نجاح القاري لصحيح البخاري

المائدة

          ░░░5▒▒▒ (سُوْرَةُ الْمَائِدَةِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <بسم الله الرَّحمن الرحيم سورة المائدة>، وفي بعض النُّسخ وقعت البْسملة بعد قوله: سورة المائدة، وهذا أحسن كما لا يخفى.
          والمائدة على وزن فاعلة بمعنى مفعولة؛ أي: ميد بها صاحبها. وقال الجوهري: مادهم يميدهم لغةً في مارهم من الميرة، ومنه: المائدة، وهي خِوانٌ عليها (1) طعام، فإذا لم يكن عليها طعامٌ فليست بمائدة، وإنَّما هي خِوان، وقال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة:21] بمعنى مرضيَّة. وقال مقاتل: هي مدنيَّةٌ كلُّها نزلت بالنَّهار. وقال عطاء بن أبي مسلم: نزلت سورة المائدة ثمَّ سورة التوبة. وقال أبو العبَّاس في مقامات التَّنزيل: هي آخرُ ما نزل.
          وفيها اختلاف في ستِّ آياتٍ: آية منها نزلت في عرفات لم أسمع أحدًا اختلف فيها، وهي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وآية التَّيمم نزلت بالأبواء، {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ} [المائدة:67] بذات الرِّقاع. /
          وآيتان: قال بعضهم: إنَّهما نزلتا قبل الهجرة، وهما: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} إلى قوله: {مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:82-83]. وآيةٌ اختلفوا فيها فقيل: إنَّها نزلت بنخلةٍ في الغزوة السَّابعة. وقيل: إنَّها نزلت بالمدينة في كعب بن الأشرف، وهي {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة:7].
          وقال أبو عبيدة(2) : عن محمد بن كعب القرظي قال: نزلت سورة المائدة على سيدنا رسول الله صلعم في حجَّة الوداع فيما بين مكَّة والمدينة، وهو على ناقته، فابتدر ركبتها (3) فنزل عنها صلعم .
          وقال السَّخَّاوي: ذهب جماعةٌ إلى أنَّ المائدة ليس فيها منسوخٌ لأنَّها متأخِّرة النُّزول. وقال آخرون: فيها من المنسوخ عشرة مواضع، وقال النَّحَّاس: فيها آيةٌ واحدةٌ منسوخةٌ. وذكرها الشَّعبي، ثمَّ ذكر ستًّا أخرى فكملت سبعَ آيات، وهي أحد عشر ألفًا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفًا، وألفان وثمانمائة كلمة وأربع كلمات، ومائة وعشرون آية كوفي، واثنان وعشرون مدني وشامي ومكي، وثلاث وعشرون بصري.
          ░1▒ ({حُرُمٌ}: وَاحِدُهَا حَرَامٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1]. قال أبو عبيدة: واحدها حرامٌ بمعنى مُحْرِم، والمعنى: وأنتم محرمون، وقراءة الجمهور بضم الراء، وقرأ يحيى بن وثاب بإسكان الراء، وهي لغة كرُسُل ورُسْل، وقد سقطت هذه الجملة في رواية غير أبي ذرٍّ وأبي الوقت.
          ({فَبِمَا نَقْضِهِمْ}: بِنَقْضِهِمْ) وفي بعض النُّسخ: <باب {فَبِمَا نَقْضِهِمْ}> بزيادة: <باب>، وليس في كثيرٍ من النُّسخ وهو الظَّاهر؛ لأنَّه لم يرو عن أحدٍ هنا لفظ باب، وقد أشار بقوله: «بنقضهم»، إلى أن كلمة {مَا} زائدة، رُوي كذا عن قَتَادة أخرجه الطَّبري، وكذا رواه ابن المنذر عن أحمد: حدثنا يزيد عن سعيدٍ عن قَتَادة.
          وقال أبو عبيدة: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ}؛ أي: فبنقضهم قال: والعرب تستعمل «ما» في كلامها توكيدًا، فإن كان الَّذي قبلها يُجَرُّ أو يُرفع أو يُنصب بكلِّ ما بعدها. وقال الزَّجاج: «مَا» لغو، والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، ومعنى «ما» الملغاة [في العمل] توكيد القصد. وعن الكسائي: «مَا» صلة كقوله: {عمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون:40]، وكقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159].
          وقال الثَّعلبي: إنَّما دخلت فيه «ما» للمصدر، وكذلك كلُّ ما أشبهه، وأوَّل هذه الكلمة الآية الطَّويلة، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة:12] الآية، / وبعدها {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ولقد أخبر الله تعالى عمَّا أحلَّ بالذين نقضوا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشدِّه من العقوبة، بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} أي: بسبب نقضهم ميثاقهم {لَعَنَّاهُمْ} أي: أبعدناهم عن الحقِّ، وطردناهم عن الهدى {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: لا ينتفعون بموعظة لغلظها وقساوتها.
