نجاح القاري لصحيح البخاري

{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس }

          ░10▒ (باب قَوْلِهِ) ╡ وسقط لفظ: <باب قوله> في رواية غير أبي ذرٍّ، ووقع بينهم في سياق ما قبل الحديث المرفوع تقديمٌ وتأخيرٌ ({إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ}) خبرٌ عن الأشياء المتقدِّمة، وإنَّما أخبر عن جمع بمفرد؛ لأنَّه على حذف مضاف؛ أي: تعاطي تلك الأشياء رجسٌ؛ أي: نجسٌ على ما ذهب إليه الأكثرون، إلَّا أنَّ النِّجس يُقال في المستقذر طبعًا، والرِّجس أكثر ما يُقال في المستقذر عقلًا ({مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}) لأنَّه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه، وهو في موضع رفع صفة لرجس أو خبر بعد خبر.
          وفي هذه الآية الكريمة نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر، وهو القمارُ. روى ابن أبي حاتم عن أبيه بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن عليٍّ ☺ أنَّه قال: الشَّطرنج من القمار. وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا محمَّد بن إسماعيل الأحمسي: حدثنا وكيع، عن سفيان / عن وعطاء ومجاهدٍ وطاوس قالوا: كلُّ شيءٍ من القمارِ، فهو الميسر حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز. وروي عن راشد بن سعد وحمزة (1) بن حبيب مثله، وقالا: حتَّى الكعاب والجوز والبيض الَّتي يلعب بها الصِّبيان.
          وقال ابن كثير في «تفسيره»: وأمَّا الشَّطرنج فقد قال عبد الله بن عمر ☻ أنَّه شرٌّ من النَّرد، ونصَّ على تحريمه مالكٌ وأبو حنيفة (2) وأحمد، وكرهه الشَّافعي(3) .
          قال العيني: إذا كان الشَّطرنج شرًّا من النَّرد فانظر ما قال رسول الله صلعم في النَّرد.
          روى مالكٌ في «الموطأ» وأحمد في «مسنده» وأبو داود وابن ماجه في «سننيهما» عن أبي موسى الأشعري ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((من لعب بالنَّرد فقد عصى الله ورسوله)).
          وروى مسلم عن بُريدة بن الحصيب الأسلمي ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((من لعب بالنَّردشير فكأنَّما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)).
          (وَقَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <قال> بدون الواو (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، وصله ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه (الأزْلأمُ) جمع: زَلَم _بفتح الزاي واللام_، وجاء فيه ضم الزاي (الْقِدْاحُ) جمع: قِدْح _بكسر القاف وسكون الدال_ وهو السَّهم الَّذي كانوا يستقسمون به، والسَّهم: أول ما يقطع يُقال له قطع، ثمَّ يُنحت ويُبرى فيسمَّى بريًا، ثمَّ يقوم فيسمَّى قدحًا، ثمَّ يراش ويركب نصله فيسمَّى: سهمًا.
          (يَقْتَسِمُونَ) أي: السِّهام الَّتي يستقسمون (بِهَا فِي الأُمُورِ) أي: في الجاهليَّة، والاستقسام هو طلب القسم الَّذي قسم له وقدر ممَّا لم يقدر، وهو استفعالٌ منه، وكانوا إذا أراد أحدهم سفرًا أو تزويجًا أو نحو ذلك من المهمَّات ضرب بالأزلام، وهي القداحُ وكان على بعضها مكتوبٌ: أمرني ربِّي، وعلى الآخر: نهاني ربي، وعلى الأخر: غفل، فإن خرجَ أمرني ربِّي مضى لشأنه، وإن خرجَ نهاني أمسك، وإن خرج الغفل أعاد وضربَ بها أخرى إلى أن يخرجَ الأمر أو النَّهي، قاله الفرَّاء.
