نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الجزية والموادعة

          ░░58▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، باب الْجِزْيَةِ) كذا في رواية الأكثر، ووقع عند أبي نعيم وابن بطال: <كتاب الجزية> وأمَّا البسملة: فهي موجودةٌ عند الكل سوى أبي ذرٍّ.
          والجزية: من الجزاء؛ لأنَّها مالٌ يؤخذ من أهل / الكتاب جزاء الإسكان في دار الإسلام، أو جزاء عن قتله. وقيل: من جزَّأت الشَّيء: إذا قسمته، ثم سهَّلت الهمزة فهي فعلة من الجزء. وقيل: من الإجزاء؛ لأنَّها تكفي من يوضع ذلك عليه في عصمة دمه.
          (وَالْمُوَادَعَةِ) أي: المتاركة والمصالحة، والمراد: متاركة أهل الحرب مدَّةً معيَّنة لمصلحة.
          (مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ والْحَرْبِ) فيه لفٌّ ونشرٌ على الترتيب؛ لأنَّ الجزية مع أهل الذِّمَّة والموادعة مع أهل الحرب، قال ابن المنيِّر: وليس في أحاديث الباب ما يوافقها إلَّا الحديث الأخير في تأخير النُّعمان بن مقرن القتال، وانتظاره زوال الشَّمس.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وليست هذه الموادعة المعروفة، والذي يظهر: أنَّ الصَّواب ما وقع عند أبي نُعيم من إثبات لفظ ((كتاب)) في صدر هذه الترجمة، ويكون الكتاب معقوداً للجزية والمهادنة، والأبواب المذكورة بعد ذلك مفرَّعة عنه، والله تعالى أعلم.
          قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية: أنَّ الذلَّ الذي يلحقهم يحملهم على الدُّخول في الإسلام.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفٌ على الجزية، وهذه الآية الكريمة في سورة التوبة، وهي الأصل في مشروعيَّة الجزية، ولمَّا تمهَّدت أمورُ المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجاً، واستقامت جزيرةُ العرب أمرَ اللهُ تعالى رسوله صلعم بقتال أهل الكتابين اليهود والنَّصارى، وكان ذلك في سنة تسع، وجهد رسول الله صلعم بقتال الروم، ودعا النَّاس إلى ذلك.
          وبعثَ إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً، وتخلَّف بعض النَّاس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدبٍ، ووقت قيظٍ وحرٍّ، وخرج صلعم يريد الشَّام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها وأقام على مائها قريباً من عشرين يوماً، ثمَّ استخار الله تعالى في الرجوع، فرجع لضيق الحال، وضَعْف الناس.
          والآية هي قوله تعالى: ({قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]) / أي: لا يؤمنون بهما على ما ينبغي فإنَّ إيمانهم كلا إيمان ({وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}) ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنَّة، وقيل: رسوله هو الذي يزعمون اتِّباعه، والمعنى: يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً.
          ({وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}) الثَّابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ({مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}) بيانٌ للذين لا يؤمنون ({حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}) ما تقرَّر عليهم أن يعطوه؛ أي: إن لم يُسْلِمُوا، مشتقٌّ من جزى دينه: إذا قضاه، وقد تقدَّم غير ذلك في اشتقاقه.
          ({عَنْ يَدٍ}) حال من الضمير؛ أي: عن يدٍ مواتية بمعنى: منقادين، أو عن يدهم بمعنى مسلِّمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم، ولذلك مُنع من التَّوكيل فيه، أو عن غنى، ولذلك قيل: لا يُؤخذ من الفقير، أو عن يدٍ قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلَّاء، أو حالٌ من الجزية بمعنى: نقداً مُسْلَّمة عن يدٍ إلى يد، أو عن إنعامٍ عليهم، فإنَّ إبقاءهم بالجزية نعمةٌ عظيمةٌ عليهم. وقيل: عن يدٍ؛ أي: عن طيب نفسٍ، وكلُّ من أطاع لقاهرٍ وأعطاه عن طيب نفسٍ من يده، فقد أعطاه عن يد.
          ({وَهُمْ صَاغِرُونَ}) ذليلون مقهورون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزازهم ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلَّاء أشقياء، وعن ابن عبَّاس ☻ : تؤخذُ الجزية من الذِّمِّي وتوجأ عنقه، ومفهوم الآية عند من يعتبره: يقتضِي تخصيصَ الجزية بأهل الكتاب، وسيجيءُ التَّفصيل في ذلك إن شاء الله تعالى.
