حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه

          57- قوله: (مَا العَمَلُ) [خ¦969]، (مَا) نافيةٌ، يحتملُ أن تكون حجازيَّةً، وأنْ تكون تَميميَّةً.
          فعلى الأوَّل ﻓ (العَمَلُ) اسمُها، وعلى(1) الثَّاني ﻓ (العَمَلُ) مُبتدأٌ يشمل أنواعَ العِباداتِ منَ الصَّلاة والصَّوْمِ، أوِ التَّكْبِير والذِّكْر، وغيرِها.
          قوله: (في أَيَّامٍ) أي: مِن أيَّام السَّنة، وهو مُتعلِّقٌ بالمبتدإ.
          وقولُه: (أَفْضَلَُ) خبرُ المبتدإ، و(مِنْهَا) مُتعلِّقٌ ﺑ (أَفْضَلُ)، وهذا على جعلِها تميميَّةً.
          وأمَّا على جعلِها حجازيَّةً، ﻓ (العَمَلُ) اسمُها، و(أَفْضَلَ) بالنَّصْب خَبَرُها، والضَّميْر في (مِنْهَا) عائدٌ على الأعمالِ المفهومة منَ (العَمَل).
          ويصحُّ أنْ يكونَ الضَّميرُ عائداً على (العَمَلُ)، وأنَّثَه باعتبارِ كون العَمَل قُرْبةً.
          قولُه: (في هذِهِ) أي: أيَّام التَّشْريقِ، فالعملُ في غير أيَّام التَّشرِيق فاضلٌ، وفي أيَّامه أفضلُ.
          وفي رِوايةِ أَبي ذَرٍّ، عنِ الكُشْميْهنَيِّ: «ما العَمَلُ في أيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْها في هذا العَشْر»، أي: العشرُ الأُول مِن ذِي الحجَّة.
          وممَّن صرَّحَ بالعشرِ _أيضاً_ ابنُ ماجَهْ [1727] وابنُ حِبَّانَ [324] وأَبو عَوَانَةَ [2423_2425].
          ولكريمةَ، عنِ الكُشْميهَنيِّ: «ما العَمَلُ في أيَّامِ العَشْر أَفْضَل مِن العَمَلِ في هذه»، بتأْنيث اسمِ الإشارةِ مَع إبْهام الأيَّام.
          وفسَّرها بعضُ الشَّارحِين بأيَّام التَّشْريقِ؛ وهو يقتَضي أفضليَّةَ العَمَلِ في أيَّام العشر على أيَّام / التَّشْريق، ووَجَّهَه صاحِبُ «بهجة النُّفُوس»(2):
          إنَّ أيَّامَ التَّشريقِ أيَّامُ غَفلةٍ، والعبادةُ في أوْقاتِ الغَفلةِ فاضِلةٌ عنْ غيرها، كمَنْ قامَ في جَوْف اللَّيلِ وأكثرُ النَّاسِ نيامٌ.
          وبأنَّه وقعَ فيها محْنةُ الخليْلِ بوَلَدِه ╨، ثمَّ مُنَّ عليه بالفِداءِ(3).
          وهو مُعارضٌ بالنُّقول، كما قالَه في «الفَتْح» [2/459].
          والمرادُ بالعَمَلِ في أيَّام التَّشْريق _ما عدا الصَّوْم_ مِنْ تكْبيرٍ وصلاةٍ واعْتكافٍ وغيرها، أمَّا الصَّوْم فلا يجوز فيها.
          والمرادُ بأيَّام التَّشريقِ الثَّلاثة بعد يوم النَّحر أوْ هو منها.
          وسببُ التَّسْمية به أنَّ لحومَ الأضاحِي كانَتْ تُشَرَّقُ فيها بمِنًى _أي: تُقدَّدُ ويُبرزُ بها للشَّمْس_، أو أنَّها كلَّها أيَّامُ تشْريقٍ لصلاة يومِ النَّحر؛ لأنَّها إنَّما تُصلَّى بعد أن تشرقَ الشَّمْس، فصارَت تبعاً ليوم النَّحر، وحينئذٍ؛ فإخْراجُهم يوم النَّحر منها إنَّما هو لشُهرته بلَقَبٍ خاصٍّ وهو يوم العِيْدِ، وإلَّا فهي في الحقيقة تبعٌ له في التَّسمية، لكن مُقتضى كلامِ الفُقهاءِ واللُّغويِّين أنَّها غيره، فالعملُ في أيَّام العشرِ أفضلُ من العَمَلِ في غيره من أيَّام الدُّنيا من غير استثناءِ شيءٍ.
