشْرَبين الماءَ!؟ قالَت: إنَّه غَرِقَ فيْه قَوْمُ نَوْحٍ، فمِن أجْل ذلك لا أشْرَبُه، قالَ لها سُليمان: فكيفَ نزلتِ الخرَابَ؟
          قالتْ: إنَّ الخرابَ مِيْراثُ الله، فأَنا أسكُن مِيْراثَ الله، قالَ اللهُ تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] فالدُّنيا ميْراثُ الله كُلُّها.
          قال سُليمان: فَما تقولينَ إذا جلستِ فَوْقَ خَرِبةٍ؟
          قالتْ: أقولُ: أينَ الذين كانُوا يبتغون الدُّنيا ويتنعَّمون فيها، قال سليمان: فما صياحكِ في الدَّار وما تقولين إذا مَرَرْتِ عليها ؟ قَالت: أقولُ: ويلٌ لبَني آدَمَ، كيف ينامُون وأمامَهُمُ الشَّدائدُ! قال: فما بالُك لا تخْرُجين بالنَّهار؟ قالت: مِن كَثرة ظُلْمِ بَني آدَمَ لأنفُسِهم.
          قال: فأخْبِريني ما تقولي في صِياحُكِ؟
          قالت: أقولُ: تزوَّدوا يا غافِلين، وتهيَّئوا / لِسَفَرِكُم، سُبحان خالِقِ النُّوْر.
          فقالَ سليمانُ: ليس في الطُّيور طَيْرٌ أنْصحُ لابنِ آدَمَ وأشْفقُ عليه من الهامَةِ، وما في قُلُوبِ الجُهَّال أبغضُ مِنْها.
          قوله: (وَلَا صَفَرَ) بفَتْح الصَّادِ والفاءِ، أي: لا صَفَر مُؤخَّر عنْ محلِّه؛ فَفيه ردٌّ على النَّسِيء.
          أَوِ المرادُ: إنَّهم يتشاءمُون بدُخول صَفَرَ لما يَتَوهَّمون أنَّ فيْه كَثرة الدَّواهي والفِتَن، فالمعنى: ولا تشاؤُم بهذا الشَّهْرِ، وجمعُه أَصْفَارُ.
          قالُ ابنُ دُرَيْدٍ: الصَّفَرانِ شَهْران مِن السَّنةِ، سُمِّي أحدُهما في الإسلام المُحَرَّمُ، والصَّفَرُ بفَتحَتْين فيما يَزعمُ العربُ: حَيَّةٌ في البَطْنِ تعضُّ الإنسانَ إذا هاجَ، واللدغ الذي يجده عِنْد الجُوْع من عَضِّه، فنفى المُصطفى صلعم أربعةَ أُمُورٍ لا أصل لها، ونفى أيضاً في بعض الأحاديْثِ «الغُوْل» و«النَّوْء».
          فالحاصلُ منْ مجموعِ الأحاديثِ سِتَّةٌ: العَدْوَى، والطِّيَرةُ، والهامَةُ، والصَّفَرُ، والغُوْلُ، والنَّوْءُ.
          أمَّا الأربعةُ الأُولى، فقد تقدَّم الكلامُ عليها.
          وأمَّا الغُوْلُ؛ فقالَ الجُمْهورُ: كانتِ العربُ تزعمُ أنَّ الغِيْلانَ في الفَلَواتِ، وهي جِنْسٌ من الشَّياطين، تَتَراءى للنَّاس وتَتَغَوَّلُ لهم تَغَوُّلاً، أي: تَتلَوَّنُ تَلَوُّناً، فتُضِلُّهم عنِ الطَّرِيقِ فتُهلِكُهم.
          وقد كثُر في كلامِهم: غالَتْهُ الغُوْلُ، أي: أهْلَكَتْهُ، أو أضَلَّتْهُ، فأبطلَ صلعم ذلك.
          وقيل: ليسَ المرادُ إبطالَ وُجودِ الغِيْلانِ، وإنَّما معناهُ إبْطالُ ما كانتِ العرَبُ تزعمُه من تَلَوُّنِ الغُوْلِ بالصُّوَرِ المُختلفةِ.
          قالوا: والمعنى: لا تستطيع الغُوْلُ أن تضِلَّ أحداً، ويؤيِّدُه حديثُ(6): «إذا تَغَوَّلَتِ الغِيْلَانُ فَنادَوا بالأَذانِ»، أي: ادْفَعُوا شَرَّها بذِكْرِ الله.
          وفي حديث أبي أيُّوْبَ عِنْد النَّسائيِّ(7): «كانَتْ لي سَهْوَةٌ فيها تَمْرٌ، فكانَتِ الغُوْلُ تَجِيءُ فتأْكُلُ مِنْهُ».
          وعن بعضِهم أنَّه سلكَ طرِيقاً بعد ما نُهي عن سُلُوكِها، لأنَّ فيها غُوْلاً، فرأى امْرأةً على سَريْرٍ، عليها ثيابٌ مُعَصْفَرَةٌ، وعنْدَها قَنادِيل، فدَعَتْني!
          قال: فأخذْتُ في قِراءةِ {يس}(8)، فطُفئتْ قَنادِيْلُها، وهي تقولُ: يا عَبْد الله ما صنعتَ بِي فسَلِمْتَ!
          فلا يصيبكُم شيءٌ من خَوْفٍ، أو طَلَبِ سُلْطان، أو عَدُوٍّ، إلَّا قرأتُم {يس}؛ فإنَّه يَدْفَع عنكُم بِها.
