نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الدعوات

          ░░80▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابُ الدَّعَوَاتِ) بفتح المهملتين، جمع دَعوة _بفتح أوله_، وهو مصدرٌ يُراد به الدُّعاء، يقال: دعوت الله؛ أي: سألته، والدُّعاء واحد الأدعية، وأصله: دعا، ولأنَّه من دعوت إلَّا أنَّ الواو لمَّا جاءت بعد الألف هُمِزت، والدُّعاء إلى الشَّيء: الحثُّ على فعله، ودعوت فلاناً: سألته، ودعوتُه: استعنته، ويطلق أيضاً على رِفْعَةُ القَدْرِ كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنيا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ} [غافر:43] كذا قال الرَّاغب.
          ويمكن ردُّه إلى الَّذي قبله، ويطلق الدُّعاء أيضاً على العبادة، والدَّعوى بالقصر: الدُّعاء، كما في قوله تعالى: {وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ} [يونس:10]، والادِّعاء كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} [الأعراف:5]، ويطلق الدُّعاء أيضاً على التَّسمية كقوله ╡: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63].
          وقال الرَّاغب: الدُّعاء والنِّداء واحدٌ، لكن قد يتجرَّد النِّداء عن الاسم والدُّعاء لا يكاد يتجرَّد، وقال الشَّيخ أبو القاسم القُشيري في «شرح الأسماء الحسنى» ما ملخصه: جاء الدُّعاء في القرآن على وجوهٍ منها العبادة: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس:106]، ومنها الاستعانة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23] ومنها السُّؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] الآية، ومنها القول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10]، والنِّداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإسراء:52]، والثَّناء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110].
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على ((الدَّعوات))، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقول الله تعالى> ({ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] الآية) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وساق غيره إلى قوله: {دَاخِرِينَ} هكذا: <{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}> {ادعوني}: أي: وحِّدوني واعبدوني دون غيري أجبكُم / وأغفرْ لكم وأثبكُم، قاله أكثر المفسِّرين، دليلُه سياقُ الآية، ويقال: هو الدُّعاء والذِّكر والسُّؤال عن عبادتي؛ أي: توحيدِي وطَاعتي. وقال السُّدي: أي: دُعائي. {داخرين} أي: صاغرين أذلَّاء، وظاهر هذه الآية ترجيحُ الدُّعاء على التَّفويض، وقالت طائفةٌ: الأفضل ترك الدُّعاء والاستسلام للقضاء.
          وأجابوا عن الآية: بأنَّ آخرها دلَّ على أنَّ المراد بالدُّعاء العبادة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]. واستدلُّوا بحديث النُّعمان بن بشير عن النَّبي صلعم قال: ((الدُّعاء هو العبادة ثمَّ قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية)) أخرجه الأربعة، وصحَّحه التِّرمذي والحاكم، وأخرجه أحمد أيضاً.
          وشذَّت طائفةٌ فقالوا: المراد بالدُّعاء في الآية: ترك الذُّنوب.
          وأجاب الجمهور: بأنَّ الدُّعاء من أشرفِ أنواع الطَّاعات، وأعظم العبادات، فأمرَ تعالى به فضلاً وكرماً، وتكفَّل لهم بالإجابة، فهو كالحديث الآخر: ((الحجُّ عرفة)) أي: معظم الحجِّ، وركنه الأكبر.
          ويؤيِّده: ما أخرجه التِّرمذي من حديث أنسٍ ☺ رفعه: ((الدُّعاء مخُّ العبادة))، وقد تواترت الآثار عن النَّبي صلعم بالتَّرغيب في الدُّعاء، والحثِّ عليه كحديث أبي هريرة ☺ رفعه: ((ليس شيءٌ أكرمُ على الله من الدُّعاء))، أخرجه التِّرمذي وابنُ ماجه، وصحَّحه ابن حبَّان، والحاكم وحديثه رفعه: ((من لم يسألِ الله يغضب عليه))، أخرجه أحمد والتِّرمذي وابن ماجه والبخاري في «الأدب المفرد» والبزَّار والحاكم كلُّهم من رواية أبي صالح الخُوْزي _بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي_ عنه، وهذا الخوزي مختلف فيه، ضعفه ابن معين، وقوَّاه أبو زرعة.
