نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب فضائل الصحابة

          ░░62▒▒ (باب فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم ) أي: بطريق الإجمال، ثم التفصيل، فأمَّا الإجمال فيشملُ جميعهم لكنَّه اقتصر فيه على شيء ممَّا يوافق شرطه، وأمَّا التفصيل فلمن ورد فيه شيءٌ بخصوصه على شرطه. وقد سقط لفظ: «باب» من رواية أبي ذرٍّ وحدَه، ثمَّ الفضائل جمع الفضيلة وهي خلافُ النَّقيصة، كما أنَّ الفضل / ضدُّ النَّقص، والفضل في اللُّغة الزِّيادة من فَضَل يَفْضُل من باب: نَصَر يَنْصُر. وفيه لغةٌ أخرى: فَضِل يَفْضَل من باب: علم يعلم، حكاها ابن السِّكيت. وفيه لغةٌ ثالثة مركَّبة منهما: فَضِل _بالكسر_ يَفْضُل _بالضم_، وهو شاذٌّ لا نظيرَ له.
          وقال سيبويه: هذا عند أصحابنا إنما يجيءُ على لغتين. وفي بعض النسخ: <باب فضل أصحاب النَّبي صلعم >.
          والمراد بالفضائل: الخصائل الحميدة، والخلال المرضيَّة المشكورة، والأصحاب جمع: صحب، مثل فرخ وأفراخ. قال الجوهري: والصَّحابة _بالفتح_: الأصحاب، وهي في الأصل مصدر، وجمع الأصحاب: أصاحيب، من صحبه يصحبه صُحبة _بالضم_، وصَحابة _بالفتح_ وجمع الصاحب: صَحب، مثل: راكب وركب، وصُحبة _بالضم_ مثل فاره وفُرهة، وصِحاب مثل: جائع وجِياع، وصُحْبان مثل: شاب وشبان.
          (وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلعم أَوْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهْوَ مِنْ أَصْحَابِهِ) أشار بهذا إلى تعريف الصَّحابي وفيه أقوال:
          الأول: ما أشار إليه البخاري بقوله: ومن صحب... إلى آخره. قال الكرمانيُّ: يعني أن الصَّحابي مسلم صحب النَّبي صلعم ، أو رآهُ وضمير المفعول للنَّبي صلعم والفاعل للمسلم على المشهور الصَّحيح، ويحتمل العكس لأنهما متلازمان عرفاً. فإن قلت: الترديد يُنافي التَّعريف. قلت: التَّرديد في أقسام المحدود؛ يعني: الصَّحابي قسمان لكلِّ منهما تعريف.
          فإن قلت: إذا صحبه فقد رآه. قلت: لا يلزم ذلك إذ عَمرو بن أم مكتوم صَحابي اتِّفاقاً مع أنَّه لم يره، انتهى.
          وقال العيني: ((مَنْ)) في محل الرفع على الابتداء، وهي موصولةٌ، و«صحب» صلتها. وقوله: ((أو رآه)) عطف عليه؛ أي: أو رأى النَّبي صلعم الصَّاحب، ويحتمل العكس، كما قال الكرماني، لكن الأول أولى ليدخل فيه ابن أمِّ مكتوم. وقوله: ((فهو من أصحابه)) جملة في محلِّ الرفع على أنَّها خبر المبتدأ ودخول الفاء لتضمن المبتدأ / معنى الشَّرط، وقوله: ((من المسلمين)) قيدٌ ليخرج به من صَحبه، أو رآه من الكفَّار فإنَّه لا يسمَّى صحابياً. قيل: في كلام البخاريِّ نقصٌ يحتاج إلى ذكره وهو: ثمَّ مات على الإسلام. والعبارة السَّالمة من الاعتراض أن يُقال: الصَّحابي من لقي النَّبي صلعم مسلماً، ثمَّ مات على الإسلام؛ ليخرج من ارتدَّ ومات كافراً كابنِ خَطَل وربيعةَ بن أميَّة وغيرهما.