          ({الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ}: جَعَلَ اللَّهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] وفسَّره بقوله: «جعل الله». قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}: أي: جعل لكم وقضى. وعن ابن إسحاق: كتب لكم؛ أي: وهب لكم، أخرجه الطَّبري.
          وأخرج من طريق السُّدِّي أنَّ معناه أمرَ، قال الطَّبري: والمراد أنَّه قدَّرها لسُكنى بني إسرائيل في الجملة، فلا يرد كون المخاطبين بذلك لم يسكنوها؛ لأنَّ المرادَ جنسهم بل قد سكنها بعض أولئك كيوشع وهو ممَّن خوطبَ بذلك قطعًا.
          وقال الزَّمخشري: معنى {كَتَبَ اللَّهُ} قسمها وسمَّاها، أو خطَّ في اللَّوح المحفوظ أنَّها لكم، والأرض المقدَّسة بيت المقدس أو أريحا أو فلسطين أو دمشق الشَّام. وكان إبراهيم ╕ صعد جبل لبنان فقيل له: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدَّسٌ وميراث لذرِّيتك من بعدك.
          ({تَبُوءَ}: تَحْمِلَ) أشار به في قصَّة قابيل بن آدم ◙ إلى قول هابيل لقابيل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة:29] ثمَّ فسر {تَبُوءَ} بقوله: «تحمل». قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة:29]: أي: تحمل إثمي وإثمك، قال: وله تفسيرٌ آخر {تَبُوءَ}؛ أي: تُقرَّ، وليس مرادًا هنا.
          وروى ابن المنذر عن موسى: حدثنا أبو بكر: حدثنا شبابة، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد كذلك. وعن ابن عبَّاس ☻ وقَتَادة ومجاهد؛ أي: بإثم قتلي وإثمك الَّذي عملته من قبل ذلك.وقال ابن جرير: قال آخرون: معنى ذلك إنِّي أُريد أن تبوء بإثمي؛ أي: بخطيئتي فتحمل أوزارها وإثمك في قتلك إيَّاي، وقال: هذا قولٌ وجدته عن مجاهدٍ، وأخشى أن يكون غلطًا؛ لأنَّ الرِّواية الصَّحيحة عنه خلاف هذا.
          روى سفيان الثَّوري عن منصور / عن مجاهدٍ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي} [المائدة:29] قال: بقتلك إيَّاي وإثمك، قال: بما كان قبل ذلك، وما روي: ما ترك القاتل على المقتول من ذنبٍ، فقال الحفاظ: هذا الحديث لا أصل له. فإن قيل: روى البزَّار بإسناده من حديث عروة بن الزُّبير عن عائشة ♦ قالت: قال رسول الله صلعم : ((قتل الصَّبر لا يمرُّ بذنبٍ إلَّا محاه)). فالجواب: أنَّه إن صحَّ فمعناه أنَّ الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأمَّا أن يحمل على القاتل فلا. ويحتمل أن يكون معناه: ذلك إذا لم يكن للقاتل حسناتٌ يوفى منها المقتول، والله تعالى أعلم.
          ({دَائِرَةٌ}: دَوْلَةٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] ثمَّ فسَّرها بقوله: «دولة»، وهكذا فسَّره السُّدِّي، رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن أحمد بن مُفَضَّل: حدثنا أسباط عن السُّدِّي، به. (وَقَالَ غَيْرُهُ) قال صاحب «التوضيح»: لعلَّه _يعني: لعلَّ البُخاري_ يعني بالغير من فسَّر ما قبله، وقد نقلناه عن قَتَادة، انتهى، وتعقَّبه العيني بأنَّ قَتَادة لم يذكر صريحًا فيما قبله حتَّى يرجع الضَّمير إليه، ولا ذكر فيما قبله ما يصلحُ أن يرجعَ إليه الضمير.
          وقد سقط قوله: <وقال غيره> من رواية النَّسفي وكأنَّه أصوب. وكذا سقط في بعض النُّسخ، ويحتمل أن يكون هنا شيءٌ سقط من النُّسَّاخ، وفي رواية الإسماعيلي عن الفربري بالإجازة: <وقال ابن عبَّاس ☻ : مخمصة: مجاعة، وقال غيره... إلى آخره> أي: قال غير ابن عبَّاس ☻ ، وهذا أوجه، وتفسير المخمصة وقع في النُّسخ الأخرى بعد هذا، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ ، وكذا فسَّره أبو عبيدة.
