نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة الرعد

          ░░░13▒▒▒ (سُوْرَةُ الرَّعْدِ) هي مكيَّة، وقيل: مدنيَّة، وقيل: فيها مكِّي ومدني، وهي ثلاثة آلاف / وخمسمائة وستة أحرف، وثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وثلاث وأربعون آية (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ وحده (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، وسقطت الواو في <وقال> في رواية غير أبي ذرٍّ ({كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا غَيْرَهُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلهًا آخر غيره> (كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى خَيَالِهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلى ظلِّ خياله> (فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلاَ يَقْدِرُ) ويُروى: <فلا يقدر> بالفاء؛ أي: عليه هكذا وقع في رواية الأكثر: <فلا يقدر> وحكى القاضي عياض في رواية غير القابسي: <فلا يقدم> بالميم بدل الراء، وهو تصحيفٌ، وإن كان له وجه من حيث المعنى. أشار به إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد:14] الآية. وقد وصله ابنُ أبي حاتم وابن جرير من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ ، فذكر مثله، وقال في آخره: فلا يقدر عليه {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} أي: المشركون الأصنام، وهو مفعول يدعون محذوف {مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله يريدون منها جلب نفعٍ أو دفع ضرٍّ {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ} أي: لا يستجيب الأصنام لهم، وعاد ضمير العقلاء إليها؛ لمعاملتهم إياه معاملتهم {بِشَيْءٍ} من جلب نفعٍ أو دفع ضرٍّ {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} أي: إلَّا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفَّيه إليه يطلبُ منه أن يبلغَ فاه {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} فإنَّ الماء جماد لا يشعر ببسط كفَّيه ولا بعطشهِ، ولا يقدر أن يجيبَه ويبلغ فاه، فوجه التَّشبيه عدم قدرة المدعو على تحصيلِ مراده، بل عدم العلم بحال الدَّاعي.
          وروى الطَّبري أيضًا من طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ في هذه الآية قال: مثل الأوثان التي تُعبد من دون الله كمثلِ رجلٍ قد بلغه العطش حتَّى كربه الموت، وكفَّاهُ في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله تعالى: لا تستجيب له الأوثان ولا تنفعه حتَّى يبلغَ كفَّا هذا فاه، / وما هما ببالغتين فاه أبدًا.
          ومن طريق أبي أيُّوب عن عليٍّ ☻ قال: كالرَّجل العطشان يمدُّ يده إلى البئر ليرتفعَ الماء إليه، وما هو بمرتفعٍ. ومن طريق سعيد عن قتادة: الذي يدعو من دون الله إلهًا لا يستجيب له بشيءٍ أبدًا من نفع أو ضر، حتَّى يأتيه الموت، مثله كمثل الذي بسط كفَّيه إلى الماء ليبلغَ فاه، ولا يصل إليه ذلك فيموت عطشًا. ومن طريق مَعمر عن قَتادة نحوه، لكن قال: وليس الماء ببالغ فاهُ ما دام باسطًا كفَّيه لا يقبضهما، وسيأتي قول مجاهد في ذلك فيما بعد، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ ({سَخَّرَ}: ذَلَّلَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الرعد:2] وفسَّر {سَخَّرَ} بقوله: «ذلَّل»، يعني: ذلَّلهما لمنافع خلقه، ومصالح عباده كل يجري إلى وقت معلوم، وهو فناء الدُّنيا وقيام السَّاعة.
