حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة

          123- قولُه: (سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ) [خ¦2742] هو الذي فَتْح مَدائنَ كِسْرى، وهو الذي بنى الكُوفةَ.
          وعَن عليٍّ ☺ قال: ما سمعتُ رسولَ الله صلعم جمعَ أَبوَيْه إلَّا لَه وللزُّبيْر بن العَوَّامِ، فقالَ لسَعْدٍ يوم أُحُدٍ: «ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وأُمِّي».
          ورمى يوم أُحدٍ ألْفَ سَهْمٍ، لم يُخطئ واحِداً منها، وهو أوَّلُ مَن رمى بسَهْمٍ في سبِيْل الله، وأوَّلُ من أراقَ دَماً في سبِيل الله.
          وكانَ طوِيلاً ذا هامَةٍ، فلمَّا حضرته الوَفاةُ دَعا بجُبَّةٍ فقال: «كَفِّنُوني فيها؛ فإنِّي لقيتُ المُشْركين فيها يوم بَدْرٍ، وإنَّما ادَّخرتُها لهذا».
          قَوله: (يَعُوْدُنِي) جملةٌ حاليَّةٌ، أي: في حُجَّة الوَداع، أو في الفَتْح، أوْ في كُلٍّ منهما.
          قوله: (وَهُوَ) الضَّميْر لَه ╕، وهو من كلام سَعْدٍ، يحكي حالَ النَّبيِّ صلعم وهو كراهته ╕ لموْت سَعْدٍ بمكَّةَ.
          فالضَّميرُ في (يَمْوْتَ) لسَعْد بنِ أبي وقَّاص، فمرجعُه غيرُ مرجع الضَّميرِ الأوَّلِ المنْفَصِل.
          ويحتملُ أنَّ الضَّميرَيْن عائدانِ على سَعْدٍ؛ فإنَّه كان يكْرهُ الموْتَ في الأرضِ التي هاجَرَ مِنْها.
          قوله: (ابنَ عَفْرَاءَ) وفي رِواية الزُّهْريِّ، عَن عامرٍ في الفرائِض [خ¦6733]: «لكِنِ البائِسُ سَعْدُ ابنُ خَوْلَةَ».
          قال الدِّمْياطيُّ(1): والزُّهْريُّ أحفظُ مِن سَعْد بنِ إبراهيمَ، فلعلَّه وَهِمَ في قولِه: (ابنَ عَفْرَاءَ)، ويحتملُ أنَّ لأُمِّه اسمَين: خَوْلة وعَفْراء، أوْ يكون أحدُهما اسماً والآخرُ لَقَباً، أو أحدُهما اسمَ أُمِّه والآخرُ اسمَ أَبِيْهِ.
          قوله: (قُلْتُ) هذا من قولِ سَعْد بنِ أبي وَقَّاص.
          قوله: (فَالشَّطْرُ) بالرَّفْع لأَبَوَي ذَرٍّ والوَقْتِ، أي: أَفيَجوز الشَّطْر، وهو النِّصْف، والجرُّ عطْفاً على قولِه: (بِمالِي كُلِّهِ) أي: فأَوصى بالشَّطْرِ.
          وقالَ الزَّمخْشَريُّ(2): هو بالنَّصْب على تقْدير فِعْلٍ، أي: أعيِّن الشَّطْر أو أُسمِّيه.
          قوله: (قُلْتُ: الثُّلُثُ) بالرَّفْع والجرِّ والنَّصْبِ.
          ولأبي ذَرٍّ: «فَالثُّلُثُ»، بالفاءِ، والرَّفْع والجرِّ.
          قولُه: (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم(3).
          قوله: (فَالثُّلُثَُ) هو بالنَّصْب على الإغْراءِ، أَو بالرَّفْع على الفاعلِ، أي: يكْفيك الثُّلُثَ، أوْ على تقْديرِ الابتِداء والخبرُ محذوفٌ، أي: الثُّلُثُ كافٍ، أوِ العكس وبالجرِّ.
          ولأبي ذَرٍّ قال: «الثُّلُث»، بغَير فاءٍ.
          قوله: (وَالثُّلُثُ كَثِيْرٌ) بالمثلَّثة، أي: بالنِّسْبة إلى ما دونه.
          قال في «الفَتْح»[5/365]: يحتملُ أن يكون المرادُ: أنَّ التَّصدُّقَ بالثُّلُثِ هو الأكْملُ، أي: كثيرٌ أجْرُه، ويحتمل أن يكون معناه: كثيرٌ غيرُ قليْلٍ.
          قال الإمامُ / الشَّافعيُّ ☼: وهذا أَوْلى مَعانيه، يعني: أنَّ الكثْرةَ أمْرٌ نِسْبيٌّ.
          قوله: (إنَّكَ) بالكَسْرِ على الاستِئناف، وبالفَتْح بتقدِيرِ لام التَّعْليل، أي: لأنَّكَ.
          قوله: (أَنْ تَدَعَ) الهمْزة مفتوحةٌ، ﻓ (أَنْ تَدَعَ) في تأويل مصْدَر مُبتدأ، والتَّقدير: ترككَ ورَثتك أغنياء، و(خَيْرٌ) خبرٌ، والجملةُ بأسرها خبرُ (أَنْ).
          أوْ مكسورةٌ على أنَّها شرطيَّةٌ، وجزاءُ الشَّرْطِ قولُه: (خَيْرٌ)، على تقديرِ: فهو خيرٌ، وحذفُ الفاءِ من الجزاءِ(4) سائغٌ شائعٌ غير مُختصٍّ بالضَّرورة، ومن ذلك قولُه في حديث اللُّقَطَة: «فإنْ جَاءَ صَاحِبُها وإلَّا اسْتَمْتَعْ» [خ¦2437] بحذفِ الفاءِ.