          والحاصل أنَّ التَّقديم والتَّأخير في وضع هذه التَّفاسير وقع من نساخ كتاب البُخاري، وقد وقع ذلك في مواضع كثيرة.
          (الإِغْرَاءُ: التَّسْلِيطُ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] وفسَّر الإغراء بالتسليط، وهو تفسيرٌ باللازم؛ لأنَّ حقيقة الإغراء كما قال أبو عبيدة: التَّهييج للإفساد، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق مجاهدٍ في قوله: {فَأَغْرَيْنَا} قال: ألقينا.
          وقال الزَّمخشري: {فَأَغْرَيْنَا} ألصقنا وألزمنا، من غرى بالشَّيء: / إذا لزمه ولصق به، وأغراه به غيره، ومنه الغراء الَّذي يلصق به.
          ({أُجُورَهُنَّ}: مُهُورَهُنَّ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة:5] وفسَّر الأجور بالمهور، وهكذا روي عن ابن عبَّاس ☻ رواه ابنُ المنذر عن غيلان: حدثنا أبو صالحٍ: حدَّثني معاوية عن علي بن أبي طلحة عنه ☻ ، وكذا فسَّره أبو عبيدة.
          (الْمُهَيْمِنُ: الأمِينُ، الْقُرْآنُ أمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] وفسَّره بقوله: «الأمين». وقال في «فضائل القرآن»: قال ابن عبَّاس ☻ : المهيمن: الأمين. وأورد ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: القرآن أمين على كلِّ كتابٍ كان قبله.
          وروى عبد بن حميد: حدَّثنا سلميان بن داود عن شعبة عن أبي إسحاق: سمعت أربدة التَّميمي عن ابن عبَّاس ☻ قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: مؤتمنًا عليه.
          وقال الخطابي: أصله مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء؛ لأنَّ الهاء أخف من الهمزة، وهو على وزن مسيطر ومبيطر. وقال ابن قتيبة وتبعه جماعةٌ: مهيمن مفيعل؛ يعني: بالتَّصغير من أيمن قلبت همزته هاء. وقد أنكر ذلك ثعلب فبالغ حتَّى نسب قائله إلى الكفر؛ لأنَّ المهيمن من الأسماء الحسنى، وأسماء الله تعالى لا تُصَغَّر، والحقُّ أنَّه أصلٌ بنفسه ليس مبدلًا من شيء، وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب، يُقال: هيمن فلان على فلان: إذا صار رقيبًا عليه فهو مهيمن.
          وقال أبو عبيدة: لم يجيء في كلام العرب على هذا البناء إلَّا أربعة ألفاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر. وقال الأزهري: المهيمن من صفات الله تعالى. وقال بعض المفسِّرين: المهيمن: الشَّهيد والشَّاهد، وقيل: الرَّقيب، وقيل: الحفيظ، والكلُّ متقاربٌ، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ) وفي الفرع: <وقال> بالواو (سُفْيَانُ) هو الثَّوري (مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]) / وإنَّما كان أشدَّ عليه لما فيه من تكلُّف العلم بأحكام التَّوراة والإنجيل والعمل بها، ومن أخلَّ بشيءٍ منها فقد أخلَّ بالجميع، ومقتضاه أنَّ من أخلَّ ببعض القرآن فقد أخلَّ بالجميع، ولأجل ذلك أطلق كونها أشدَّ من غيرها، ثُمَّ أوَّل الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: من الدِّين {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} أي: حتَّى تؤمنوا بجميع ما في أيديكم من الكتب المنزلة من الله تعالى على الأنبياء وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد صلعم والإيمان ببعثتهِ، والاقتداء بشريعته.
          وروى ابنُ أبي حاتم: أنَّ الآية نزلت في سببٍ خاصٍّ، فأخرج بإسنادٍ حسنٍ من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس ☻ قال: جاء مالك بن الصَّيف في جماعةٍ من الأحبار، فقال: يا محمد، ألست تزعم أنَّك على ملَّة إبراهيم، وتؤمن بما في التَّوراة وتشهد أنَّها حقٌّ، قال: بلى، ولكنَّكم كتمتُم منها ما أُمرتم ببيانه، فأنا أبرأ ممَّا أحدثتموه، قالوا: إنَّا نتمسَّك بما في أيدينا من الهدى والحقِّ، ولا نؤمنُ بك، ولا بما جئت به، فأنزل الله هذه الآية.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بما أُنزلَ إليكم من ربِّكم: القرآن، ويؤيِّد هذا التَّفسير قوله تعالى في الآية التي قبلها: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا} إلى قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} [المائدة:66]. ووقع في بعض النسخ هنا: <{مَخْمَصَةٌ}: مجاعة>؛ أي: قال ابن عبَّاس ☻ في تفسير {مَخْمَصَةٌ}: مجاعة.