          وعلى هذا؛ فرِوايةُ كريمةَ شاذَّةٌ، لمُخالفتِها رِوايةِ أبي ذَرٍّ، عَن شَيْخِه الكُشْميهَنيِّ، لكن يعكِّر عليه ترجَمةُ البخاريِّ بأيَّام التَّشْريقِ!
          وأُجِيْبَ باشْتراكِها في أصل الفَضيلةِ، لوُقوع أعمالِ الحجِّ فيها، ومن ثمَّ اشْتركا في مشروعيَّة التَّكبير، وإذا كان العملُ في أيَّام العشر أفْضل مِن العَمَل في أيَّام غيره من السَّنة لزمَ منْه أن يكون أيَّام العشر أفضل منْ غيره لجمْعِه بين الفضِيلتَين.
          وخرَّجَ البزَّارُ(4) وغيرُه، عَن جابرٍ مَرْفُوعاً: «أفضَلُ أيَّامِ الدُّنيا أيَّامُ العَشْر».
          وفي حديْث ابنِ عُمَرَ المروي(5) عنْه: «ليسَ يَوْمٌ أعْظَم عِنْد الله منْ يَوْمِ الجُمعةِ، لَيْسَ العَشْر».
          وهو يدلُّ على أنَّ أيَّامِ العَشْر أفضلُ منْ يوم الجمُعةِ الذي هو أفضل أيَّام الدُّنيا.
          وأيضاً؛ فأيَّامُ العَشْرِ تشتملُ على يوم عَرَفَةَ.
          وقد رُوي أنَّه: «أفْضَلُ أيَّامِ الدُّنيا»، والأيَّامُ إذا أُطلقَت دخلتْ فيها اللَّيالي تبعاً، وقد أقسمَ اللهُ بها فقالَ: {وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2].
          وقد زعمَ بعضُهم أنَّ ليالي عشر رَمَضانَ أفضلُ مِن لياليه لاشْتمالها على ليلةِ القَدْر.
          قال الحافظُ ابنُ رَجَبٍ(6): وهذا بَعيدٌ جِدّاً، ولو صحَّ حديثُ أبي هُريرةَ المروي في التِّرْمِذيِّ [758]: «قيامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْها بقِيامِ ليلةِ القَدْرِ» لكان صريحاً في تفضيل لَياليْه على ليالي عشر رَمَضان، فإنَّ عشر رمضانَ شرِّفَ بليلةٍ واحِدةٍ، وهذا جميعُ لياليه مُتساويةٌ.
          والتَّحقيق ما قالَه بعضُ أعْيان / المتأخِّرين من العُلماء، أنَّ مجموعَ هذا العشر أفضلُ من مجموع عشر رَمَضان، وإنْ كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها. انتهى.
          واستدلَّ به على فَضْلِ صيامِ عشر ذِي الحجَّة، لانْدراج الصَّوْم في العمل.
          وعُورض بتَحْريم يوم العِيْدِ!؟
          وأُجِيْبَ بحَمْلِه على الغالب، ولا رَيْب أنَّ صيامَ رَمَضانَ أفضلُ من صَوْمِ العشر؛ لأنَّ فضْلَ الفَرْضِ أفضلُ من النَّفل منْ غير تردُّدٍ؛ وعلى هذا:
          فكُلُّ ما فُعِلَ مِن فَرْضٍ في العَشْرِ فهو أفضَلُ مِن فَرْضٍ فُعِلَ في غَيْره، وكذا النَّفْلُ.
          قوله: (قَالُوا) أي: الصَّحابة.
          وقوله: (وَلَا الجِهَادُ) مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، والتَّقديرُ: أفضل منْها.
          وزادَ أبو ذَرٍّ: «في سَبِيْلِ الله».
          قوله: (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم.
          وقوله: (إلَّا رَجُلٌ) مُستثنى مِن (الجِهَادِ)، وهو على حذْفِ مضافٍ ليصح الاسْتِثناء، والتَّقديرُ: إلَّا جهاد رجُلٍ، فهُو مَرفُوعٌ على البَدَلِ، والاستثْناءُ متَّصلٌ.
