نجاح القاري لصحيح البخاري

أبواب سجود القرآن

          (╖) وسقطت البسملة في رواية أبي ذرٍّ.
          ░░17▒▒ (أَبْوَابُ سُجُودِ القُرْآنِ) هكذا في رواية المستمليْ، وفي رواية غيره: <باب ما جاء في سجود القرآن وسنَّتها> بتأنيث الضَّمير؛ أي: سنة سجدة التِّلاوة، وفي رواية الأَصيليِّ: <وسنَّته> بتذكير الضَّمير؛ أي: سنَّة السُّجود.
          واعلم أنَّ العلماء اختلفوا في أنَّ سجدة التِّلاوة واجبة أو سنَّة، وعلى تقدير كونها سنَّة مؤكَّدة، أو غير مؤكَّدة: فذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنَّها واجبة على التَّالي والسَّامع، سواء قصد سماعها أو لم يقصد.
          واستدلَّ صاحب «الهداية» على الوجوب بقوله صلعم : ((السَّجدة على من سمعها، السَّجدة على من تلاها))، ثمَّ قال: وكلمة ((على)) للإيجاب، والحديث غير مقيَّد بالقصد.
          قال العينيُّ: وهذا الحديث غريب لم يثبت، وإنَّما روى ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» عن ابن عمر ☻ أنَّه قال: ((السَّجدة على من سمعها)).
          وفي «صحيح البخاري»: قال عثمان ☺: إنَّما السُّجود على من استمع [خ¦1077]. واستدلَّ أيضاً بالآيات بقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:20-21]، وقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، وقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، والأمر للآيتين للوجوب. وقالوا: الذَّم لا يتعلَّق إلا بترك واجب.
          وروى ابن أبي شيبة، عن حفص، عن حجَّاج، عن إبراهيم، ونافع، وسعيد بن جبير أنَّهم قالوا: من سمع السَّجدة فعليه أن يسجد. وعن إبراهيم بسند صحيح: إذا سمع الرَّجل السَّجدة وهو يصلِّي، فليسجد. وعن الشَّعبي: كان أصحاب عبد الله إذا سمعوا السَّجدة سجدوا في صلاة كانوا أو في غيرها. وقال شعبة: سألت حمَّاداً عن الرَّجل يصلِّي فيسمع السَّجدة، قال: يسجد. وقال الحكم مثل ذلك.
          وعن إبراهيم أنَّه كان يقول في الجنب إذا سمع السَّجدة: يغتسل ثمَّ يقرأها فيسجد، فإن كان لا يحسنها قرأ غيرها، ثمَّ يسجد. وعن إبراهيم، وحمَّاد، وسعيد بن جبير قالوا: إذا سمع الجنب السَّجدة اغتسل، ثمَّ سجد. وعن سعيد بن المسيِّب، عن عثمان ☺ في الحائض تسمع السَّجدة قال: تومئ برأسها، وتقول: اللَّهم لك سجدت.
          وعن الحسن في رجل نسي السَّجدة من أوَّل صلاته فلم يذكرها حتَّى كان في آخر ركعة من صلاة قال: يسجد فيها ثلاث سجدات، فإن لم يذكرها حتَّى يقضي صلاته / غير أنَّه لم يسلِّم قال: يسجد سجدة واحدة ما لم يتكلَّم، فإن تكلَّم استأنف الصَّلاة. وعن إبراهيم: إذا نسي السَّجدة فليسجدها متَّى ذكرها في صلاته.
          وسُئل مجاهد في رجل شكَّ في سجدة، وهو جالس لا يدري سجدها أو لا. قال مجاهد: إن شئت فاسجدها، فإذا قضيت صلاتك فاسجد سجدتين وأنت جالس، وإن شئت فلا تسجدها، واسجد سجدتين وأنت جالس في آخر صلاتك.
          وذهب الشَّافعي ومالك في أحد قوليه وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود: إلى أنَّها سنَّة مؤكَّدة، وهو قول عمر وسلمان وابن عبَّاس وعمران بن الحصين ♥ ، وبه قال اللَّيث وداود.
          وفي «التَّوضيح»: وعند المالكيَّة خلاف في كونها سنَّة أو فضيلة، قولان مشهوران عن مالك. واحتجُّوا بحديث عمر ☺: إنَّ الله لم يكتب علينا السُّجود إلَّا أن نشاء، وهذا ينفي الوجوب. قالوا: قال عمر ☺: هذا القول والصَّحابة حاضرون، والإجماع السُّكوتي حجَّة عندكم.