          (أَذِلاَّءُ) هذا تفسيرٌ من البخاريِّ لقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، قال أبو عبيدة في «المجاز»: الصَّاغر: الذَّليل الحقير.
          ({وَالمَسْكَنَةُ} مَصْدَرُ المِسْكِيْنُ) من عادة البخاريِّ أنَّه يذكر ألفاظ القرآن التي لها أدنى مناسبة بينها وبين ما هو المقصود في الباب ويفسِّرها. وقد ورد في حقِّ أهل الكتاب: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة:61]، فهنا أيضاً جرى على عادته فقال: والمسكنة مصدر المسكين، قال العينيُّ: المسكنة: الفقر المُدْقِعُ. وقال ابنُ الأثير: فقر النَّفس، فإن كان مراد البخاريِّ من المصدر: المصدر الاصطلاحيِّ، فلا يصحُّ على ما لا يخفى، وإن كان مراده الموضع فكذلك؛ لأنَّه لا يقال: المسكنةُ موضع صدور المسكين. انتهى. /
          وفيه نظرٌ؛ لأنَّه ليس مراده هذا ولا ذاك، بل مراده أنَّه من المصادر المصنوعة كالسبحلة والحوقلة، فافهم.
          (أسْكُنُ مِنْ فُلَانٍ: أحْوَجُ مِنْهُ) إشارةٌ إلى أنَّ المسكين يؤخذ من قولهم: فلان أسكن من فلان؛ أي: أحوج منه، وليس من السُّكون الذي هو ضدُّ الحركة. وفيه: أنَّ المسكنة والمسكين وما يشتقُّ من ذلك كلُّها، من السُّكون الذي بمعنى ضدِّ الحركة، كأنَّ الفقر أسكنه، وقطعه عن الحركة.
          (وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ) قيل: قوله: ((والمسكنة)) إلى آخره: من كلام أبي عبيدة في «المجاز»، وقيل: القائل: ((ولم يَذهب إلى السُّكون)) هو الفربريُّ الراوي عن البخاريِّ، أراد أن ينبِّه على أنَّ قولَ البخاريِّ: أسكن، من المسكنة لا من السُّكون، وإن كان أصل المادة واحداً، قاله الحافظ العسقلاني.
          وتعقَّبه العينيُّ حيث قال: من قال ممن تصدَّى لشرح البخاري، أو من غيرهم أن قائل هذا هو الفربريُّ، وهذا تخمين وحَدْس، ولئن سلَّمنا أنَّ أحداً منهم ذكر هذا على الإبهام فلا يفيد شيئاً؛ لأنَّ المتصرِّف في مادة خارجاً عن القاعدة لا يؤخذ منه، وهذا ممَّا لا نزاعَ فيه، والله تعالى أعلم.
          (وَمَا جَاءَ) عطفٌ على ما قَبْلَه، وهو من بقية الترجمة (فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ) قيل: وعَطْفُ العجم على من تقدَّم ذكره من عَطْفِ الخاصِّ على العام، وفيه نظرٌ، والظَّاهر: أنَّ بينهما عموماً وخصوصاً وجهياً، فأمَّا اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب بالاتِّفاق، وأمَّا المجوس فقد ذكر مستنده في الباب. وفرق الحنفيَّة فقالوا: تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب، وحكى الطحاويُّ عنهم: تقبل الجزية من أهل الكتاب، ومن جميع كفَّار العجمِ، ولا يُقْبَلُ من مشركي العرب إلَّا السَّيف أو الإسلام. لما روى الزهريُّ: أنَّه صلعم صالح عبدة الأوثان إلَّا من كان من العرب، فهذا الذي ذكره البخاريُّ هو قول أبي حنيفة وأصحابه، وعند الشافعيِّ وأحمد: لا تؤخذ إلَّا من أهل الكتاب.
          وعند مالك: يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ ومجوسيٍّ ووثنيٍّ وغير ذلك، / إلَّا من ارتدَّ، وبه قال الأوزاعيُّ وفقهاء الشَّام، وحكى ابن القاسم عنه: لا تقبل من قريش، وحكى ابن عبد البرِّ الاتِّفاق على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك: أنَّها لا تقبل إلَّا من اليهود والنَّصارى فقط، ونقل أيضاً الاتِّفاق على أنَّه لا يحلُّ نكاح نسائهم، ولا أكل ذبائحهم، لكن حكى غيره عن أبي ثور: حلُّ ذلك.
