نجاح القاري لصحيح البخاري

{حم} الزخرف

          ░░░43▒▒▒ (سُوْرةُ {حم} الزُّخْرُفِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وسقط لفظ: <سورة> في رواية غيره. وفي بعض النسخ: <سورة الزخرف>. وفي بعضها: <ومن سورة حم الزخرف> بزيادة لفظ: ((من))، ووجهها غير ظاهر. قال مقاتل: هي مكيَّة غير آيةٍ واحدة وهي: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا}الآية [الزخرف:45] / . وقال أبو العبَّاس: مكيَّة لا اختلاف فيها. وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وتسع وثمانون آية.
          وقال ابنُ سيده: الزُّخرف: الذهب، هذا هو الأصل، ثمَّ سُمِّي كلُّ زينةٍ زخرفًا، وزَخْرف البيت زَيَّنة، وكل ما زُوق وزُين فقد زُخْرف.
          (╖) قال العينيُّ: ثبتت البسملةُ هنا عند الكلِّ. وقال القَسطلاني: سقطت في رواية غير أبي ذرٍّ وابن عَساكر.
          ({عَلَى أُمَّةٍ}: عَلَى إِمَامٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] وفسَّره بقوله: «على إمامٍ»، كذا وقع في رواية الأكثر، وكذا فسَّره أبو عُبيدة. وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال مجاهد: {عَلَى أُمَّةٍ} على إمام>. قال الحافظُ العسقلاني: والأول أولى، وروى عبد بن حُميد من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {عَلَى أُمَّةٍ} قال: على ملَّة. وروى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {عَلَى أُمَّةٍ} أي: على دين، ومن طريق السُّدي مثله.
          ({وَقِيلِهِ يَا رَبِّ}: تَفْسِيرُهُ: أَيَحْسِبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَلاَ نَسْمَعُ قِيلَهُمْ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88] وفسَّر: {قِيْلِهِ يَا رَبِّ} بقوله: «أيحسبون...» إلى آخره، وهذا يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجمل كثيرة. قال الزَّركشي: فينبغي حمل كلامه على أنَّه أرادَ تفسير المعنى، ويكون التقدير ونعلم قيله، انتهى.
          وقال ابن التِّين السَّفاقسي: هذا التَّفسير أنكره بعضُهم، وقال: إنَّما يصحُّ ذلك أن لو كانت التِّلاوة «وقيلهم»، وإنما الضَّمير فيه يرجعُ إلى النَّبي صلعم انتهى. قال الثَّعلبي: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} يعني: وقول محمَّد صلعم شاكيًا إلى ربِّه. وقيل: معطوف على مفعول يكتبون المحذوف؛ أي: يكتبون ذلك {وَقِيلِهِ}، أو على مفعول يعلمون المحذوف؛ أي: يعلمون ذلك {وَقِيلِهِ / ويحتمل أن يكون منصوبًا على المصدريَّة؛ أي: وقال قيله. وسيأتي في أواخر هذه السُّورة أنَّ ابن مسعود ☺ قرأ: (▬وقال الرسول يا رب↨) في موضع: {وَقِيلِهِ}، أو على إضمار فعل؛ أي: يعلم الله قيل رسوله صلعم . وقال النَّسفي: قرأ عاصم وحمزة: ({وقيلِه}) بكسر اللام على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله، وهذا العطف غير قويٍّ في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضًا، ومع تنافر النظم. وقال بعض النَّحويين: المعنى إلَّا من شهد بالحق، وقال: قيله يا رب...إلى آخره. وفيه أيضًا: الفصل بين المتعاطفين، والأوجه على ما قاله الزَّمخشري أن يكون النصب على حذف حرف القسم والجر على إضماره، ويكون قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب، والضَّمير في قيله للرسول صلعم كما تقدَّم، وأقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لرعايته والتجائه إليه. ثمَّ القول والقال والقيل بمعنى واحد جاءت المصادر على هذه الأوزان.
