نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة النور

          ░░░24▒▒▒ (سُورَةُ النُّورِ) قال أبو العبَّاس ومقاتل وابن الزُّبير وابن عبَّاس ♥ في آخرين: مدنيَّة كلها لم يُذكر فيها اختلاف، وهي أربع أو اثنتان وستون آية، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وخمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفًا.
          (╖) ثبتت البسملة في رواية أبي ذرٍّ، وفي بعض النُّسخ وقعت مقدَّمة على السُّورة ({مِنْ خِلاَلِهِ} مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور:43] وفسَّره بقوله: «من بين أضعاف السَّحاب»، وهو قولُ أبي عبيدة ولفظه: من أضعاف أو بين مزيدة، فإنَّ المعنى ظاهر بأحدهما، والخلالُ جمع: خلل وهو الوسطُ، ويُقال: الخللُ موضع المطرِ، والودق المطر، وروى الطَّبري من طريق ابن عبَّاس ☻ أنه قرأ: ((يخرج من خَلَله))، قال هارون _أحد رواته_: فذكرته لأبي عَمرو فقال: إنَّها لحسنة، ولكن {خِلاَلِهِ} أعم.
          ({سَنَا بَرْقِهِ} الضِّيَاءُ) ويُروى: <وهو الضِّياء> وهو لأبي ذرٍّ، أشار به إلى قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور:43] وفسَّر {سَنَا} بقوله: «الضِّياء».
          قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} مقصورًا؛ أي: ضياء برقهِ، والسَّناء ممدود في الحسب، وروى الطَّبري من طريق ابن عبَّاس ☻ في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يقول: ضوءُ برقه، ومن طريق قتادة قال: لمعانُ البرق، وفي التَّفسير: أي: يكاد ضوء برقِ السَّحاب يذهب بالأبصار من شدَّة ضَوئه وبرقهِ، يُقال: سَنَا يَسْنو سَنًا؛ أي: أضاءَ يُضيء، قال امرؤ القيس:
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ
          والسَّناء _بالمدِّ_: الرفعة:، / والمعنى هنا: يكادُ ضوءُ برق السَّحاب يذهبُ بالأبصار من شدَّة ضَوْئه، والبرق الذي صفتُه ذلك لا بدَّ وأن يكون نارًا عظيمة خالصة والنَّار ضدُّ الماء والبرد، فظهورُهُ يقتضِي ظهورُ الضِّدِّ من الضِّد، وذلك لا يمكن إلَّا بقدرة قادرٍ حكيم.
          ({مُذْعِنِينَ}: يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] وأشار بقوله: يُقال...إلى آخره أنَّ معنى {مُذْعِنِينَ}: مُستخذين، من استخذَى _بالخاء والذال المعجمتين_؛ أي: خضع، قاله الكرماني. وقال الجوهريُّ: يقال: خَذَت النَّاقة تَخْذِي؛ أي: أسرعت، مثل: وخذت وخوذت كلُّه بمعنى، وقال أيضًا: خَذَا الشيءُ يَخْذو خَذْوًا: استرخَى، وخَذِي _بالكسر_ مثله. وأمَّا المذعنُ من الإذعانِ، وهو الإسراعُ في الطَّاعة، قال الزَّجَّاج: أذعنَ لي بحقِّي؛ أي: طَاوَعني لما كنت ألتمسُ منه، وصارَ يسرعُ إليه. والمعنى هنا: إذا كان لهم الحكم لا عليهم يأتوا إليه منقادين لعلمهم بأنَّه يحكم لهم، وما ذكره البخاريُّ هو قول أبي عبيدة، وروى الطَّبري من طريق مجاهد في قوله: {مُذْعِنِينَ} قال: سراعًا.
