نجاح القاري لصحيح البخاري

{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}

          ░13▒ (باب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ}) أي: ما حَرَّم الله ولا أمر بها، ولم يُرِد حقيقة الجعل؛ لأنَّ الكلَّ بخلقه وتقديره، ولكنَّ المراد بيان ابتداعهم ما صنعوه من ذلك، وسيأتي تفسير هذه الأشياء المذكورة قريبًا، ثم إنه يجوز أن يكون جعل بمعنى سمَّى فيتعدى إلى اثنين أحدهما محذوفٌ؛ أي: ما سمَّى الله حيوانًا بحيرةً، ومنع أبو حيَّان كون جعل هنا بمعنى: شرع أو وضع أو أمر، وخرج الآية على التَّصيير، وجعل المفعول الثَّاني محذوفًا؛ أي: ما صيَّر الله بحيرةً مشروعةً.
          ({وَإِذْ قَالَ اللَّهُ}: يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] الآية، وغرضه أنَّ لفظ قال الذي هو ماض بمعنى يقول المضارع؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما يقول هذا القول يوم القيامة توبيخًا للنَّصارى وتقريعًا، ويؤيِّده قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] وذلك يوم القيامة.
          (وَإِذْ هاهنا صِلَةٌ) أي: زائدة قال الكرماني: لأن «إذ» للماضي، وهاهنا المراد به المستقبل، هذا وقد اختلف المفسِّرون هنا فقال قَتَادة: هذا خطاب الله تعالى لعبده ورسوله عيسى ابن مريم ♂ يوم القيامة توبيخًا وتقريعًا على النَّصارى. وقال السُّدِّي: هذا الخطاب والجواب في الدُّنيا.
          وقال ابن جرير: هذا هو الصَّواب، وكان ذلك حين رفعه إلى السَّماء، واحتجَّ في ذلك بشيئين أحدهما: أنَّ لفظه لفظ الماضي، والثَّاني: قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فعلى هذا لا يتوجَّه ما قاله من أن قال بمعنى يقول، ولا أن كلمة «إذ» صلة على أنَّه لا يُقال: إنَّ في كلام الله ╡ شيئًا زائدًا، ولئن سلمنا وقوع ذلك يوم القيامة فلا يلزم من ذلك ذكره بلفظ المضارع؛ لأنَّ كلَّ ما ذكره الله تعالى من وقوع شيءٍ في المستقبل فهو كالواقع جزمًا؛ لأنَّه محقَّق الوقوع فكأنَّه قد وقع وأخبر بالماضي، ونظائر هذا في القرآن كثيرةٌ على أنَّه قد يجيء كلمة «إذ» بمعنى إذا كقوله / تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} [سبأ:51] وقوله:
ثُمَّ جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّيْ إِذْ جَزَا                     جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى
          وقال الحافظُ العسقلاني: قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يقول: قال الله {وَإِذْ} هاهنا صلة كذا ثبت هذا وما بعده هنا، وليس بخاصٍّ به، وهو على ما قدمنا من ترتيب بعض الرُّواة.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه كيف رضي أكثر الرُّواة بهذا التَّرتيب الَّذي ما رتبه المؤلف، والحال أنَّه نقح مؤلفه كما ينبغي، وقُرئ عليه مرارًا عديدة، والقرائن تدلُّ على أنَّ هذا وأمثاله من وضع المؤلف، وغيره ممَّن هو دونه لا يستجرئ أن يزيد شيئًا في نفس ما وضعه هو، ولاسيما إذا كان ذلك بغير مناسبةٍ أو تعسُّفٍ فيه. ثمَّ هذا الكلام ذكره أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قال: مجازه يقول الله، وإذ من حروف الزوائد، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} أي: وعلَّمتك، والله تعالى أعلم.
          (الْمَائِدَةُ: أصْلُهَا مَفْعُولَةٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112] ومراده أنَّه ليس على طريقة أهل الفنِّ المشهورة في هذا الباب؛ لأنَّ لفظ المائدة وإن كان على لفظ فاعلة فهو بمعنى مفعولة، فالأصل فيه مميدة أصله مميودة؛ لأنَّ ماد أصله ميد قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والمفعول منها للمؤنث مميودة فأعل كإعلال مبيعةٍ ولا يستعمل إلَّا هكذا على أنَّ في بعض اللُّغات استعمل على الأصل كما قالوا تفَّاحةٌ مطيوبةٌ.
          (كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) مثَّل المؤلف بذلك، فإنَّ لفظ راضية وإن كان على وزن فاعلة في الظاهر، ولكنَّه بمعنى مرضية لامتناع وصف العيشة بكونها راضية، وإنَّما الرِّضا وصف صاحبها، ثمَّ تمثيله بقوله: (وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ) قيل: غير صحيحٍ؛ لأنَّ لفظ بائنة هنا على أصله بمعنى فاعلة؛ أي: قاطعة؛ لأنَّ التَّطليقة البائنة تقطع حكم العقد حيث لا يبقى للمطلق بالطَّلاق البائن رجوعٌ إلى المرأة إلا بعقدٍ جديدٍ برضاها بخلاف حكم الطَّلاق الغير البائن، كما عُلِم في موضعه.
          وقال ابن التِّين: وقوله: «تطليقةٌ / بائنةٌ»، غيرُ واضحٍ إلَّا أن يريد أنَّ الزَّوج أبان المرأة بها، وإلَّا فالظَّاهر أنَّها فاعلة على بابها.
          (وَالْمَعْنَى) أي: من حيث اللُّغة (مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ) لأنَّ معنى ماده يميده لغة في ماره يميره من الميرة، وقوله: (يُقَالُ: مَادَنِي يَمِيدُنِي) إشارةٌ إلى اشتقاقه، فهو من باب ضرب كباع يبيع. قال ابن التِّين: هذا قول أبي عبيدة. وقال غيره: هي من ماد يميد: إذا تحرَّك، وقيل: من ماد يميد: إذا أطعم. وقال أبو حاتم: المائدة الطَّعام نفسه، والنَّاس يظنُّونها الخوان، انتهى. لكن قال الجوهري: المائدة: خوان عليه طعامٌ فإذا لم يكن عليه طعامٌ فليس بمائدةٍ، وإنَّما هو خوان.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مُتَوَفِّيكَ}: مُمِيتُكَ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ولكن هذا في سورة آل عمران، وكان المناسب أن يذكر هناك. وقال الحافظُ العسقلاني: وكأنَّ بعض الرُّواة ظنَّها من سورة المائدة فكتبها فيها، أو ذكرها المصنف هنا لمناسبة قوله في هذه السُّورة: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117].
          وهذا التعليق وصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55].