          (وَقَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <قال> (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}: لَوْلاَ أَنْ أجْعَلَ النَّاسَ) كذا في رواية أبي ذرٍّ وابن عَساكر، وفي الأَصيليِّ: <أن يجعل> بصيغة المضارع بالياء التحتية، وفي روايةٍ أخرى: <لولا أن جعل> بلفظ الماضي (كُلَّهُمْ كُفَّارًا، لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الْكُفَّارِ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي: <بيوت الكفار> ({سَقْفًا}) بفتح السين وسكون القاف على إرادة الجنس، ومعناه الجمع، وهي قراءةُ ابن كثير وأبي عَمرو، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{سُقُفًا}> بضمهما على الجمع، وهي قراءةُ الباقين، وقيل: هو جمع: سقيف، وقيل: سقوف جمع الجمع ({مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ}) جمع: معرج، أو اسم جمع لمعراج، يعني: مصاعد ومراقي ودرجات وسلاليم (مِنْ فِضَّةٍ، وَهْيَ دَرَجٌ) ((عليها يظهرون))؛ أي: على المعارج يعلونها؛ أي: يعلون سُطوحها (وَسُرُرُ فِضَّةٍ) جمع: سرير، فسَّر ابن عبَّاس ☻ هذه الآية بما ذكر في قوله: ((لولا أن أجعل الناس...إلى آخره)).
          وهذا رواه / ابن جرير عن أبي عاصم: حدثنا يحيى: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد عنه، وكذا وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ بلفظه مقطعًا.
          وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: {أُمَّةً وَاحِدَةً} كفارًا.
          وروى الطَّبري من طريق عوف عن الحسن في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:33] قال: كفَّارًا يميلون إلى الدنيا، قال: وقد مالت الدُّنيا بأكثر أهلها وما فَعل، فكيف لو فَعل. وعن ابنِ زيد يعني: لولا أن يكون الناس أمَّةً واحدةً في طلبِ الدنيا واختيارها على العُقبى لجعلنا لمن يكفر بالرَّحمن.
          وقوله: {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ} ويجوز أن يكون بمنزلة اللامين في قولك: وهبت له ثوبًا لقميصه. وفي «تفسير القاضي»: لولا أن يرغبوا في الكفرِ إذا رأوا الكفَّار في سعةٍ وتنعم لحبهم الدُّنيا فيجتمعوا عليها لجعلنا...إلى آخره. وفي أكثر التَّفاسير: لولا أن يكون النَّاس مجتمعين على الكفر فيصيروا كلُّهم كفارًا.
          ({مُقْرِنِينَ} مُطِيقِينَ) أشار به إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] وفسَّره بقوله: «مطيقين»، _بالقاف_ من أقرن الشَّيء إذا أطاقه، وكذا وصله الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قال: مطيقين. ومن طريق السُّدي مثله. وقال عبد الرَّزاق عن مَعمر عن قتادة: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} لا في الأيدي ولا في القوة، وقيل: هو من القرن، كأنَّه أراد وما كنَّا له مقاومين في القوة، وقيل: ضابطين قاهرين. ومعنى الآية والله تعالى أعلم: ليس عندنا من القوَّة والطَّاقة أن نقرن هذه الدَّابة والفلك وأن نضبطه، فسبحان من سخَّر لنا هذا بقدرتهِ وحكمته.
          ({آسَفُونَا}: أَسْخَطُونَا) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] وفسَّر {آَسَفُونَا} بقوله: «أسخطونا»، وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ . وقال عبد الرَّزَّاق: سمعت ابن جُريج / يقول: {آَسَفُونَا} أغضبونا. وعن سماك بن الفضل عن وهب بن منبِّه مثله؛ أي: بالإفراط في العنادِ والعصيان، وهذا من المتشابهات فيُأول بإرادة العقاب، وقيل: خالفونا، والكلُّ متقاربٌ.
          ({يَعْشُ}: يَعْمَى) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]. وفسَّر: {يَعْشُ} بقوله: «يعمى»، وصله ابنُ أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} قال: يعمى. وروى الطَّبري من طريق السُّدي قال: {وَمَنْ يَعْشُ} أي: يُعرض. ومن طريق سعيد عن قتادة مثله.