          ({مُتَجَاوِرَاتٌ}: مُتَدَانِيَاتٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد:4] وفسَّره بقوله: «متدانيات». وقيل: متقاربات يقربُ بعضُها من بعض بالجوار، وتختلف بالتَّفاضل، يعني: أنَّها متقاربة في الأوضاع مختلفة باعتبار كونها مالحة، وكونها طيِّبة تُنبت، وكونها سبخة لا تُنبت، وكونها رخوة، وكونها صلبة، وكونها صالحة للزَّرع والشَّجر أو لأحدهما، أو غير صالحة بشيءٍ مع أن تأثيرَ الشَّمس وسائر الكواكب فيها على السَّواء، فلم يكن ذلك بسبب الاتصالات الفلكيَّة، والحركات الكوكبيَّة، وكذلك أشجارها وزروعها مختلفة جنسًا ونوعًا وطعمًا وطبعًا مع أنَّها تُسقى بماءٍ واحدٍ، فلا بدَّ من مخصِّص يخصِّص كلاًّ منها بخاصيَّة دون أخرى، وما ذلك إلَّا بإرادة الفاعل المختار.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُتَجَاوِرَاتٌ} طَيِّبُهَا عَذْبُهَا، وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ) روى هذا التَّعليق أبو بكر بن المنذر عن موسى عن أبي بكر عن شَبَابة عن ورقاء عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد. (وَقَالَ غَيْرُهُ: {الْمَثُلاَتُ}: وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ) بفتح الميم وضم المثلثة، كسَمُرة وسَمُرات (وَهْيَ الأَشْبَاهُ وَالأَمْثَالُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} [الرعد:6] أي: وقد مضت من قبلهم من الأمم التي عصت ربَّها، / وكذَّبت رسلها الأشباه والأمثال، ففسَّر المثلات بقوله: «وهي الأشباهُ والأمثال».
          (وَقَالَ: {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} [يونس:102]) هكذا وقع في رواية أبي ذرٍّ مع إسقاط قوله: <وقالَ مجاهد: طَيِّبها عَذْبها وخبيثها السِّباخ>، وفي رواية غيره: <وقالَ غيره: {سَخَّرَ} ذَلّل {مُتَجَاوِرَاتٌ} متدانيات، {الْمَثُلاَتُ} واحدها مثلة...> إلى آخره، فجعل الكل لقائلٍ واحدٍ، وكل هذا كلام أبي عُبيدة قالَ في قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي: ذللَّهما فانطاعا، قالَ: والتنوين في كل بدل من الضَّمير للشَّمس والقمر، وهو مرفوع على الاستئناف فلم يعمل فيه وسخر، وقال في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي: متدانيات متقاربات، وقال في قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} أي: الأمثال والأشباه والنَّظير.
          وروى الطَّبري من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: {الْمَثُلَاتُ} قال: الأمثال، ومن طريق مَعمر عن قتادة قال: {الْمَثُلاَتُ}: العقوبات، ومن طريق زيد بن أسلم قال: {الْمَثُلاَتُ} ما مثَّل الله به من الأمم من العذاب.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : العقوبات المستأصلات كمثلة قطع الأنف والأذن ونحوهما، وسُمِّيت بذلك؛ لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].
          وسَكَّن يحيى بن وثّاب في قراءته المثلثة وضم الميم، وكذا طلحة بن مُصَرِّف، لكن بفتح الميم، وعن الأعمش: فتحهما. وفي رواية عن أبي بكر بن عياش: بضمهما، وبه قرأ عيسى بن عمر.
          ({بِمِقْدَارٍ} بِقَدَرٍ) وهو كلام أبي عُبيدة، وزاد: مفعال، من القدر، وأشار به إلى قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] وفسَّر قوله: {بِمِقْدَارٍ}؛ أي: بحدّ لا يجاوزه، ولا ينقص عنه. وروى الطَّبري من طريق سعيد عن قَتادة: أي: جعل لهم أجلًا معلومًا، والعندية يحتمل أن يكون المراد بها: أنَّه تعالى خصَّص كلَّ حادث بوقت معيَّن، وحالة معيَّنة بمشيئته الأزليَّة، وإرادته السَّرمدية.
          وعند حكماء الإسلام: أنَّه تعالى وضعَ الأشياء كلها، وأودعَ فيها قوى وخواص وحرَّكها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال متعيِّنة، ومناسبات مخصوصة مقدَّرة، ويدخل في هذه الآية أفعال / العباد وأحوالهم وخواطرهم، وهي من أدلِّ الدَّلائل على بطلان قول المعتزلة.