          واحتجُّوا أيضاً بحديث زيد بن ثابت ☺ قال: قُرئ على النَّبيِّ صلعم {وَالنَّجْمِ} [النجم:1]، فلم يسجد فيها. وبحديث الأعرابي: هل عليَّ غيرها قال: ((لا إلَّا أن تطوَّع)). أخرجه البخاري [خ¦46] ومسلم.
          وبحديث سلمان ☺: أنَّه دخل المسجد وفيه قوم يقرؤون، فقرؤوا السَّجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لولا أتينا هؤلاء القوم، فقال: ما لهذا عدونا، رواه ابن أبي شيبة. واستدلُّوا بالمعقول من وجوه:
          الأوَّل: أنَّها لو كانت واجبة لما جازت بالرُّكوع كالصلبيَّة.
          الثَّاني: أنَّها لو كانت واجبة لما تداخلت.
          الثَّالث: أنَّها لو كانت واجبة لما أدِّيت بالإيماء من راكب يقدر على النُّزول.
          الرَّابع: أنها تجوز على الرَّاحلة فصار كالتَّأمين.
          الخامس: أنها لو كانت واجبة لبطلت الصَّلاة بتركها كالصلبية.
          والجواب عن حديث زيد بن ثابت ☺: أنَّ معناه: أنَّه لم يسجد على الفور، ولا يلزم منه أنَّه ليس في النَّجم سجدة، ولا فيه نفي الوجوب. وعن حديث الأعرابي: أنَّه في الفرائض، ونحن لم نقل أنَّ السَّجدة فرض. وما رَوِي عن سلمان وعمر ☻ فموقوف، وهو ليس بحجَّة عندهم، فافهم.
          وأمَّا الجواب عن دليلهم العقلي:
          أمَّا عن الأوَّل: فإنَّ أداءها في ضمن شيء لا ينافي وجوبها في نفسها كالسَّعي إلى الجمعة يتأدَّى بالسَّعي إلى التِّجارة.
          وأمَّا عن الثَّاني: فإنَّ المقصود من السَّجدة إظهار الخضوع والخشوع، وذلك يحصل بمرَّة واحدة.
          وأمَّا عن الثَّالث: فإنَّه أداها كما وجبت، فإنَّ / تلاوتها على الدَّابة مشروعة، فكان كالشُّروع في التطوُّع على الدَّابة.
          وأمَّا عن الرَّابع: فإنَّ تلاوتها مشروعة على الرَّاحلة، فلا ينافي الوجوب.
          وأمَّا عن الخامس: فإنَّ القياس على الصلبية فاسد؛ لأنَّها جزء الصَّلاة، وسجدة التِّلاوة ليست كذلك، والله أعلم.
          ثمَّ إن سبب وجوب سجدة التِّلاوة: التِّلاوةُ في حقِّ التَّالي، والسَّماع في حقِّ السَّامع.
          وقال بعض أصحابنا: لا خلاف في كون التِّلاوة سبباً، وإنَّما الخلاف في سببية الاستماع، فقال بعضهم: هو سبب لقوله صلعم : ((السَّجدة على من سمعها))، وهو اختيار شيخ الإسلام خواهر زاده. وقال بعضهم: ليس السَّماع بسبب.
          وقال الوبري: سبب وجوب سجدة التِّلاوة: التِّلاوةُ والسَّماع والاقتداء بالإمام، وإن لم يسمعها ولم يقرأها.
          وقالت الشَّافعية: أنَّها في حقِّ السَّامع من غير قصد مستحب، ولا يتأكَّد في حقِّه، وهو الصَّحيح المنصوص في البويطي. وقال بعضهم: هو كالمستمع. وقال الآخرون منهم: لا يسنُّ له، وبه قطع أبو حامد.
          ثمَّ اعلم أنَّهم اختلفوا في عدد سجود القرآن على اثني عشر قولاً:
          الأوَّل: مذهبنا: أنَّها أربع عشرة سجدة: في آخر الأعراف، والرَّعد، والنَّحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى في الحجِّ، والفرقان، والنَّمل، وألم تنزيل، وص، وحم السَّجدة، والنَّجم، وإذا السَّماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك.