          وقيل: مُنقطعٌ، أي: لكن رجُلٌ، أي: فهو أفضل مِن غيره أو مُساوٍ لَه.
          وتعقَّبَه في «المصابيح»(7) بأنَّه إنَّما يستقيمُ على اللُّغة التَّميميَّة؛ وإلَّا فالمنقطعُ عِنْد غيرهم واجِبُ النَّصْبِ.
          ولأبي ذَرٍّ، عنِ المُسْتَمْلِيِّ: «إلَّا مَنْ خَرَجَ».
          قوله: (يُخاطِرُ) جملةٌ حاليَّةٌ مِن فاعلِ (خَرَجَ)، أي: حالة كونه يُخاطر منَ المُخاطَرة، وهي ارْتكابُ ما فيهِ خَطَرٌ، أي: خَوْفٌ.
          قوله: (فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) أي: مِن مالِه، وإنْ رجعَ هُو أوْ لم يرجع هُو ولا ماله بأنْ ذهبَ ماله واسْتشهد؛ كذا قرَّرَه ابنُ بطَّالٍ(8).
          وتعقَّبه الزَّينُ ابنُ المنير(9) بأنَّ قولَه: (فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) يستلزم أنَّه رجع بنفسِه ولا بُدَّ!
          وأُجِيْبَ بأنَّ قولَه: (فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) نكِرةٌ في سياقِ النَّفْيِ فتعمُّ ما ذَكَره.
          وعِنْد أبي عَوَانَةَ [2423]، منْ طرِيقِ إبراهيمَ بنِ حُميدٍ، عَن شُعْبةَ: «إلَّا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وأُرِيْقَ دَمُهُ».
          وعِنْده [2429] منْ رِوايةِ القاسمِ بنِ أيُّوبَ(10): «إلَّا مَنْ لا يَرْجِع بِنَفْسِهِ ومَالِهِ».
          وفي هذا الحديث أنَّ العَمَلَ المفضوْلَ في الوَقْت الفاضِل يلْتحقُ بالعملِ الفاضلِ في غيره، ويزِيدُ عليه لمُضاعَفَة ثَوابه وأجْرِه.
          وفي الحديثِ تعظيمُ قَدْرِ الجهادِ وتفاوت دَرجاتِه، وأنَّ الغايةَ القصوى فيه بَذْلُ النَّفْسِ في سبِيلِ الله.
          وفيه تفضيلُ بعضِ الأزْمنةِ على بعضٍ كالأمْكنة، وفضلُ أيَّام / عشر ذِي الحجَّةِ على غيرِها من أيَّام السَّنَة، وتظهرُ فائدةُ ذلك فيمَن نذرَ الصِّيامَ أو علَّق عملاً مِن الأعمال بأفضل الأيَّام، فلو أفرد يوماً منها تعيَّن يوم عَرَفَة؛ لأنَّه _على الصَّحيح_ أفضلُ أيَّام العشر المذْكور.
          فإنْ أرادَ أفضلَ أيَّام الأُسبوع، تعيَّن يوم الجمُعة جمْعاً بين حديث البابِ وحديثِ أبي هُريرةَ مَرْفُوعاً: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجمُعةِ».
          رَواهُ مسلمٌ(11).
          أشارَ إلى ذلك كُلِّه النَّوَويُّ في «شَرْحِه» [6/141-142].
          وهذا الحديثُ ذَكَرهُ البخاريُّ في باب: فضْل العَمَل في أيَّامِ التَّشْرِيْقِ.


[1] كذا في «ز1»، وفي «م»: وعن.
[2] بهجة النفوس 1/73.
[3] ينظر: «بهجة النُّفوس» ().
[4] كشف الأستار 1128، وقال في مجمع الزوائد 4/22: وإسناده حسن ورجاله ثقات.
[5] عزاه السيوطي في [جامع الأحاديث 39832] إلى ابن زنجويه.
[6] كما في شرح القسطلاني إرشاد الساري 2/127.
[7] مصابيح الجامع 3/22.
[8] شرح البخاري 2/562.
[9] نقله عنه القسطلاني في الإرشاد ░2/217▒.
[10] في المطبوع ابن أبي أيوب.
[11] 17/854، 18/854، بلفظ: (طلعت عليه).