          القول الثاني: أنَّه من طالت صُحبته له وكثُرت مجالستُه مع طريق التَّبع له والأخذ عنه، هكذا حكاه أبو المظفَّر السَّمعاني عن الأصوليين.
          وقال: إنَّ اسم الصَّحابي يقع على ذلك من حيث اللُّغة، والظَّاهر أنَّ أهل الحديث يُطلقون اسم الصَّحابي على كلِّ من روى عنه حديثاً، أو كلمة ويتوسَّعون حتى يعدُّون من رآهُ رؤية من الصَّحابة.
          ومن ارتدَّ ثمَّ عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانياً بعد عوده فالصَّحيح أنَّه معدود في الصَّحابة لإطباق المحدِّثين على عدِّ الأشعث بن قيس ونحوه ممَّن وقع له ذلك وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد.
          وقال الآمديُّ: الأشبه أنَّ الصَّحابي من رآه، وحكاهُ عن أحمد وأكثر أصحاب الشَّافعي، واختارهُ ابنُ الحاجب أيضاً؛ لأنَّ الصُّحبة تعم القليل والكثير.
          وفي كلام أبي زُرعة الرَّازي وأبي داود ما يقتضِي أن الصُّحبة أخص من الرُّؤية فإنهما قالا في طارق بن شهاب: له رؤيةٌ وليست له صُحبة. ويدلُّ على ذلك ما رواه محمد بن سعد في «الطبقات» عن علي بن محمد عن شعبة عن موسى السَّبلاني قال: أتيتُ أنس بن مالك ☺ فقلتُ: أنت آخر من بقيَ من أصحابِ رسول الله صلعم ؟ قال: قد بقيَ قوم من الأعراب، فأمَّا من أصحابه فأنا آخر من بقيَ.
          قال ابن الصلاح: إسناده جيدٌ. /
          القول الثالث: ما رُوِي عن سعيد بن المسيب أنَّه كان لا يعدُّ الصَّحابي إلَّا من أقام مع رسول الله صلعم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا فيه ضيقٌ يُوجب أن لا يَعُدَّ من الصَّحابة جرير بن عبد الله البجلي، ومن شاركه، في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممَّن لا نعلم خلافاً في عده من الصحابة.
          وقال الشيخ زين الدين العراقي: هذا عن ابن المسيب لا يصحُّ لأنَّ في إسناده محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيفٌ في الحديث.
          القول الرابع: أنَّه يشترط مع طول الصُّحبة الأخذ عنه حكاه الآمدي عن عَمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ من أئمة المعتزلة، قال فيه ثعلب: إنَّه غير ثقة، ولا مأمون، ولا يوجد هذا القول لغيره.
          القول الخامس: أنَّه من رآه مسلماً بالغاً عاقلاً، حكاه الواقدي عن أهل العلم والتَّقييد بالبلوغ شاذٌّ، وقد مرَّ عن قريب(1) .
          القول السادس: أنَّه من أدرك زمنه صلعم وهو مسلمٌ وإن لم يره، وهو قول يحيى بن عثمان المصري فإنَّه قال فيمن دفن _أي: بمصر_ من أصحاب رسول الله صلعم ممَّن أدركه ولم يسمع منه أبو تميم الجيشاني، واسمه: عبد الله بن مالك، انتهى.
          وإنما هاجرَ أبو تميم إلى المدينة في خلافة عمر ☺ باتِّفاق أهل السِّير. وممَّن حكى هذا القول من الأصوليين القَرافي في «شرح التنقيح»، وكذلك إن كان صغيراً محكوماً بإسلامهِ تبعاً لأحد أبويه.
          هذا وقال الحافظ العسقلاني في قول البخاري: ومن صحب النَّبي صلعم ... إلى آخره يعني: أن اسم الصُّحبة يُستَحقُّ لمن صحبه صلعم أقل ما يُطلق عليه اسم الصُّحبة وإن كان العرف يخصُّ ذلك ببعض الملازمة، ويُطلَق أيضاً على من رآه رؤية ولو على بعدٍ، وهذا الذي ذكره البخاري هو الرَّاجح إلَّا أنه هل يشترط في / الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه، أو يكتفي بمجرَّد حصول الرؤية، محلُّ نظر.