          ({مُعَقِّبَاتٌ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <يُقال: مُعقبات> (مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ، تُعَقِّبُ الأُولَى مِنْهَا الأُخْرَى) أشار به إلى قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وفسَّر قوله: {مُعَقِّبَاتٌ} بقوله: «ملائكة حفظة تُعَقِّب الأولى منها الأخرى» يتعاقبون باللَّيل والنَّهار، فإذا صعدتِ ملائكةُ النَّهار عقبتها ملائكة اللَّيل، وبالعكسِ يحفظون الإنسان في نومه ويقظتهِ من الجنِّ والإنس والهوام من بين يديه ومن خلفه ليلًا ونهارًا.
          وبذلك فسَّر أبو عُبيدة: قال في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: ملائكة تُعَقِّب بعد ملائكة حفظة اللَّيل تُعَقِّب بعد حفظة النَّهار، وحفظة النَّهار تُعَقِّب بعد حفظة اللَّيل، ومنه قولهم: فلان عَقَّبنَي، وقولهم: عَقَّبت في أثره.
          وروى الطَّبري بإسنادٍ حسنٍ عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قالَ: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خَلَّوا عنه، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يقول: بإذن الله، فالمعقبات هنَّ من أمر الله وهي الملائكة. ومن طريق سعيد بن جُبير قال: حفظهم إيَّاه بأمر الله. ومن طريق إبراهيم النَّخعي قال: يحفظونه من الجنِّ. ومن طريق كعب الأحبار قال: لولا أنَّ الله وُكَّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مَطعمكم ومَشربكم وعوراتكم لَتُخُطِّفتم.
          وأخرج الطَّبري من طريق كنانة العدوي: أنَّ عثمان ☺ سأل النَّبي صلعم عن عدد الملائكة الموكلة بالآدمي فقال: ((لكلِّ آدمي عشرة باللَّيل، وعشرة بالنَّهار، واحد عن يمينه، وآخر عن شماله، واثنان من بين يديه، ومن خلفهِ، واثنان على جبينهِ، وآخر قابضٌ على ناصيته، فإن تواضعَ رفعه، وإن تكبَّر وضعه، واثنان على شفتيه / ليس يحفظان عليه إلَّا الصَّلاة على محمَّد صلعم ، والعاشر يحرسه من الحيَّة أن تدخل فاهُ)) يعني: إذا نام.
          وقوله: ((له)) أي: للإنسان على ما يفهم من السِّياق، وهو الظَّاهر، وقيل: أي: لله تعالى مُعقِّبات. وعن ابن عبَّاس ☻ : {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} يعني: لمحمَّد صلعم من الرَّحمن حرس من بين يديه ومن خلفه يحفظونه، يعني: من شرِّ الإنس والجنِّ، ومن شرِّ طوارق اللَّيل والنَّهار، وقيل: المعقِّبات: الخدم والحرس حول السُّلطان، وقيل: ما يتعقب من أوامر الله وقضاياه، وقوله: ((يحفظونه))؛ أي: يحفظون المستخفي باللَّيل، والسَّارب بالنَّهار. وقوله: {مِنْ أَمْرِ اللّهِ} ما لم يجيء القدر، والله تعالى أعلم.
          (وَمِنْهُ) أي: من أصل المعقِّبات (قِيلَ: الْعَقِيبُ) وهو الذي يأتي في إثر الشَّيء، وفي بعض النُّسخ: بلا ياء بمعناه، وعقب الرَّجل: نسله (يُقَالُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <قيل> (عَقَّبْتُ فِي إِثْرِهِ) بتشديد القاف في الفرع كأصله، وفي ضبط الدِّمياطي بخطه أيضًا. وقال ابنُ التِّين: هو بفتح القاف وتخفيفها، قال: وضبطه بعضهم بتشديدها، وفي بعض النُّسخ بكسرها. قال العيني: ولا وجه له إلَّا أن يكون لغة.