          وقال ابنُ جرير: كانوا في الجاهليَّة يعمدون إلى ثلاثة سهامٍ على أحدها مكتوبٌ: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، والثَّالث: غُفْل. وذكر ابن إسحاق: أنَّ أعظم أصنام قريشٍ كان هبل، وكان في جوف الكعبة، وكانت الأزلام عنده / يتحاكمون عنده فيما أشكلَ عليهم، فما خرجَ منها رجعوا إليه، وهذا لا يدفع أن يكون آحادهم يستعملونها منفردين كما في قصَّة سراقة بن مالك.
          وقد تقدَّم في «حديث الهجرة» [خ¦3906] أنَّه قال: لما تَتَبَّع النَّبي صلعم وأبا بكر قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرُّهم أم لا فخرج الَّذي أكره. وروى الطَّبري عن سعيد بن جُبير قال: الأزلام حصىً بِيض.
          ومن طريق مجاهد قال: حجارةٌ مكتوبٌ عليها، وعنه كانوا يضربون بها لكلِّ سفرٍ وغزوٍ وتجارة، وهذا محمولٌ على غير الَّتي كانت في الكعبة.
          والَّذي تحصَّل من كلام أهل النَّقل أنَّ الأزلام كانت عندهم على ثلاثة أنحاءٍ، أحدها لكلِّ أحدٍ وهي ثلاثةٌ كما تقدَّم، وثانيها: للأحكام وهي الَّتي عند الكعبة، وكان عند كلِّ كاهنٍ وحاكمٍ للعرب مثل ذلك، وكانت سبعةً مكتوبٌ عليها وسيجيء تفصيله، وثالثها: قداح الميسر، وهي عشرةٌ، سبعة مخططة، وثلاثة غُفْل، وكانوا يضربون بها مُقامرة.
          (وَالنُّصُبُ) وفي رواية أبي ذرٍّ بإسقاط الواو، وهو بضم النون والصاد وسكونها مفرد، وجمعه أنصاب (أنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا) وصله ابن أبي حاتم أيضًا من طريق عطاء عن ابن عبَّاس ☻ . وقال أبو عبيدة: والنَّصب واحد الأنصاب، وقال ابن قتيبة: هي حجارةٌ كانوا ينصبونها ويذبحون عندها فينصبُّ عليها دماء الذَّبائح، ويُقال: الأنصاب أيضًا جمع نَصْب _بفتح النون وسكون الصاد_ وهي الأصنام (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ (الزَّلَمُ) بفتحتين هو (الْقِدْحُ) بكسر القاف وسكون الدال، وهو السَّهم الَّذي (لا رِيشَ لَهُ) وقد مر الكلام فيه آنفًا.
          (وَهُوَ وَاحِدُ الأزْلامِ) قال أبو عبيدة: واحد الأزلام: زَلَم _بفتحتين_، وزُلَم _بضم أوله وفتح ثانيه_ لغتان، ولا فرق في الحقيقة بين هذا القول وقول ابن عبَّاس ☻ الَّذي مضى، غير أنَّ ابن عبَّاس ☻ لم يذكر مفرد الأزلام، وفي هذا القول ذكر المفرد ثمَّ الجمع.
          (وَالاِسْتِقْسَامُ: أنْ يُجِيلَ الْقِدَاحَ، فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى، وَإِنْ أمَرَتْهُ فَعَلَ مَا تَأْمُرُهُ) وزاد أبو ذر: <به>، أشار به إلى تفسير قول ابن عبَّاس ☻ : «يستقسمون بها في الأمور»، وأنَّه مشتقٌّ من الاستقسام / وهو أن يجيل القِداح، فإن طلع القدح الَّذي عليه النَّهي انتهى وترك، وإن طلع الَّذي عليه الأمر ائتمر وفعل، وقد مر آنفًا، وثبت في رواية أبي ذرٍّ هنا: <يجيل يدير>، وأشار به إلى أنَّ معنى قوله: «يجيل: يدير»، من الإجالة بالجيم، وهي الإدارة.
          (وَقَدْ أعْلَمُوا) أي: أهل الجاهليَّة (الْقِدَاحَ أعْلامًا، لِضُرُوبٍ) أي: لأنواعٍ من الأمور (يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: أي: بذلك الفعل؛ أي: يطلبون بذلك بيان قسمهم من الأمر والنَّهي وغير ذلك.