          وعَمَلُ من صنَّف في الصَّحابة يدلُّ على الثاني، فإنَّهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق ☻ في الصَّحابة، وإنما ولد قبلَ وفاة النَّبي صلعم بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت في «الصحيح» أنَّ أمه أسماء ولدته في حجَّة الوداع قبل أن يدخلوا مكَّة وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة.
          ومع ذلك فأحاديثُ هذا الضَّرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفرايني ومن وافقه على ردِّ المراسيل مطلقاً حتى مراسيل الصَّحابة لا تجري في أحاديث هؤلاء؛ لأنَّ أحاديثهم من قبيل مراسيل كبار التَّابعين لا من قبيل مراسيل الصَّحابة الذين سمعوا من النَّبي صلعم .
          وهذا مما يلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسلٌ لا يقبله من يقبل مراسيل الصَّحابة.
          ومنهم: من بالغ فكان لا يَعُدُّ في الصحابة إلَّا من صحب الصحبة العرفية، كما جاء عن عاصم الأحول قال: رأى عبدُ الله بن سَرْجس رسولَ الله صلعم غير أنَّه لم يكن له صُحبة. أخرجه أحمد.
          هذا مع كون عاصم قد روى عن عبد الله بن سرجس هذا عدَّة أحاديث وهي عند مسلم وأصحاب السنن وأكثرها من رواية عاصم عنه، ومن جملتها قوله: إنَّ النَّبي صلعم استغفرَ له. فهذا رأي عاصمٍ أن الصَّحابي من يكون صحب الصُّحبة العرفية، وكذا روي عن سعيد بن المسيب أنَّه كان لا يعدُّ في الصَّحابة إلَّا من أقام مع النَّبي صلعم سنة فصاعداً، أو غزا معه غزوة فصاعداً.
          والعمل على خلاف هذا القول لأنَّهم اتفقوا على عدِّ جمع في الصَّحابة لم يجتمعوا بالنَّبي صلعم إلَّا في حجَّة الوداع، ومن اشترطَ الصُّحبة العرفية أخرج مَنْ له رؤية، أو من اجتمعَ به لكن فارقَه عن قريبٍ، كما جاء عن أنس ☺ أنَّه قيل له: بقيَ من أصحاب النَّبي صلعم قال: لا، مع أنَّه كان في ذلك الوقت عدد كثير / ممَّن لقيه من الأعراب.
          ومنهم: من اشترطَ في ذلك أن يكون حين اجتماعهِ به بالغاً وهو مردودٌ أيضاً؛ لأنَّه يخرج مثل الحسن بن عليٍّ ☻ ، ونحوه من أحداث الصَّحابة.
          والذي جزمَ به البخاريُّ هو قولُ أحمد والجمهورُ من المحدِّثين، وقد تقدَّم أنَّ قوله: ((من المسلمين)) قيد يخرج به من صحبه أو رآه من الكفَّار، فأمَّا من أسلم بعد موته منهم فإن كان قوله: ((من المسلمين)) حالاً خرج من هذه صفته وهو المعتمد.
          ويَرِدُ على التَّعريف من صحبه ورآهُ مؤمناً به، ثمَّ ارتدَّ بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فإنَّه ليس صحابياً اتِّفاقاً فينبغي أن يزادَ فيه: ومات على ذلك.
          وقد وقع في «مسند أحمد» حديث ربيعةَ بن أميَّة بن خلف الجُمحي وهو ممَّن أسلم في الفتح وشهد مع النَّبي صلعم حجَّة الوداع وحدَّث عنه بعد موته، ثم لحقَه الخذلان فلحقَ في خلافة عمر ☺ بالرُّوم وتنصَّر بسبب شيءٍ أغضبَه.
          وإخراج حديث مثل هذا مشكلٌ، ولعلَّ من أخرجه لم يقف على قصَّة ارتداده، والله تعالى أعلم، فلو ارتدَّ، ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانياً بعد عوده فالصَّحيح أنَّه معدودٌ في الصَّحابة، كما مرَّ آنفاً.