          ومَن خصَّ هذا الحذْفَ بضرورة الشِّعْر، فقد حادَ عن التَّحقيْقِ وضَيَّق حيثُ لا تَضْيِيق؛ كما قالَه ابنُ مالكٍ.
          ورُدَّ بأنَّه يبقى الشَّرط بلا جزاءٍ!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّه إذا صحَّتِ الرِّوايةُ فلا التفاتَ إلى مَن لم يجوِّز حذفَ الفاءِ منَ الجُمْلة الإسميَّة، بلْ هو دليلٌ عليه.
          قال ابنُ مالكٍ: الأصلُ: إنْ تركتَ وَرَثَتَكَ أغْنياء فهو خيرٌ، فحذف الفاء والمبتدأ، ونظيرُه قوله: «فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلَّا اسْتَمْتَعْ بِها»، وذلك ممَّا زعَمَ النَّحْويُّونَ أنَّه مخصوصٌ بالضَّرورة، وليس مخصوصاً بها؛ بلْ يكثر استعمالُه في الشِّعْرِ ويقلُّ في غيره.
          ومن خصَّ هذا الحذفَ بالشِّعْر، حادَ عن التَّحْقيقِ وضَيَّقَ حيثُ لا تَضْييْق.
          قوله: (وَرَثَتَكَ) أي: بِنْته وأولاد أَخِيه عُتْبة بن أبي وقَّاص، منهم هِشامُ بن عُتْبةَ الصَّحابيُّ.
          ولأبي ذَرٍّ: «أَنْ تَدَعَ أَنْتَ وَرَثَتَكَ».
          قوله: (عَالَةً) بتخفيف اللَّام، أي: فُقراء، جمعُ عائِلٍ، وهو الفَقيْر.
          قوله: (يَتَكَفَّفُوْنَ النَّاسَ) أي: يبسطون أكفَّهم للسُّؤال، أو يسألون ما يكفُّ عنهم الجوْعَ، أو يسألون النَّاس كُفَافاً من الطَّعامِ.
          قوله: (في أَيْدِيْهِمْ) أي: بأيديهم، أو: يسألون بالأكف وَضْعَ المسؤول في أيْديهم.
          قوله: (أَنْفَقْتَ) أي: ابتغاء وَجْهِ الله.
          قوله: (فَإنَّهَا صَدَقَةٌ) جواب الشَّرط، أي: فالأجْرُ حاصلٌ لك حَيّاً ومَيِّتاً.
          قوله: (حَتَّى اللُّقْمَةُ) بالجرِّ على أنَّ (حَتَّى) جارَّةً.
          وبالرَّفْع لأبي ذَرٍّ على أنَّها ابتدائيَّةً، والخبرُ جُملة ترفعها.
          وبالنَّصْب عطْفاً على (نَفَقَة) باعتبارِ محلِّه على أنَّها عاطفةٌ.
          قوله: (تَرْفَعُهَا) ولغَيْر أبي ذَرٍّ: «التي تَرْفَعُهَا».
          قوله: (إلى فِي امْرأَتِكَ) أي: فَمِها.
          قوله: (أَنْ يَرْفَعَكَ) أي: يطيل عُمرك، وقد حقَّق اللهُ ذلك، واتَّفقوا على أنَّه عاشَ بَعْد ذلك قَريباً من خمْسين سنةً.
          قوله: (فَيَنْتَفِعَ بِكَ) أي: بالغنائم ممَّا سيفتحُ(5) اللهُ على يديكَ من بلاد الشِّرْكِ.
          وقوله: (نَاسٌ) أي: من المُسلمين.
          قوله: (وَيُضَرَّ) بالبِناءِ للمَجْهولِ.
          وقوله: (آخَرُوْنَ) أي: من المُشركين الذين يهلكون على يديك.
          قوله: (وَلَم يَكُنْ لَهُ) أي: لابنِ أبي وَقَّاص.
          وقوله: (يَوْمَئِذٍ) أي: يوم إذْ عادَه النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (إلَّا ابْنَةٌ) أي: واحدةٌ، وهي أُمُّ الحَكَمِ الكُبْرى، ووهَمَ مَن قالَ: هي عائشةُ؛ لأنَّها أصغرُ أولادِه ولم تكن موجودةً حينئذٍ، عاشت إلى أن أدْركَها مالكُ بنُ أَنسٍ.
          وكان له اثنتا عشرة بنْتاً وعدَّةٌ من الذُّكور، منهم: عُمر، وإبراهيم، ويحيى، وإسحاق، وعبدُ الله، وعبد الرَّحمن، وعمران، وصالحٌ، وعُثمانُ.
          فإن قلْتَ: إنَّ هذا الحصرَ يُفيد أنَّه لم يكُن له أولادُ أخٍّ، مَع أنَّه ليس كذلك!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ المعنى: لم يكُن له وارِثٌ من أرباب الفرائض، أو منَ الأولادِ إلَّا ابنةً.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: أنْ يَتْرُكَ وَرَثَته أغنياءَ خيرٌ من أنْ يَتكَفَّفوا النَّاسَ.


[1] كما في الفتح 5/364.
[2] الفائق 2/244.
[3] قوله: «قوله: (قال) أي: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» زيادة من الأصل، وسقطت من «م».
[4] كذا في «ت» و«م»، وبالأصل: الخبر.
[5] كذا في الأصل، وفي «ت»: يفتح.