          ({أَشْتَاتًا}: وَشَتَّى وَشَتَاتٌ) بفتح الشين وتخفيف التاء (وَشَتٌّ) بتشديدها (وَاحِدٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61] وقوله: {أَشْتَاتًا} في محلِّ الرفع على الابتداء، وقوله: «وشتَّى وشَتَات وشتٌّ» عطفٌ عليه، وقوله: «واحدٌ»؛ أي: في المعنى خبر المبتدأ، وهذا هو قولُ أبي عُبَيدة بلفظهِ، وقال غيره: والأشتاتُ جمع، والشَّت مفردٌ، ومعنى {أَشْتَاتًا}: متفرِّقين، ولفظ {جَمِيعًا} في الآية حال من فاعل { تَأْكُلُوا } و{أَشْتَاتًا} عطف عليه، والأكثرون على أنَّ الآية نزلت في بني ليث بن عَمرو حيٌّ من كنانة كانوا يتحرَّجون أن يأكل الرَّجل وحدَه، فيمكث يومه حتَّى يجد ضيفًا يأكلُ معه، فإن لم يجد من يُؤاكله لم يأكلْ شيئًا، وربَّما قعد الرَّجل والطَّعام بين يديه من الصَّباح إلى الرَّواح، فنزلت هذه الآية، فرخَّص لهم في أن يأكلوا كيف شاؤوا مجتمعين أو أشتاتًا متفرِّقين.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} بَيَّنَّاهَا) قال الزَّركشي تبعًا للقاضي عياض: كذا في النُّسخ، والصواب: {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}: بيَّناها، فقوله: «بيَّناها»، تفسير فرضناها / لا تفسير: {أَنْزَلْنَاهَا}، ويدلُّ عليه قوله بعد هذا، ويُقال في فرضناها: أنزلنا فيها فرائض مختلفة، فإنَّه يدلُّ على أنَّه تقدَّم له تفسير آخر، انتهى. وتعقَّب الزَّركشي صاحب «المصابيح» فقال: يا عجبًا لهذا الرَّجل وتقويلهِ لابن عبَّاس ☻ مالم يقلْه، فالبخاريُّ نقل عن ابن عبَّاس ☻ تفسير: {أَنْزَلْنَاهَا} بيَّناها، وهو نقلٌ صحيحٌ ذكره الحافظ مُغلطاي من طريق ابنِ المنذر بسندهِ إلى ابن عبَّاس ☻ ، فما هذا الاعتراض البارد، انتهى.
          وقد روى الطَّبراني من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} يقول: بيَّناها، وهو يؤيِّد قول القاضي عياض على ما ذكره الحافظ العسقلاني.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ (سُمِّيَ الْقُرْآنُ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ، وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ لأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنَ الأُخْرَى، فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ) أي: المجموع (قُرْآنًا) وهذا قول أبي عبيدة، قاله في أوَّل المجاز، وفي رواية أبي جعفر الصَّادري عنه(1) : سمِّي القرآن لجماعة السُّور، فذكره مثله سواء، قوله: «لجَماعَة السُّور» _بفتح الجيم والعين وتاء التأنيث_، والسُّور مجرورٌ بالإضافة، وجوَّز الكرماني أن يقرأ هذه اللَّفظة بفتح الجيم وآخره تاء تأنيث بمعنى الجمع، وأن تقرأَ بكسر الجيم وآخره ضمير يعود إلى القرآن، والسُّور على هذا منصوب مفعول لجماعة. وقوله: «وسُميت السُّورة لأنها مقطوعة»؛ أي: منزلة بعد منزلة، والجمع: سوَر _بفتح الواو_ وفيها لغتان الهمز وتركه، فبتركه هي المنزلة من منازل الارتفاع، ومن ثمَّة سُمِّي سور البلد؛ لارتفاعه على ما يحويه، ومنه قول النابغة:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُوْرَةً                     تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُوْنَهَا يَتَذَبْذَبُ
          يعني: منزلة من منازل الشَّرف التي قصُرت عنها منازل الملوك، فسمِّيت السُّورة لارتفاعها وعلوِّ قدرها، وبالهمز القطعة التي فصِّلت من القرآن عمَّا سواها، وأبقيت منه؛ لأنَّ سؤر كلِّ شيءٍ بقيَّته بعد ما يؤخذُ منه.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]: تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]: فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ؛ أَيْ: مَا جُمِعَ فِيهِ، فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ) أي: الله فيه (وَانْتَهِ عَمَّا نَهَاكَ اللَّهُ) وقد ثبت لفظة الجلالة هنا في رواية غير أبي ذرٍّ (وَيُقَالُ: لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ؛ أَيْ: تَأْلِيفٌ، / وَسُمِّيَ: الْفُرْقَانَ) بالنصب (لأَنَّهُ يُفَرِّقُ) بضم التحتية وفتح الفاء وكسر الراء المشددة (بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًا قَطُّ) بفتح السين المهملة واللام مقصورًا، وهي الجلدةُ الرَّقيقة التي يكون فيها الولد (أَيْ: لَمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا) والحاصل: أن القرآن عنده مشتقٌّ من قرأَ بمعنى: جمع، لا من قرأ، بمعنى: تلاها.
          (وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عِيَاضٍ الثُّمَالِيُّ) بضم المثلثة وتخفيف الميم، نسبة إلى ثُمَالة في الأزد وفي ألهان وفي تميم، والذي في الأزد ثمالة هو: عوفُ بن أسلم بن كعب، والذي في ألهان: ثمالة بن ألهان، والذي في تميم: ثمالة هو عبد الله بن حرام بن مجاشع بن دارم، وسعد بن عياض هذا من التَّابعين من أصحاب ابن مسعود ☺. وقال ابنُ عبد البرِّ: حديثه مرسل، ولا يصحُّ له صحبة (الْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ) ثمَّ عُرِّب، وصله ابنُ شاهين من طريقه، وقد روى الطَّبري من طريق كعب الأحبار قال: المشكاة: الكُوَّة، والكُوَّة _بضم الكاف وفتحها وتشديد الواو_ وهي الطَّاقةُ للضوءِ.