          قال الطَّبري: من فسَّر ((يعش)) بقوله: يعمى، فسَّر أنَّه بفتح الشين. وعن القرظي: ومن يول ظهره و{ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} هو القرآن. وقال ابنُ قتيبة: قال أبو عبيدة: قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} بضم الشين؛ أي: تُظلم عينه. وقال الفرَّاء: يُعرض عنه، قال: ومن قرأ (▬يَعْشَ↨) بفتح الشين، أراد: تعمى عينه، قال: ولا أرى القول إلَّا قول أبي عبيدة، ولم أر أحدًا يجيز عشوت عن الشَّيء: أعرضت عنه، إنما يُقال: تعاشيت عن كذا تغافلتُ عنه، ومثله تعاميتُ.
          وقال القاضي في «تفسيره»: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:36] يتعامى ويُعرض عنه لفرط اشتغاله بالمحسوسات، وانهماكه في الشَّهوات. وقُرئ: (▬يعشَ↨) بالفتح؛ أي: يعم، يُقال: عشي إذا كان في بصره آفة، وعشا إذا تعشى بلا آفة كعَرَج وعَرُج (1)، انتهى. ثمَّ إنَّ قراءة العامة بضم الشين، وقرأ ابن عبَّاس ☻ : بالفتح.
          وقوله تعالى: {نُقَيِّضْ لَهُ} أي: نضمُّه إليه ونسلِّطه عليه ({فهو له قرين}) فلا يُفارقه، وقال ابنُ المنير: قال في «الانتصاف»: في الآية نكتتان: إحداهما: أنَّ النكرة في سياق الشرط تعمُّ، وفي ذلك اضطرابٌ للأصوليين، وإمام الحرمين يختارُ العموم، وبعضُهم حمل كلامه على العموم البدلي لا الاستغراقي، فإن كان مراده عموم الشُّمول فالآية حجَّة له من وجهين:
          أحدهما: أنَّه نكر الشَّيطان ولم يرد إلَّا الكل؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ له شيطان، فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى. والثاني: أنَّه أعاد الضَّمير مجموعًا / في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:37] ولولا عموم الشُّمول لما جاز عود الضَّمير إلى واحد.
          وتعقَّبه البدر الدَّماميني فقال: في كلٍّ من الوجهين اللذين أبداهما نظر، أمَّا الأوَّل: فلا نسلم أنَّه أراد كلَّ شيطانٍ، بل المقصود أنَّه قيَّض لكلِّ فردٍ من العاشين عن ذكر الله شيطان واحد لا كل شيطان وذلك واضحٌ. وأمَّا الثاني: فعودُ ضمير الجماعة إلى شيءٍ ليس بينه وبين العموم الشُّمولي تلازمٌ بوجه، وعود الضَّمير في الآية بصيغة ضمير الجماعة، إنما كان باعتبار تعدُّد الشَّيطان المفهوم ممَّا تقدم إذ معناه على ما قرر أنَّ كل عاش له شيطان، فبهذا الاعتبار جاء التَّعدد، فعاد الضَّمير كما يعودُ إلى الجماعة.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) وليس في بعض النسخ: <وقال مجاهد> ({أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ}: أَيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ لاَ تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ؟) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] وفسَّره بقوله: أي: «تكذبون بالقرآن، ثمَّ لا تُعاقبون»، وصله الفريابيُّ من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد بلفظه؛ يعني: أفنُعْرض عن المكذبين بالقرآن، ولا نُعاقبهم عليه.
          وروى الطَّبري من طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ قال: أحسبتُم أن نصفحَ عنكم ولم تفعلوا ما أُمرتُم به، وقيل: معناه: أفنصرفُ عنكم العذاب ونمسك ونعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كُفركم. وروي هكذا أيضًا عن ابن عبَّاس ☻ والسُّدي.
          وعن الكسائي: أفنطوي عنكم الذِّكر طيًّا فلا تدعون ولا توعظون. وقال الكلبي: أفنترككم سدى لا نأمرُكم ولا ننهاكُم، وهذا من فصيحِ القرآن، تقول العرب لمن أمسك عن الشيء: أعرض عنه صفحًا، والأصل في ذلك أنَّك إذا أعرضت عن شيءٍ ولَّيته صفحة يمينك (2)، وضربت عن كذا، وأضربت إذا تركته وأمسكت عنه.