          الثَّاني: إحدى عشرة بإسقاط الثَّلاث من المفصَّل، وبه قال الحسن وابن المسيب وابن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس ومالك في ظاهر الرِّواية، والشَّافعي في القديم، وروي عن ابن عبَّاس، وابن عمر ♥ .
          الثَّالث: خمس عشرة، وبه قال المدنيُّون عن مالك مكملتها: ثانية الحج، وهو مذهب عمر وابنه عبد الله ☻ ، وبه قال اللَّيث وإسحاق وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، واختاره المروزي وابن شُريح الشَّافعيان.
          الرَّابع: أربع عشرة بإسقاط ص، وهو أصح قولي الشَّافعي وأحمد.
          الخامس: أربع عشرة بإسقاط سجدة النَّجم، وهو قول أبي ثور.
          السَّادس: اثنتا عشرة بإسقاط ثانية الحج، وص، والانشقاق، وهو قول مسروق، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه.
          السَّابع: ثلاث عشرة بإسقاط ثانية الحج، والانشقاق، وهو قول عطاء الخراساني.
          الثَّامن: أنَّ عزائم السُّجود خمس: الأعراف، وبنو إسرائيل، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، وهو قول ابن مسعود ☺، رواه / ابن أبي شيبة عنه.
          التَّاسع: أنَّ عزائمه أربع: ألم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، وهو مرويٌّ عن عليٍّ ☺، رواه ابن أبي شيبة عنه أيضاً.
          العاشر: أنَّ عزائمه ثلاث: ألم تنزيل، والنَّجم، واقرأ باسم ربك، قاله سعيد بن جبير، رواه ابن أبي شيبة عنه أيضاً.
          الحادي عشر: أنَّ عزائمه: ألم تنزيل، والأعراف، وحم تنزيل، وبنو إسرائيل، وهو مذهب عبد بن عمير.
          الثَّاني عشر: عشر سجدات، قالته جماعة.
          قال ابن أبي شيبة:حدَّثنا أسامة:حدَّثنا ثابت بن عُمارة، عن أبي تميمة الهُجيمي: أنَّ أشياخاً من الهُجيم بعثوا رأساً لهم إلى المدينة وإلى مكَّة، يسأل لهم عن سجود القرآن، فأخبرهم أنَّهم أجمعوا على عشر سجدات. وذهب ابن حزم إلى أنَّها تسجد للقبلة، ولغير القبلة، وعلى طهارة، وغير طهارة. قال: وثانية الحج لا نقول بها أصلاً في الصَّلاة، وتبطل الصَّلاة بها؛ يعني: إذا سجدت. قال: لأنَّها لم تصح بها سنَّة عن رسول الله صلعم ، ولا أُجمِع عليها، وإنَّما جاء فيها أثر مرسل.
          قال العيني: الظَّاهر أنَّه غفل وذهل، بل فيها حديث صحيحٌ، رواه الحاكم عن عمرو بن العاص ☺: أنَّ رسول الله صلعم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن العظيم.
          ثمَّ اعلم أنَّه يسجد في الأعراف عند آخره: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، وفي الرَّعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [الرعد:15]، وفي النَّحل عند قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]، وفي بني إسرائيل عند قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109]. وفي مريم عند قوله: {سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58]، وفي الأولى من الحجِّ عند قوله: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج:18]، وفي الثَّانية عند الشَّافعية عند قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
          وفي الفرقان عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60]، وفي النَّمل عند قوله: {وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل:74]، وعند الشَّافعية والمالكيَّة عند قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]، وفي ألم السجدة عند قوله: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15]، وفي ص عند قوله: {وَأَنَابَ} [ص:24] وبه قال الشَّافعي ومالك أيضاً، وروي عن مالك عند قوله: {وَحُسْنَ مَآَبٍ} [ص:25].
          وفي حم السجدة عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وبه قال الشَّافعي في الجديد، وأحمد، وقال في القديم: عند قوله: {تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، وبه قال مالك.
          وفي النَّجم عند قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، وفي الانشقاق عند قوله: {لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21]، وعند ابن حبيب المالكي في آخر السورة، وفي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] عند قوله: {وَاقْتَرِبْ} [العلق:19].
          وفي «مختصر البحر»: لو قرأ: {وَاسْجُدْ} [العلق:19 / وسكت، ولم يقل: {وَاقْتَرِبْ} يلزمه السَّجدة، وقيل: لا يلزمه؛ لأنَّ وقتها إنَّما يدخل بتمامها، والله أعلم.