          قوله: (وَفِرَّ مِنَ المَجْذُوْمِ) أي: اهْرُبْ منَ الشَّخْص الذي قامَ به داءُ الجُذَامِ، وهو عِلَّةٌ يَحْمَرُّ منْها العُضْوُ، ثمَّ يتَقطَّعُ ويَتَناثرُ.
          وقوله: (كَمَا تَفِرُّ) بكَسْرِ الفاءِ، أي: كفِرارِكَ (مِنَ الأَسَدِ)، واستُشكل (مَا) هُنا مَع قوله (لا عَدْوَى) ومَع حديْث[د 3925، ت 1817، ـه 3542] أنَّ النَّبيَّ صلعم أكلَ مَع مجْذُوْمٍ وقال: «ثِقَةً بالله وَتَوَكُّلاً عَلَيْه»!
          وأُجِيْبَ بأجْوبةٍ:
          أحدها: نفيُ العَدْوى جُملةً، وحملُ الأمْرِ بالفِرارِ على رِعاية خاطرِ المجْذُوم؛ لأنَّه إذا رأى الصَّحيحَ البَدَنِ السَّليمَ من الآفَة، تَعْظُم مُصيبتُه وتزدادُ حَسْرتُه.
          ثانيها: حملُ (لا عَدْوى) على قويِّ الإيمانِ صحيح التَّوكُّل، بحيث يستطيع أن يدفعَ التَّطيُّر الذي يقع في نفس كُلِّ أحدٍ.
          وحملُ الأمْرِ بالفرارِ من المجْذوم على ضعيفِ الإيمان والتَّوكُّل، فلا تكون لَه قوَّةٌ على دَفْع اعتقادِ العَدْوى.
          ثالثها: إثباتُ العَدْوى / من الجُذَامِ ونحوه، وهو مخصوصٌ من عُمُوم نفْيِ العَدْوى، فيكون معنى قوله: (لا عَدْوَى)، أي: إِلا من الجُذام والبَرَص والجَرَبِ مثَلاً، فكأنَّه قال: «لا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئاً»، إلَّا ما تقدَّمَ استثناؤُه.
          رابعها: إنَّ الأمْرَ بالفرارِ منَ المَجْذُوم ليس من باب العَدْوى في شيءٍ، بلْ هو لأمْرٍ طبيعيٍّ وهو انتقالُ الدَّاءِ مِن جَسَدٍ لجسَدٍ بواسطة المُلامَسَة والمُخالطة وشمِّ الرَّائحة.
          ولذلك يقعُ في كثير من الأمراض في العادةِ انتقالُ الدَّاءِ من المريض إلى الصَّحيح بكثرة المُخالَطَة.
          وكذا يقعُ كثيراً بالمرأة من الرَّجُل وعكسه، ويُنزَعُ الوَلَد إليه، ولهذا يأمُرُ الأطِبَّاءُ بتركِ مُخالطة المجْذومِ لا على طرِيق العَدْوى، بلْ على طرِيق التَّأثُّر بالرَّائحة؛ لأنَّها تُسقم مَن واظبَ شمَّها.
          وأمَّا قوله: (لا عَدْوَى) فلَه معنًى آخر، وهُو أن يقعَ المرضُ بمكانٍ _كالطَّاعُوْنِ_، فيفرُّ منْه مَخافة أنْ يُصيبَه؛ لأنَّ فيه نوعاً من الفِرارِ من قَدَرِ الله.
          خامسها: إنَّ المرادَ بنفْي العَدْوى، أنَّ شيئاً لا يُعْدِي بطَبعِه، نفْياً لما كانتِ الجاهِليَّةُ تعتقدُه أنَّ الأمْراضَ تُعدي بطبْعِها منْ غير إضافةٍ إلى الله تعالى.
          فأبطَلَ النَّبيُّ صلعم اعتقادَهُم ذلك بقولِه: (لا عَدْوَى)، وبأكْلِه مَع المجْذُوم ليُبيِّن لهم أنَّ اللهَ تعالى هو الذي يُمرض ويَشفي، ونهاهُم عنِ الدُّنُوِّ منْه ليُبيِّنَ لهم أنَّ هذا من الأسبابِ التي أَجرى اللهُ العادةَ بأنَّها تفضي إلى مُسبِّباتها.
          فَفي نفيه إثباتُ الأسبابِ، وفي فِعْلِه إشارةٌ إلى أنَّها لا تستقل، بلِ اللهُ هو الذي إنْ شاءَ سلَبَها قُواها فلا تُؤثِّر شيئاً، وإنْ شاءَ أبقاها فأثَّرت.
          وهذا الحديثُ ذكَره البخاريُّ في باب: الجُذَامِ.


[1] الكامل في الضعفاء 4/315.
[2] قوله: «بسند لين» زيادة من «ت» و«ف2» و«ز6»، وفي «ف3» وهامش «ز1»: بسنده. وفي الأصل و«ز1» و«م» وباقي النُّسخ: بسندين.
[3] 1763 في الجزء المفقود الأخير، 2663 في الأوسط، 2103_2104 في مسند الشاميين.
[4] كذا في الأصل، وفي «م» زيادة: أبي.
[5] كذا في الأصل، وفي «م»: عمر.
[6] حم 14316، س في الكبرى 10791.
[7] هو في الترمذي 2880 والمستدرك 934، والمسند لأحمد 23640 وليس في النسائي.
[8] يعني سورةَ {يس}.