          ({وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ}: سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8]، وفسَّره / بقوله: «سنَّة الأولين»، وصله الفريابيُّ عن مجاهدٍ في قوله: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِيْنَ} قال: سنَّتهم، وقيل: سنَّتهم وعقوبتُهم، وسيأتي له تفسيرٌ آخر قريبًا.
          ({وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}) كذا في رواية الأصيليِّ، وسقط في رواية غيره قوله: <{وَمَا كُنَّا لَهُ}> والأولى ثبوته لما ستعرفه (يَعْنِي: الإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ) وصله الفريابيُّ عن مجاهد بلفظه، وزاد: ((والحمير)) كما في هذه النُّسخة، وقد سقط في بعض النُّسخ قوله: <والحمير> وهذا تفسير المراد بالضَّمير في قوله: {لَهُ} وهو يرجعُ إلى الأنعام المذكورة فيما قبله، وإنما ذكر الضَّمير لأنَّ الأنعام في معنى الجمع كالجند والجيشِ والرَّهط ونحوها من أسماء الأجناس، قاله الفرَّاء، وقيل: ردَّها إلى {مَا} فافهم، وأمَّا لفظ {مُقْرِنِينَ} فتقدَّم معناه قريبًا.
          ({أَوَمَنْ يُنْشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ}: الْجَوَارِي، جَعَلْتُمُوهُنَّ) وفي رواية الأصيلي وأبي ذرٍّ: <يقول جعلتموهنَّ>، وفي رواية: <يقول الله: جعلتموهنَّ> (لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أشار به إلى قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وقوله: {يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] أي: يكبر وينبت في الزينة، وفسَّره بقوله: «الجواري»؛ أي: البنات؛ يعني: جعلتُم الإناث ولدًا لله، فكيف تحكمون بذلك، ولا ترضون به لأنفسكم؟ وصله الفريابيُّ عن مجاهد بلفظه.
          وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قال: البنات، والمعنى: أنَّه تعالى أنكر على الكفَّار الذين زعموا أنَّ الملائكة بنات الله، فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16] وأنتم تمقتون البنات، وتنفرون منهنَّ حتى بالغتم في ذلك فوأدتم وهنَّ، فكيف تؤثرون أنفسكم بأعلى الجزأين، وتدَّعون له الجزء الأدنى، مع أنَّ صفة هذا الصِّنف الذي هو البنات إنَّما يُنشأ في الحلية والزِّينة المفضية إلى نقصِ العقل، وعدم القيام بالحجة {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} فما تكلمت المرأة بحجَّةٍ لها إلا تكلمت بحجة عليها. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {يُنَشَّأ} بضم أوله مثقلًا، وقرأ الباقون بفتح أوله مخففًا، وقرأ الجحدري بضم أوله مخففًا.
          ({لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}: يَعْنُونَ: الأَوْثَانَ، لِقَولِ اللَّهِ تَعَالَى) كذا في رواية أبي ذرٍّ وابن عَساكر، وفي رواية الأصيلي: <بقول الله تعالى> / بالموحدة وفي أكثر الرِّوايات: <يقول الله> بصيغة المضارع، وفي نسخة: <يقول> بدون ذكر الجلالة ({مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} الأَوْثَانُ) ويُروى: <أي: الأوثان> (إِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) وصله الفريابيُّ من طريق مجاهدٍ في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} قال: الأوثان، قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] أي: يكذبون، وما يعملون قدرة الله على ذلك، والضَّمير في {مَا لَهُمْ} للكفَّار؛ أي: ليس لهم علم بما ذكروه من قولهم: إنَّ الله رضي بعبادتنا، ولا برهان معهم على ذلك إنَّما يقولونه ظنًّا وحسبانًا أو الضَّمير للأوثان.
          قال الكرماني: لأنَّهم هم الذين لا يعلمون، وهو الغرضُ من قوله: إنهم لا يعلمون، ونزلهم منزلة من يعقل ونفى عنهم علم ما صنع المشركون من عبادتهم. وعن قتادة: يعنون الملائكة.