          تتمة: قال الزَّمخشري: وأصل {مُعَقِّبَاتٌ}: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف كقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} [التوبة:90] أي: المعتذرون، ويجوز معِقبات _بكسر العين_، وتعقَّبه أبو حيَّان فقال: هذا وهم فاحشٌ، فإن التاء لا تُدغم في القاف، ولا القاف في التاء لا من كلمة ولا من كلمتين، وقد نصَّ التَّصريفيون على أن القاف والكاف كلٌّ منهما يدغم في القاف، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما، وأمَّا تشبيهه بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} فلا يتعيَّن أن يكون أصله المعتذرون، وأمَّا قوله: ويجوز معِقبات _بكسر العين_ فهذا لا يجوز لأنَّه بناه على أنَّ أصله معتقبات فأدغمت التاء في القاف، وقد بيَّنا أنَّ ذلك وهمٌ فاحش، انتهى.
          قيل: الضَّمير في ((له)) لمن المكرَّرة؛ أي: لمن أسرَّ القول، ومن جهر به، ولمن استخفَى، ومن سرب جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضًا، أو لمن الأخيرة وهو قول ابن عبَّاس ☻ . /
          قال ابنُ عطيَّة: فالمعقبات على هذا حرس الرَّجل الذين يحفظونه، قالوا: والآية على هذا في الرؤوساء الكفَّار.
          واختاره الطَّبري في آخرين إلَّا أنَّ الماوردي ذكر على هذا التَّأويل أنَّ الكلام نفي والتَّقدير: لا يحفظونه، وهذا ينبغي أن لا يسمعَ كيف يجوز كلام موجب ويراد به نفي، وحذفُ لا إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعًا في جواب قسم نحو {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} [يوسف:85] وإنما معنى الكلام كما قال المهدوي: يحفظونه من أمرِ الله في زعمه وظنِّه، انتهى.
          ({الْمِحَالِ}) بكسر الميم (الْعُقُوبَةُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] وفسَّر بقوله: «العقوبة»، وكذا فسَّره أبو عُبيدة. وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ} قال: شديد العقوبة، ومثله عن قتادة ونحوه عن السُّدي. وفي رواية عن مجاهد: شديد الانتقام. وعن عليٍّ ☺: شديد الأخذ. وعن مجاهد أيضًا: شديد القوَّة. وعن الحسن: شديد المماحلة والمماكرة والمغالبة. وأصل المِحال _بكسر الميم_ القوَّة، وقيل: أصله المحل وهو المكرُ، وقيل: الحيلة والميم مزيدة، وغلطوا قائله، ويؤيِّد هذا التَّأويل الأوَّل الآية: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:13].
          وروى النَّسائي في سبب نزولها من طريق علي بن أبي سارة عن ثابت عن أنس ☺ قال: بعث النَّبي صلعم إلى رجل من فراعنة العرب، الحديث، وفيه فأرسلَ الله صاعقة فذهبتْ بقحف رأسه فأنزل الله هذه الآية. وأخرجه البزَّار من طريق أخرى عن ثابت. والطَّبراني من حديث ابن عبَّاس ☻ مطوَّلًا.
          ({كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ) أشار به إلى قوله تعالى: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] وفسَّره بقوله: «ليقبض على الماء»، وكذا قال أبو عُبيدة في قوله تعالى: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} / قال: أي: الذي يبسط كفَّيه ليقبض على الماء حتَّى يُؤدِّيه إلَّا فمه لا يتم له ذلك ولا تجمعه أنامله. قال صابئ بن الحارث:
وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ وَشَوْقًا إِلَيْكُم                     كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تُسِقْهُ أَنَامِلُهُ
          تُسِقْه _بكسر المهملة وسكون القاف_؛ أي: لم تجمعه.