          ({مَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة:32]: يَعْنِي مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقٍّ، حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعًا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وفسَّره بقوله: «يعني... إلى آخره». ووصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ . وقال مجاهد: من لم يقتل أحدًا فقد أحيى (4) النَّاس منه، وعنه في رواية: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: أنجاها من غرقٍ أو حرقٍ أو هلكة.
          ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]: سَبِيلًا وَسُنَّةً)أشار به إلى قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] وفسَّر: {شِرْعَةً} بقوله: سبيلًا {وَمِنْهَاجًا} / بقوله: سنَّة، وتقدم في الإيمان.
          وقال أبو عبيدة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أي سنة {وَمِنْهَاجًا} أي: سبيلًا بيِّنًا واضحًا. وقال الكرماني: الشِّرعة: السُّنَّة، والمنهاج: السَّبيل، فهو لفٌّ ونشرٌ غير مرتَّب.
          وتعقَّبه العينيُّ بأنَّه روى ابن أبي حاتم بما فيه لفٌّ ونشرٌ مرتَّبٌ مثل ظاهر تفسير البُخاري حيث قال: سبيلًا وسنَّةً، فقوله: «سبيلًا» تفسير {شِرْعةً}، وقوله: {مِنْهَاجًا} تفسيره قوله: «وسنة» (5)، وذلك حيث قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيدٍ الأشج: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن التَّميمي عن ابن عبَّاس ☻ : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} [المائدة:48] قال: سبيلًا.
          وحدَّثنا أبو سعيد: حدثنا وكيع، عن سفيان عن أبي إسحاق عن التَّميمي عن ابن عبَّاس ☻ : {وَمِنْهَاجًا}: سنة. وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقَتَادة والضَّحَّاك والسُّدِّي وأبي إسحاق السَّبيعي أنَّهم قالوا: في قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي: سبيلًا وسنَّة، وهذا كما هو لفظ البُخاري، وفيه لفٌّ ونشرٌ مرتَّبٌ.
          وقال ابن كثير: وعن ابن عبَّاس ☻ أيضًا وعطاء الخراساني: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي: سنَّة وسبيلًا، ثمَّ قال: والأوَّل أنسب، فإنَّ الشِّرعة وهي الشَّريعة أيضًا وهي ما يُبتدأ فيه إلى الشَّيء، ومنه يُقال: شرع في كذا؛ أي: ابتدأ، أو هي ما يشرعُ فيها إلى الماء، وأمَّا المنهاجُ فهو الطَّريق الواضح السَّهل، وتفسير قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بالسَّبيل والسُّنَّة أظهرُ في المناسبة من العكس، وقد سقطَ قوله: <قال سفيان...> إلى هنا في روايةٍ غير أبي ذرٍّ وأبي الوقت.
          ({عُثِرَ} ظَهَرَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة:107] وفسَّر: {عُثِرَ} بقوله: «ظهر». قال المفسِّرون: أي: فإن اشتهر وظهرَ وتحقق من الشَّاهدين الوصيين على أنَّهما خانا أو غلا شيئًا من المال الموصى به إليهما، فظهرَ عليهما بذلك ({فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا}). وتوضيح ذلك يظهرُ من تفسير الآية التي هذه اللَّفظة فيها، وما قبلها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:106-108].
          ({الْأَوْلَيَانِ} / وَاحِدُهَا أَولَى) أشار به إلى قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة:107]، وأشار إلى أنَّ {الْأَوْلَيَانِ} تثنية أَولى، وهو مرفوعٌ بقوله: {اسْتَحَقَّ} أي: من الَّذين استحقَّ عليهم انتدابُ الأوليين منهم للشَّهادة، وقرئ: ((الأولين)) على أنَّه وصف للَّذين، وقُرئ: ((الأولين)) على التَّثنية، وانتصابه على المدحِ، وقرأ الحسن: ((الأوَّلان)) وهذا ثابتٌ في بعض النُّسخ ساقطٌ في الفرع وأصله بل أكثر هذه الألفاظ المذكورة هنا لم تقع في كثيرٍ من النُّسخ، وفي النُّسخ التي وقعت فيها وقعت بالتَّقديم والتَّأخير.


[1] كذا وفي العمدة والصحاح عليه.
[2] كذا في العمدة، والصواب: أبو عبيد كما هو في كتب التفسير، وفضائل القرآن للقاسم بن سلام أبي عبيد.
[3] كذا في العمدة، وفي فضائل القرآن (فانصدع كتفها).
[4] كذا في العمدة، وفي الطبري (استراح).
[5] في هامش الأصل: وقوله وسنة تفسير قوله منهاجًا نسخة.