          ({فِي عَقِبِهِ}: وَلَدِهِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] وفسَّر: العقب؛ بالولد، وصله عبدُ بن حميد من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، والمراد بالولد: الجنس حتَّى يدخلَ فيه ولد الولد وإن سفل، وقال عبد الرَّزَّاق في {عَقِبِهِ}: لا يزال في ذرِّيته من يُوحِّد الله ويدعو إلى توحيده، والكلمة الباقية هي قول: لا إله إلا الله.
          ({مُقْتَرِنِينَ}: يَمْشُونَ مَعًا) أشار به إلى قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53] وفسَّر {مُقْتَرِنِينَ} بقوله: «يمشون معًا»؛ أي: يمشون مجتمعين، وصله الفريابي عن مجاهد في قوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} قال: يمشون معًا، وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة يعني: متتابعين يعاونُ بعضهم بعضًا.
          ({سَلَفًا}: قَوْمُ فِرْعَوْنَ سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلعم {وَمَثَلًا} عِبْرَةً) أشار به إلى قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ} [الزخرف:56] أي: جعلنا قوم فرعون سلفًا لكفَّار أمة محمد صلعم وعبرةً لمن يجيء بعدهم، وفي «التفسير»: {سَلَفًا} هم الماضون المتقدِّمون من الأمم، وقد وصله الفريابي عن مجاهدٍ بلفظه، وزاد: لمن بعدهم. وقُرئ: بضم السين واللام وفتحهما.
          ({يَصِدُّونَ}: يَضِجُّونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] وفسَّره بقوله: «يضِجُّون» (3) / _بكسر الضاد وبالجيم_، وصله الفريابيُّ والطَّبري عن مجاهد بلفظه، وهو قول أبي عبيدة، وزاد ومن ضمها فمعناه: يعدلون. وروى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ ، ومن طرقٍ أخرى عن ابن عبَّاس ☻ ، ومن طريق سعيدٍ عن قتادة في قوله: {يَصِدُّونَ} قال: يضجون(4) .
          وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن عاصم: أخبرني زرٌّ _هو: ابن حبيش_: أنَّ ابن عبَّاس ☻ كان يقرؤها {يَصِدُّونَ} بكسر الصاد، ويقول: يضجُّون. قال عاصم: وسمعتُ عبد الرَّحمن السُّلمي يقرؤها بضم الصاد، فبالكسر معناه: يضج، وبالضم معناه: يُعْرِض، وقال الكسائي: هما لغتان بمعنى، وأنكر بعضُهم قراءة الضم، واحتج بأنَّه لو كانت كذلك لكانت عنه لا منه. وأُجيب بأنَّ معنى «منه»؛ أي: من أجله، فيصحُّ الضم، وروى الطَّبري من طريق أبي يحيى عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه أنكر على عبيد بن عُمير قراءته: ((يَصُدُّونَ)) بالضم، والضم هو قراءةُ نافع وابن عامر وعاصم من السبعة.
          ({مُبْرِمُونَ}: مُجْمِعُونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79]، وفسَّره بقوله: «مجمعون»، وصله الفريابيُّ عن مجاهد بلفظه، وزاد: إن كادوا شرًا كدناهم مثله، وقيل: محكمون، والمعنى: أم أحكموا أمرًا في المكر برسول الله صلعم فإنَّا مبرمون محكمون أمرًا في مجازاتهم.
          ({أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}: أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أشار به إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] وفسَّر: {الْعَابِدِينَ} بالمؤمنين. وصله الفريابيُّ عن مجاهدٍ بلفظ: أوَّل المؤمنين بالله فقولوا ما شئتم. وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد قال: قوله: {فأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، يقول: فأنا أوَّل من عبد الله ووحَّده وكفرَ بما تقولون.
