نجاح القاري لصحيح البخاري

{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا }

          ░5▒ (باب) وسقط في بعض النسخ لفظ: <باب> ({إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا}) مفعول له؛ أي: يحاربون ويسعون لأجل الفساد، أو حال؛ أي: مفسدين ({أنْ يُقَتَّلُوا}) خبر المبتدأ، وهو جزاء الَّذين ({أوْ يُصَلَّبُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ}) أي: من أرض الجناية إلى غيرها، وقال أبو حنيفة: بالحبس لأنَّ المحبوس لا يرى أحدًا من أحبابه، ولا ينتفع بلذَّات الدُّنيا. وفي رواية أبي ذرٍّ سقط قوله: <{أَنْ يُقَتَّلُوا} إلى آخره>، ووقع بعد قوله: {فَسَادًا}: <الآية>.
          وكلمة «أو» للتَّخيير؛ أي: للإمام / أن يفعلَ بهم أيَّ خصلةٍ شاء، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس ☻ فيما رواه ابن جرير، وكذا عن الحسن والنَّخعي وغيرهما. وحكى الطِّيبي عن شارح الأصول عبد العزيز البُخاري قال: نظر هذا القائل أنَّ كلمة «أو» للتَّخيير حقيقةً فيجب العمل بها إلى أن يقومَ دليل المجاز، ولأنَّ قطع الطريق جنايةٌ واحدةٌ، وهذه الأجزية ذُكرت بمقابلتها فيصلح كلُّ واحدٍ جزاء له فيثبت التَّخيير كما في كفَّارة اليمين، انتهى.
          والأكثر على أنَّها للتَّنويع.
          قال الإمام الشَّافعي: أخبرنا إبراهيم هو: ابنُ أبي يحيى عن صالح مولى التَّوأمة عن ابن عبَّاس ☻ في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا، وإذا قُتلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلَّبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وإذا أخافوا السَّبيل ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض. ورواه ابن أبي شيبة عن عطيَّة عن ابن عبَّاس رضي عنهما بنحوه.
          وأجيب عمَّا سبق من التَّخيير بأنَّه غير ممكنٍ؛ لأنَّ الجزاء على حسب الجناية يزداد بزيادتها وينقص بنقصانها، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] فيبعد أن يُقال: عند غلظ الجناية يعاقب بأخفِّ الأنواع، وعند خفَّتها يعاقب بأغلظها، وذلك لأنَّ المحاربة تتفاوت أنواعها في صفة الجناية من تخويفٍ، أو أخذ مالٍ، أو قتل نفسٍ، أو جمع بين القتل وأخذ المال، والمذكور في الآية أجزية متفاوتة في معنى التَّشديد والغلظة فوقع الاستغناء بتلك المقدِّمة عن بيان تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصًّا، وهذا التَّقسيم يرجعُ إلى أصلٍ لهم، وهو أنَّ الجملةَ إذا قوبلت بالجملة ينقسم البعض على البعض.
          ثمَّ أنَّه قد اختلف في كيفيَّة الصَّلب فقيل: يُصلب حيًّا، ثمَّ يُطعن في بطنه بالرُّمح حتَّى يموت. وعن الشَّافعي: يُقتل أولًا ثمَّ يُصلَّى عليه، ثمَّ يُصلب، وهل يُصلبُ ثلاثة أيام ثمَّ ينزلُ، أو يترك حتَّى يتهرَّئ ويسيل صديده.
          وقال الطَّبري: اختلف أهل التَّأويل فيمن نزلت هذه الآية، / فروى عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّها نزلت في قومٍ من أهل الكتاب كانوا أهل موادعةٍ لسيدنا رسول الله صلعم فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض. وفي رواية أبي داود عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّها نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه من ذلك أن يُقام الحدُّ الَّذي أصاب.
          وعن السُّدِّي: أنَّها نزلت في سودان عرينة أتوا رسول الله صلعم وبهم الماء الأصفر فشكوا ذلك إليه الحديث.
          وذكر الثَّعلبي عن الكلبي أنَّها نزلت في قومٍ من بني هلال كان أبو برزة (1) الأسلمي عاهد النَّبي صلعم أن لا يُعينه ولا يُعين عليه، ومن آتاه من المسلمين فهو آمنٌ، فمرَّ قومٌ من بني كنانة [يريدون الإسلام] بناسٍ من أسلم من قوم أبي برزة قال: ولم يكن أبو برزة يومئذٍ شاهداً فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فنزلت هذه الآية.
          (الْمُحَارَبَةُ لِلَّهِ الْكُفْرُ بِهِ) روي هذا عن سعيد بن جُبير والحسن، وصله ابن أبي حاتم عنهما قال: حدَّثنا أبو زرعة: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير: حدَّثني ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيدٍ في قوله ╡: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] قال: يعني بالمحاربة: الكفر بعد الإسلام، والجمهور على أنَّه من باب حذف المضاف؛ أي: يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله، وهم المسلمون ففيه تعظيمٌ لهم. ومنه قوله تعالى في الحديث القدسيِّ: ((من عاد لي وليًا فقد بارزني بالحرب)).
          وأصل الحرب: السَّلب، والمحارب يسلب الرُّوح والمال، والمراد هنا: قطع الطَّريق، وهو أخذ المال مكابرةً اعتمادًا على الشَّوكة وإن كان في مصر.


[1] كذا في العمدة، وفي تفسير الثعلبي (أبو بُرْدة)، وكذلك أيضاً في القسطلاني والبغوي.