          وهل يختص جميع ذلك ببني آدم أم يعم غيرهم من العقلاء؟ فهو محلُّ نظر، أمَّا الجن فالرَّاجح دخولهم؛ لأنَّ النَّبي صلعم بعث إليهم قطعاً وهم مكلَّفون وفيهم العُصاة والطَّائعون فمن عُرِف اسمه منهم لا ينبغِي التَّردد في ذكره في الصَّحابة، وإن كان ابن الأثير عابَ ذلك على أبي موسى فلم يستندْ في ذلك إلى حجَّة.
          وأمَّا الملائكة فيَتوقَّف عدهم فيهم على ثبوت بعثه إليهم، فإن فيه خلافاً بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعَكَسَ بعضُهم، وهذا كله فيمن رآه وهو في قيد الحياة الدُّنياوية، أمَّا من رآه بعد موته وقبل دفنهِ فالرَّاجح أنَّه ليس صحابياً وإلَّا يُعدُّ من اتَّفق أن يرى جسده المكرم، وهو في قبره المعظَّم ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه / من الأولياء فرآه كذلك على طريق الكرامة إذ حجَّة من أثبت الصُّحبة لمن رآه قبل دفنه أنَّه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنَّما هي أخروية لا تتعلَّق بها أحكام الدنيا، فإنَّ الشُّهداء أحياء ومع ذلك فإنَّ الأحكام المتعلِّقة بهم بعد القتل جاريةٌ على أحكام غيرهم من الموتى، والله تعالى أعلم.
          وكذلك المراد بهذه الرُّؤية لمن اتَّفقت له ممَّن تقدَّم شرحه وهو يقظان، أمَّا من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقًّا، فذلك فيما يرجع إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدُّنيوية، فلذلك لا يعدُّ صحابياً ولا يجبُ عليه أن يعملَ بما أمره به في تلك الحالة.
          فائدة: وتعرف الصُّحبة إمَّا بالتواتر كأبي بكر وعمر ☻ وبقيَّة العشرة في خلق منهم ♥ ، وإمَّا بالاستفاضة والشُّهرة القاصرة عن التَّواتر كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة وغيرهما، وإمَّا بإخبار بعض الصَّحابة عنه أنَّه صحابي كحُمَمة بن أبي حُمَمة الدَّوسي الذي مات بأصبهان مبطوناً فشهد له أبو موسى الأشعري ☺ أنَّه سمع النَّبي صلعم وحكم له بالشَّهادة، ذكر ذلك أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان»، وإمَّا بإخباره عن نفسه أنه صحابي بعد ثبوت عدالته قبل إخباره بذلك، هكذا أطلق ابن الصَّلاح تبعاً للخطيب.
          وقال الشَّيخ زين الدين العراقي: لا بدَّ من تقييد ما أطلق من ذلك بأن يكون ادِّعاؤه لذلك يقتضيهِ الظَّاهر، أمَّا لو ادَّعاه بعد مضيِّ مائة سنة من حين وفاته صلعم فإنَّه لا يُقبل وإن كانت قد ثبتت عدالتُه قبل ذلك لقوله صلعم في الحديث الصَّحيح: ((أرأيتُم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى على وجه الأرض ممَّن هو عليها اليوم أحدٌ)) [خ¦116] يريد انخزامَ ذلك القرن؟ كان ذلك في سنة وفاته صلعم ، وقد اشترط الأصوليون في قبول ذلك منه أن يكون عُرِفت معاصرته للنَّبي صلعم ، / قال الآمدي: فلو قال من عاصره: أنا صحابي مع إسلامه وعدالته، فالظاهر صدقه، والله تعالى أعلم.


[1] لم يمر من قبل ونقله المؤلف هنا من الفتح، ولكنه قدّم وأخّر فيه وسيأتي القول في ذلك بعد ورقة كاملة، انظر فتح الباري 16/169.