          والمعنى: أنَّ الذي يبسط كفَّيه إلى الماء ليقبضه كما لا ينتفعُ به كذلك المشركون الذين يدعون الأصنام من دون الله لا ينتفعون بها أبدًا. وعن عليٍّ ☺ يعني كالرَّجل العطشان الجالس على شفيرِ البئر يمدُّ يدَه إلى الماء فلا يبلغُ قعر البئر، ولا يبلغُ إلى الماء، والماء لا ينزو ولا يرتفعُ إلى يده، كذلك لا ينفعهم ما كانوا يدعون من دون الله ╡، والعرب تضربُ لمن سعى فيما لا يدركه وطلبَ ما لا يجدُه مثلًا بالقابضِ على الماء؛ لأنَّ القابض على الماء لا شيءَ في يده.
          ({رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو) أشار به إلى قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:17] وأشار بقوله: «من رَبَا يرْبُو» إلى أنَّ اشتقاق رابيًا من ربا يربو؛ أي: انتفخ، وكذا قال أبو عُبيدة، وقال الزَّجَّاج: طافيًا فوق الماء، وفي التَّفسير: عاليًا مرتفعًا، والزَّبد وضر الغليان وخبثه، أو ما يحملُه السيل من غثاءٍ ونحوه.
          ({أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} الْمَتَاعُ) وفي نسخة: <والمتاع> بالواو (مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد:17] وفسَّر المتاع بقوله: «ما تَمَتَّعْت»، وهو قول أبي عُبيدة أيضًا. قوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ}؛ أي: لأجل طلب زينةٍ أو متاع، وأرادَ به جواهر الأرض من الذَّهب والفضَّة والحديد والصفر والنُّحاس والرَّصاص يُذابُ فيتَّخذ منه الأشياء ممَّا ينتفعُ به من الحلي والأواني وغيرهما.
          وقوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي: له زبد إذا أُذيب مثله؛ أي: مثل الحق، والزَّبد الذي لا يبقى ولا يُنتفع به مثل الباطل.
          ({جُفَاءً} أَجْفَأَتِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <يُقال: أجفأت> (الْقِدْرُ، إِذَا غَلَتْ فَعَلاَهَا الزَّبَدُ، ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ / بِلاَ مَنْفَعَةٍ، فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ) وفي نسخة: <تميز الحق من الباطل> على صيغة المصدر من التَّفعل أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] وفسَّر الجفاء بقوله: ((أجفأت القدر))...إلى آخره.
          قال أبو عُبيدة: قال أبو عَمرو بن العلاء: يُقال: أجفأت القدر، وذلك إذا غلتْ وانصبَّ زبدها، فإذا سكنت لم يبق منه شيءٌ. ونقل الطَّبري عن بعض أهل اللُّغة من البصريِّين أنَّ معنى قوله: {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} تنشفه الأرض، يُقال: جفى الوادي وأجفى بمعنى نشف. وقرأ رؤبة بن العجاج: (▬فيذهب جفالًا↨) بلام بدل الهمز، وهي من أجفلت الرِّيحُ الغيمَ: إذا قطعته، ومعنى قول البخاري: «فكذلك يُميز الحقَّ من الباطل»، فكما ميَّز الله الزبد الذي لا يبقى ولا ينتفع به من الذي يبقى ويُنتفع به، كذلك ميَّز الحقَّ الذي يبقى ويستمر وينتفعُ به من الباطل الذي لا أصل له ولا يُنتفع به.
          والحاصل أنَّ هذا الكلام ضربه الله تعالى مثلًا للحقِّ وأهله، والباطل وحزبه، فقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الرعد:17] مثل للقرآن، والأودية مثل للقلوب؛ أي: أنزل القرآن فاحتملت منه القلوب على قدر اليقين، فالقلب الذي يأخذُ منهما ينتفع به فيحفظه يظهرُ عليه ثمرته. ولا يخفى أنَّ بين القلوب في ذلك تفاوتًا عظيمًا.
          وقوله: فأمَّا الزبد...إلى آخره فهو مثل الباطل في عدم نفعه وسرعةِ زواله.
          ({الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ) أشار به إلى قوله تعالى: {ومَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد:18] وفسَّر المهاد بقوله: «الفراش»، وهو قول أبي عُبيدة أيضًا، ولم يثبت هذا إلَّا في رواية أبي ذرٍّ.