          وروى الطَّبري من طريق محمد بن ثور عن مَعمر بسنده قال: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} في زعمكم {فَأَنَا أَوَّلُ} من عبد الله ووحَّده وكذَّبكم؛ يعني: أنا أول الموحدين المؤمنين بالله في تكذيبكُم والجاحدين لما قلتُم من أنَّ له ولدًا. وعن ابن عبَّاس ☻ ؛ / يعني: ما كان للرحمن ولدٌ، وأنا أول الشَّاهدين له بذلك، وسيأتي له بعد هذا تفسير آخر.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهد، كذا في رواية أبي ذرٍّ والأصيلي، وسقط في رواية غيره قوله: <وقال غيره> ({إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}: الْعَرَبُ تَقُولُ: نَحْنُ مِنْكَ الْبَرَاءُ وَالْخَلاَءُ، وَالْوَاحِدُ وَالاِثْنَانِ وَالْجَمْعُ) وفي نسخة: <والجميع> (مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، يُقَالُ فِيهِ: بَرَاءٌ) أي: بلفظ الواحد (لأَنَّهُ مَصْدَرٌ) أي: في الأصل وقع موقع الصفة؛ أي: بريء (وَلَوْ قَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <ولو قيل> (بَرِيءٌ، لَقَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <لقيل> (فِي الاِثْنَيْنِ: بَرِيئَانِ، وَفِي الْجَمِيعِ: بَرِيئُونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] أي: واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم...إلى آخره. قال أبو عبيدة: قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} مجازها لغة عالية يجعلون الواحد والاثنين والثَّلاثة من الذكر والأنثى على لفظٍ واحد، وأهل نجد يقولون: أَنَا بَرِيءٌ وهي بريئةٌ، ونحن برءاء.
          هذا، وقد يُقال: برئت منك ومن الديون والعيوب براءة، وبرئت من المرض بُرْءًا _بالضم_ وأهل الحجاز يقولون: بَرَأْتُ من المرض بَرْاً _بالفتح_ وفي الجمع: بريئون. ويُقال أيضًا: برءاء مثل: فقيه وفقهاء، وبِراء أيضًا _بكسر الباء_ مثل: كريم وكرام، وأبراء، مثل: شريف وأشراف، وأبرياء مثل: نصيب وأنصباء. وفي المؤنث يُقال: امرأةٌ بريئةٌ، وهما بريئتان، وهنَّ بريَّات وبرايا، وهذه لغة أهل نجد، والأولى: لغة أهل الحجاز.
          (وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه) يعني: ابن مسعود ☺ (▬إِنَّنِي بَرِيءٌ↨ بِالْيَاءِ) وصله الفضل بن شاذان في كتاب «القراءات» بإسناده عن طلحة بن مصرِّف عن يحيى بن وثَّاب عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ☺، وهي قراءةُ أبي جعفر يزيد بن القعقاع.
          (وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفًا} [الزخرف:34-35] وفسَّره: بالذَّهب. قال عبدُ الله بن حميد: / حدَّثنا هاشمُ بن القاسم عن شعبة عن الحكم عن مجاهد قال: كنَّا لا ندري ما الزُّخرف حتى رأيتها في قراءةِ عبد الله؛ أي: ابن مسعود ☺ <أو يكون لك بيتٌ من ذهب>. وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} قال: الذَّهب، وعن مَعمر عن الحسن مثله.
          ({مَلاَئِكَةً... يَخْلُفُونَ}: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] وفسَّر: {يَخْلُفُونَ} بقوله: «يخلفُ بعضهم بعضًا»، أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة وزاد في آخره: ((مكان بني آدم)) و«من» في قوله: {مِنْكُمْ} بدل؛ أي: لجعلنا بدلكُم، أو تبعيضية؛ أي: لَوَلَّدنا منكم يا رجال ملائكة في الأرض يخلفونكُم كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى دون ذكر.


[1] في هامش الأصل: عرج بالفتح إذا مشى مشية الأعرج.
[2] في هامش الأصل: عنقك. نسخة.
[3] في هامش الأصل: أي: يجلبون ويصيحون.
[4] في هامش الأصل: قال تعالى: {وَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] أي: ضربه ابن الزبعرى وهو أنه روي أنه صلعم لما تلا {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] على المشركين قال له ابن الزبعرى: قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرًا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال ◙: ((بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ سَبَقَتْ لَهُمْ} [الأنبياء: 101] الآية)) وعلى هذا يعم الخطاب ويكون مأمولًا بمن. منه.