          قال الإمام القسطلاني: وكانت سبعةٌ موضوعةٌ في جوف الكعبة عند هُبَل أعظم أصنامهم، فعلى واحدٍ منها: أمرني ربِّي، وعلى الآخر: نهاني ربِّي، وعلى آخر: واحدٌ منكم، وعلى الآخر: من غيركم، وعلى آخر: ملصق، وعلى آخر: العقل، والسَّابع: غُفْل؛ أي: ليس عليه شيءٌ، وكانوا إذا أرادوا بيان قسمهم من الأمر الَّذي يريدونه كسفرٍ أو نكاحٍ أو تجارةٍ أو اختلفوا فيه من نسبٍ أو أمر قتيلٍ أو حمل عقلٍ وهو الدِّيَّة أو غير ذلك من الأمور العظيمة أجالوه، فإن أجالوه على نسبٍ وخرج: منكم، كان وسطًا فيهم، وإن خرج: من غيركم، كان حلفًا فيهم، وإن خرج: ملصق كان على حاله، وإن اختلفوا في العقل فمن خرج عليه قدحه يحمله، وإن خرج العقل الَّذي لا علامه فيه أجالوا ثانيًا حتَّى يخرج المكتوب عليه، وكانوا يعطون القيم على إجالتها مائة درهم، وقد نهاهم الله عن ذلك، وحرَّمه وسمَّاه: فسقًا.
          والغُفْل _بضم الغين المعجمة وسكون الفاء_، قال ابن الأثير: هو الَّذي لا يُرجى خيره ولا شرُّه، والمراد هنا: الخالي عن شيءٍ.
          (وَفَعَلْتُ مِنْهُ) أي: إذا أراد أحدٌ أن يخبر عن نفسه من لفظ الاستقسام يقول: (قَسَمْتُ) بضم التاء يقول: قسمت أمري؛ أي: أجلت القداح ليقسم لي أمري أسافر أم أقيم (وَالْقُسُومُ) بضم القاف على وزن فعول (الْمَصْدَرُ) وقد جاء لفظ القسوم في قول الشَّاعر:
وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَحْبُسَنِي الْقُسُومُ
          ولكنَّ الاحتجاج بهذا على أنَّ لفظ القسوم مصدر فيه نظر لأنَّه يحتمل أن يكون جمع: قِسم بكسر القاف.
          والحاصل أنَّ الاستقسام استفعال من القِسْم بكسر القاف؛ أي: استدعاء ظهور القِسْم كما أنَّ الاستسقاء طلب وقوع السَّقي.
          وقال الفرَّاء: الأزلام / سهامٌ كانت في الكعبة يستقسمون بها في أمورهم.
          وقال الزَّمخشري في أوَّل سورة المائدة: إنَّه دخولٌ في علم الغيب الَّذي استأثر به علَّام الغيوب.


[1] كذا في العمدة، وفي تفسير ابن أبي حاتم (وحمزة).
[2] في هامش الأصل: وفي ((الهداية)): ويُكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو؛ لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر فهو عبث ولهو، وقال صلعم: ((لهو المؤمن باطل إلا لثلاث تأديبه لفرسه ومناضلته عن قوسه وملاعبته مع أهله)) وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتزكية الأفهام، وهو محكي عن الشافعي، ولنا قوله صلعم: ((من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير)) ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حرامًا لقوله صلعم: ((ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر))، ثم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر به لا تسقط لأنه متأول فيه، وكره أبو يوسف ومحمد التسليم عليهم تحذيرًا لهم، ولم ير أبو حنيفة به بأسا ليشغلهم عما هم فيه. منه.
[3] في هامش الأصل: وفي ((شرح الكشاف)) للمحقق التفتازاني: إن شرط المال من أي جانب كان مغلوبًا فحرمة ذلك بالاتفاق، وأما في حرمة اللعب نفسه أو في الرهان من جانب بأن يأخذ المال إن غلب وإلا لم يؤخذ منه شيء ففيها خلاف. منه.