          ({وَيَدْرَؤُونَ} يَدْفَعُونَ، دَرَأْتُهُ عَنِّي) وسقط لفظ: <عني> في رواية غير أبي ذرٍّ (دَفَعْتُهُ) أشار به إلى قوله تعالى: { وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] وفسَّر قوله: {يَدْرَؤُونَ} بقوله: «يدفعون»، وهو قول أبي عُبيدة أيضًا يقال: درأت فلانًا: إذا دفعته، وهذا وصف سيِّدنا رسول الله صلعم في النورية، فيندرج تحته الدَّفع بالكلام الحسن، والوصل في مقابلة قطعِ الأرحام وغيرهما من أخلاق الكرام.
          ({سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ: يَقُولُونَ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ) / أشار به إلى قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] وقدر محذوفًا هو يقولون. قال أبو عُبيدة: تقديره: يقولون سلامٌ عليكم، وقال الطَّبري: حذف يقولون لدَلالة الكلام عليه، وحذف القول في كلام العرب كثير، وهو حال من فاعل يدخلون.
          وفي التَّفسير: تدخل الملائكة على أهل الجنَّة فيسلمون عليهم بما صبروا على الفقر في الدُّنيا، وقيل: على الجهاد، وقيل: على ملازمةِ الطَّاعة ومفارقةِ المعصية، وقيل: عن تركهم الشَّهوات. وقوله: {بِمَا صَبَرْتُمْ} يتعلَّق بما تعلَّق به ((عليكم))، و((ما)) مصدرية؛ أي: بسبب صبركم.
          ({وَإِلَيْهِ مَتَابِ} تَوْبَتِي) أشار به إلى قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] وفسَّر قوله: {مَتَابِ} بقوله: «توبتي»؛ يعني: إنَّه مصدر ميمي، يُقال: تاب إلى الله توبة ومتابًا، والتَّوبة: الرُّجوع من الذَّنب. وقال أبو عُبيدة: المتاب مصدر تبت إليه. وروى ابنُ أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجيح في قوله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} قال: توبتي.
          ({أَفَلَمْ يَيْأَسْ}: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] وفسَّر قوله: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ} بقوله: «أفلم يتبين». قال أبو عُبيدة: أي: أفلم يعلم ويتبين، وعن ابن عبَّاس ☻ : أفلم يعلم، وقال ابنُ الكلبي: هو لغة حي من النَّخع. ومنه قول رباح بن عديٍّ:
أَلَمْ يَيْأَسِ الْأَقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ                     وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيًا
          وقول سُحيم اليربوعي:
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي                     أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
          وهو قول مجاهد والحسن وقَتادة.
          ونقل الطَّبري عن القاسم بن معن وهو من ثقات الكوفيين أنَّه كان يقول: إنها لغة هوازن، تقول: يئست كذا؛ أي: علمته، قال: وأنكره بعض الكوفيِّين يعني: الفرَّاء لكنَّه سَلَّم أنَّه هنا بمعنى علم، وإن لم يكن مسموعًا، ورُدَّ عليه بأنَّ مَن حفظ حجَّة على من لم يحفظْ، ووجَّهوه بأنَّ اليأس إنَّما استُعملَ بمعنى العلم لأنَّ الآيس من الشَّيء عالم بأنَّه لا يكون.
          وروى الطَّبري وعبد بن حُميد بإسنادٍ صحيحٍ كلهم من رجال البخاري عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه كان يقرؤها: ((أفلم يتبين)) ويقول: كتبها الكاتبُ وهو ناعسٌ. ومن طريق ابن جُريج قال: زعم ابنُ كثير وغيره أنها القراءة الأولى، وهذه القراءة جاءت عن عليٍّ وابن عبَّاس وعكرمة وابن أبي مُليكة وشهر بنُ حوشب وعلي بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمَّد / في آخرين قرؤوا كلهم: ((أفلم يتبين)).