          قال ابن قدامة: وهذا خلاف إجماع من تقدَّمه، وقال الحافظ العسقلانيُّ: وفيه نظرٌ؛ فقد حكى ابن عبد البر، عن سعيد بن المسيَّب: أنَّه لم يكن يرى بذبيحة المجوس بأساً إذا أمره المسلم بذبحها. وروى ابن أبي شيبة عنه، وعن عطاء وطاوس وعَمرو بن دينار: أنَّهم لم يكونوا يرون بأساً بالتسرِّي بالمجوسية. قال الشافعيُّ: تقبل من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ويلتحق بهم المجوس في ذلك، واحتجَّ بالآية المذكورة، فإنَّ مفهومها: أنَّها لا تقبل من غير أهل الكتاب. وقد أخذها النَّبي صلعم من المجوس، فدلَّ على إلحاقهم بهم، واقتصر عليه، وكان عمر ☺ لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتَّى شهد عبد الرحمن بن عوف ☺ أنَّه صلعم أخذها من مجوس هجر، وأنَّه قال: سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب، وذلك لأنَّ لهم شبهة كتاب، فألحقوا بالكتابين، وأمَّا سائر الكفرة فلا يؤخذ منهم الجزية عنده.
          وقال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنَّصارى بالكتاب، وعلى المجوس بالسنَّة. واحتجَّ غيره بعموم قوله في حديث بُريدة وغيره: ((فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوا وإلَّا فالجزية)). واحتجُّوا أيضاً: بأنَّ أخذها من المجوس يدلُّ على ترك مفهوم الآية، فلما انتفى تخصيصُ أهل الكتاب بذلك دلَّ على أنَّ لا مفهوم لقوله: ((من أهل الكتاب)).
          وأُجيب: بأنَّ المجوس كان لهم كتاب ثمَّ رفع، وروى الشافعيُّ وغيره في ذلك حديثاً عن عليٍّ ☺، وسيأتي في هذا الباب ذكره، وتُعُقِّب بقوله تعالى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156].
          وأجيب: بأنَّ المراد ممَّا اطَّلع عليه القائلون وهم قريشٌ؛ لأنَّه لم يشتهر عندهم من جميع الطوائف مَن له كتابٌ إلَّا اليهود والنصارى، وليس في ذلك نفي بقية الكتب المنزلة كالزبور وصحف إبراهيم ◙ وغير ذلك. /
          ثمَّ الجزية أقلها في كلِّ سنةٍ دينار، سواءٌ فيه الغنيُّ والفقير عند الجمهور. وقال أبو حنيفة ☼ : على الغنيِّ ثمانيةٌ وأربعون درهماً، وعلى المتوسِّط نصفها، وعلى الفقير الكَسُوب ربعها، ولا شيء على فقيرٍ غير كسوب، كذا ذكره القاضي.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وأقلُّ الجِزية عند الجمهور دينار لكلِّ سنة، وخصَّه الحنفية بالفقير، وأمَّا المتوسِّط فعليه ديناران، وعلى الغنيِّ أربعة دنانير، وهو موافقٌ لأثر مجاهد، كما دلَّ عليه حديث عمر ☺، وعند الشافعيَّة: إنَّ للإمام أن يماكس حتَّى يأخذها منهم، وبه قال أحمد.
          وروى أبو عبيد من طريق أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرِّب، عن عمر ☺ أنَّه بعث عثمان بن حنيف بوضع الجزية على أهل السَّواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر، وهذا على حساب الدينار باثني عشر، وعن مالك: لا يزاد على الأربعين، وينقص منها عمَّن لا يطيق.
          وهذا يحتمل أن يكون جعله على حساب الدِّينار بعشرة، والقدر الذي لابدَّ منه دينار.
          وفيه: حديث مسروق، عن معاذٍ ☺: أنَّ النَّبي صلعم حين بعثه إلى اليمن قال: ((خُذ من كل حالمٍ ديناراً)) أخرجه أصحاب السنن، وصحَّحه الترمذي والحاكم.
          واختلف السَّلف في أخذها من الصبيِّ، والجمهورُ لا على مفهوم حديث معاذ ☺، وكذا لا يؤخذ من شيخٍ فانٍ، ولا زَمِنٍ، ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عاجز عن الكسب، ولا أجير، ولا من أصحاب الصَّوامع والدِّيارات في قول، والأصحُّ عند الشافعيَّة: الوجوب على من ذكر آخراً، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيان (عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله (قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ) أي: من جهة الغِنَى، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عنه به، وزاد بعد قوله: أهل الشَّام من أهل الكتاب: يؤخذ منهم في الجزية... إلى آخره.
          وأشار بهذا الأثر / إلى جواز التَّفاوت في الجزية، وقد عرف ذلك آنفاً.