          وقال الطِّيبي: معنى الحديث: أنَّ من لم يسألِ الله يبغضه، والمبغوض: مغضوبٌ عليه، والله يحبُّ أن يسألَ. انتهى.
          ويؤيِّده: حديث ابن مسعودٍ ☺ رفعه: ((سلوا الله من فضلهِ فإنَّ الله يحبُّ أن يُسأل))، أخرجه التِّرمذي. وله من حديث ابن عمر ☻ رفعه: ((إنَّ الدُّعاء / ينفعُ ممَّا نزل وممَّا لم ينزل، فعليكم عبادَ الله بالدُّعاء))، وفي سنده لينٌ، وقد صحَّحه مع ذلك الحاكم، وأخرج الطَّبراني في «الدُّعاء» بسندٍ رجاله ثقاتٌ، إلَّا أنَّ فيه عنعنة بقيَّة، عن عائشة ♦ مرفوعاً: ((إنَّ الله يحبُّ الملحين في الدُّعاء)). وعن سفيان الثَّوري فيما رواه ابنُ أبي حاتم أنَّه كان يقول: يا من أحبُّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغضُ عباده إليه من لم يسأله، وليس أحدٌ كذلك غيرك يا رب. وفي معناه قال القائل:
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ                     وَتَرَى ابْنَ آدَمَ حِيْنَ يَسْأَلُ يَغْضَبُ
          وقيل: المراد بقوله: {ادعوني}: العبادة، بدليل قوله بعد: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، والدُّعاء بمعنى العبادة في القرآن كثير، كقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} [النساء:117]، وقد سبق أيضاً، وأجابوا عن ذلك: بأنَّ هذا تركٌ للظَّاهر فلا يصار إليه إلَّا بدليل، فتأمَّل.
          وقال الشَّيخ تقي الدِّين السُّبكي: الأولى: حمل الدُّعاء في الآية على ظاهره، وأمَّا قوله بعد ذلك: {عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فوجه الرَّبط: أنَّ الدُّعاء أخصُّ من العبادة، فمن استكبرَ عن العبادة استكبر عن الدُّعاء، وعلى هذا فالوعيد إنَّما هو في حقِّ من ترك الدُّعاء استكباراً، ومن فعل ذلك كفر. انتهى.
          وأمَّا تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجَّه إليه الوعيد المذكور، وإن كنَّا نرى أنَّ ملازمة الدُّعاء، والاستكثار منه أرجحُ من التَّرك؛ لكثرة الأدلَّة الواردة في الحثِّ عليه، وقد دلَّت الآية الآتية قريباً في السُّورة المذكورة: أنَّ الإجابة مشترطةٌ بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65].
          وقال الطِّيبي: معنى حديث النُّعمان أن يحمل العبادة على المعنى اللُّغوي، إذ الدُّعاء هو إظهار غاية التَّذلل والافتقار إلى الله تعالى، والاستكانة له، وما شرعت العبادة إلَّا للخضوعِ للباري، وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]. حيث عبَّر عن عدم التَّذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع ({عبادتي}) في موضعِ ((دعائي))، وجعل جزاءَ ذلك الاستكبار الصَّغَارُ والهوان.
          وحكى القشيري في «الرسالة»: الخلاف في المسألة فقال: اختلف أيُّ الأمرين أولى: الدُّعاء، أو السُّكوت والرِّضا، فقيل: الدُّعاء وهو الَّذي ينبغي ترجيحه؛ لكثرة الأدلَّة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار، وقيل: السُّكوت والرِّضا أولى لما في التَّسليم / من الفضل.
          قال الحافظُ العسقلاني: وشبهتهم: أنَّ الدَّاعي لا يعرف ما قُدِّر له، فدعاؤه إن كان على وفق القدر فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندةٌ. والجواب عن الأول: أنَّ الدُّعاء من جملة العبادة؛ لما فيه من الخضوعِ والافتقار.