          وقال الواحديُّ: وهي عند الجميع غير نافذة، وقيل: المشكاة التي تعلَّق بها القنديل يدخلُ فيها الفتيل، رواه الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله:{كَمِشْكَاةٍ} قال: يعني الكُوَّة، وقيل: المشكاةُ: الوعاء من أدم يبرَّد فيها الماء، وعن مجاهد: هي القنديلُ، وقيل: هي الأنبوبةُ في وسط القنديل، وعن أبيِّ بن كعب ☺: المشكاة صدرُهُ، والمصباح: الإيمانُ والقرآن، والزُّجاجة قلبُه، والشَّجرة المباركة الإخلاصُ.
          (وَقَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <ويُقال> (فِي ((فَرَّضْنَاهَا))) وفي نسخة سقط لفظة: <في> (أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً) يعني: بالتشديد؛ لتكثير المفروض، وقيل: للمبالغة في الإيجاب، وهي قراءة ابن كثير وأبي عَمرو (وَمَنْ قَرَأَ: {فَرَضْنَاهَا}) بالتخفيف، وهي قراءة الباقين (يَقُولُ: فَرَضْنَا) بإسقاط الضمير (عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ) أي: أوجبنا عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام السَّاعة، والسُّورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلتْ في الوجود، وتحصيلُ الحاصل محالٌ، فوجب أن يكون المرادُ ما بين فيها من الأحكام، وقال الفرَّاء: من قرأ {فَرَضْنَاهَا} يقول: فرضنا فيها فرائض مختلفة، ومن قرأ ((فرَّضناها)) _يعني: بالتشديد_: فرضنا عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، قال: فالتشديد لهذين الوجهين حسنٌ، وقال أبو عبيدة في قوله: ((فرَّضناها)): حدَّدنا فيها / الحلال والحرام، و{فَرَضْنَاهَا} من الفريضة، وفي رواية له: ومن خفَّفها جعلها من الفريضة.
          (قَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال> بالواو (مُجَاهِدٌ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا}: لَمْ يَدْرُوا، لِمَا بِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ) وفي رواية النَّسفي: <وقال مجاهد: لا يهمه إلَّا بطنه ولا يُخاف على النِّساء> [أي: قال مجاهد في قوله تعالى] {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور:31] ؛ أي: لم يدروا لما بهم من الصِّغر، وصله الطَّبري من طريق ابنِ أبي نَجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور:31] قال: الذي يريدُ الطَّعام، ولا يريدُ النِّساء، ومن وجه آخر عنه قال: الذين لا يهمُّهُم إلَّا بطونهم، ولا يخافون على النِّساء، وفي قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قال: لم يدروا ما هي من الصِّغر قبل الحلمِ، وقال الفرَّاء والزَّجَّاج: لم يبلغوا أن يُطيقوا إتيانَ النِّساء، وقيل: لم يبلغوا حدَّ الشَّهوة، والطِّفل يُطلقُ على الواحد والاثنين والجمع، فلذا وصفَ بالجمع، أو لما قصد به الجنس رُوعي فيه الجمع.
          (وَقَالَ الشَّعْبيُّ: {غَيْرِ أُولِي الإِرْبةِ} [النور:31] مَنْ لَيْسَ لَهْ إِرْبٌ) بكسر الهمزة؛ أي: حاجة النِّساء، وثبت هذا في رواية النَّسفي؛ أي: قال عامر بن شراحيل الشَّعبي في قوله تعالى: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ}: هو من ليس له إرب، وقد وصله الطَّبري من طريق شعبة عن مغيرة عن الشَّعبي مثله، ومن وجه آخر عنه قال: الذي لم يبلغِ أربه أن يطَّلع على عورة النِّساء. وقال الزَّجَّاج أيضًا: وهم الذين يتَّبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم في النِّساء ولا يشتهونهنَّ، وقيل: هم الشُّيوخ الهِمّ، وقال ابن جُبير: المعتوه، وقد قال ابنُ عبَّاس ☻ : المغفَّل الذي لا شهوة له، وقال مجاهد: المخنَّث الذي لا يقوم ذكره.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الأَحْمَقُ الَّذي لا حاجَةَ لَهُ فِي النِّساء) وصله عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله، وفي «تفسير النَّسفي»: وقيل: هذا التَّابع هو الأحمقُ الذي لا تشتهيه المرأةُ، ولا يغارُ عليه الرَّجل، وقيل: هو الأبلَهُ الذي يُريد الطَّعام، ولا يُريدُ النِّساء، وقيل: العنِّين، وقيل: الشَّيخ الفاني، وقيل: المجبوب. وقال الزَّجَّاج: لفظ ((غير)) صفة للتَّابعين، وثبت هذا أيضًا في رواية النَّسفي، وسقط في رواية غيره. /


[1] كذا وفي الفتح.