          وعن الثَّاني: أنَّه إذا اعتقد أنَّه لا يقع إلَّا ما قدَّر الله تعالى كان إذعاناً لا معاندةً، وفائدة الدُّعاء تحصيل الثَّواب بامتثال الأمر؛ لاحتمال أن يكون المدعو به موقوفاً على الدُّعاء؛ لأنَّ الله خلق الأسباب ومسبِّباتها.
          قال: وقالت طائفةٌ: ينبغي أن يكون داعياً بلسانه راضياً بقلبه، قال: والأولى أن يقال: إذا وجدَ في قلبه إشارة إلى الدُّعاء، فالدُّعاء أفضلُ وبالعكس.
          قال الحافظ العسقلاني: القول الأوَّل أعلى المقامات أن يدعوَ بلسانه، ويرضَى بقلبه، والثَّاني لا يتأتَّى من كلِّ أحدٍ، بل ينبغي أن يختصَّ به الكَمَلة.
          وقال القشيري: ويصحُّ أن يُقال: ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيبٌ، فالدُّعاء أفضل، وما كان للنَّفس فيه حظٌّ، فالسُّكوت أفضل. وعبَّر ابن بطَّال عن هذا القول لمَّا حكاه بقوله: يستحبُّ أن يدعو لغيره، ويترك لنفسه، وعمدة من أوَّل الدُّعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41]، وإنَّ كثيراً من النَّاس يدعو، فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلَّف.
          والجواب عن ذلك: أنَّ كلَّ داعٍ يستجابُ له، لكن تتنوَّع الإجابة، فتارةً تقعُ بعين ما دعا به، وتارةً بعوضه، وقد وردَ في ذلك حديثٌ صحيحٌ أخرجه التِّرمذي والحاكم من حديث عُبادة بن الصَّامت ☺ رفعه: ((ما على الأرض مسلمٌ يدعو بدعوةٍ إلَّا آتاها الله إيَّاها، أو صرف عنه من السُّوء مثلها)). ولأحمد من حديث أبي سعيدٍ رفعه: ((ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلَّا أعطاهُ الله بها إحدى ثلاث، إمَّا أن يعجلَ له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السُّوء مثلها))، وصحَّحه الحاكم.
          وهذا شرطٌ ثانٍ للإجابة، ولها شروطٌ أخرى منها: أن يكون طيِّب المطعم والملبس؛ لحديث: ((فأنى يستجاب / لذلك)).
          وسيأتي بعد عشرين باباً من حديث أبي هريرة ☺، ومنها: أن لا يستعجل لحديث: ((فيستجاب لأحدكُم ما لم يقل: دعوتُ فلم يستجب لي)) [خ¦6340] أخرجه مالكٌ.
          ثمَّ في قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] إشارة إلى أنَّ من دعا الله، وفي قلبه ذرَّة من الاعتماد على مالهِ أو جاههِ أو أصدقائهِ أو اجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلَّا باللسان، وأمَّا القلب فهو يعوِّل في تحصيلِ ذلك المطلوب على غيرِ الله تعالى، أمَّا إذا دعا في وقتٍ لا يكون القلب فيه ملتفتاً إلى غير الله تعالى، فالظَّاهر أنَّه يستجابُ.
          فإن استشكلَ حديث: ((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السَّائلين)) المقتضي لأفضليَّة ترك الدُّعاء حينئذٍ مع الآية المقتضية للوعيد الشَّديد على تركه. أجيب: بأنَّ العقل إذا كان مستغرقاً في الثَّناء كان أفضل من الدُّعاء؛ لأنَّ الدُّعاء طلب الجنَّة، والاستغراق في معرفة جلالِ الله أفضل من الجنَّة، أمَّا إذا لم يحصل الاستغراق كان الاشتغالُ بالدُّعاء أولى؛ لأنَّ الدُّعاء يشتملُ على معرفة الرُّبوبية، وذلِّ العبوديَّة، والله تعالى أكرمَ مسؤول.
          والصَّحيح: استحباب الدُّعاء، ورجَّح بعضُهم تركه استسلاماً للقضاء، وقيل: إن دعا لغيره فحسن، وإن خصَّ نفسه فلا، وقيل: إن وجدَ في نفسه باعثاً للدُّعاء استحبَّ، وإلَّا فلا.