          وأمَّا ما أسنده الطَّبري عن ابن عبَّاس ☻ فقد اشتدَّ إنكار جماعة ممَّن لا علم لهم بالرِّجال صحَّته. وبالغ الزَّمخشري في ذلك كعاداته إلى أن قال: وهي والله فرية ما فيها مرية، وتبعَه جماعةٌ بعده، وقد جاء عن ابن عبَّاس ☻ نحو ذلك في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قال: ووصَّى التزقت الواو في الصاد، أخرجه سعيد بنُ منصور بإسناد جيد عنه، وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد لكن تكذيبُ المنقول بعد صحَّته ليس من دأب أهل التِّحصيل فلينظر في تأويلهِ بما يليق به، كذا قرَّره الحافظُ العسقلاني.
          والمعنى: أفلم يعلم المؤمنون أنَّه لو تعلَّقت مشيئة الله تعالى على وجه الإلجاء بإيمان النَّاس جميعًا لآمنوا.
          ({قَارِعَةٌ}: دَاهِيَةٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد:31] وفسَّر قوله: {قَارِعَةٌ} بقوله: «داهية»، قال أبو عُبيدة: أي: داهية مهلكة، تقول: قرعت عظمه؛ أي: صدعته، وفسَّره غيره بأخص من ذلك.
          فأخرج الطَّبري بإسنادٍ حسنٍ عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد:31] قال: سرية، أو تحل قريبًا من دارهم، قال: أنت يا محمَّد حتَّى يأتي وعد الله فتح مكَّة. ومن طريق مجاهد وغيره نحوه.
          ({فَأَمْلَيْتُ}: أَطَلْتُ) أي: لهم كما في نسخة؛ أي: أطلت للذين كفروا المدَّة بتأخير العقوبة، أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد:32] وفسَّر قوله: {فَأَمْلَيْتُ} بقوله: «أطلت»، وكذا فسَّره أبو عُبيدة (مِنَ الْمَلِيِّ) بفتح الميم وكسر اللام وتشديد الياء بغير همز.
          قال الجوهري: الملي: الهَويّ من الدَّهر، يُقال: أقام مليًا من الدَّهر، قال تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: طويلاً، ومضى مَلِيٌّ من النَّهار؛ أي: ساعة طويلة.
          (وَالْمِلاَوَةُ) بكسر الميم، وفي رواية أبي ذرٍّ بضمها، يُقال: أقمت عنده ملاوة من الدَّهر؛ أي: حينًا و برهة، وكذلك ملوة من الدَّهر بتثليث الميم (وَمِنْهُ {مَلِيًّا}) كما مرَّ (وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنَ الأَرْضِ: مَلًى) بفتح الميم مقصورًا (مِنَ الأَرْضِ) وقال الجوهري: الملى _مقصورًا_: الصَّحراء، والمَلَوان: اللَّيل والنَّهار، وسقط في رواية أبي ذرٍّ لفظ: <من الأرض> الثَّاني. وقال أبو عُبيدة في قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد:32] / أي: أطلت لهم، ومنه المَلِيّ والمِلاوة، من الدَّهر، ويُقال: للَّيل والنَّهار المَلَوان لطولهما، ويُقال: للخرق الواسع من الأرض ملا. قال الشَّاعر:
مَلًى لَا تَخَطَّاهُ العُيُونُ رَغِيْبُ
          انتهى.
          ({أَشَقُّ} أَشَدُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ} [الرعد:34] وأراد بقوله: «أشدُّ» أن لفظ {أَشَقُّ} أفعل تفضيل من شقَّ يشقُّ، وهو قول أبي عُبيدة أيضًا.
          ({مُعَقِّبَ} مُغَيِّرٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] وفسَّر قوله: {مُعَقِّبَ} بقوله: «مغير»؛ أي: لا مغيِّر لإرادته، ولا يعقبه أحدٌ بالردِّ والإبطال، قال أبو عُبيدة: أي: لا رادَّ لحكمه، ولا مغيِّر له عن الحقِّ، وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم في قوله: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي: لا يتعقَّب أحدٌ حكمَه فيرده، وقد وقعَ في بعض النُّسخ قوله: <وقال مجاهد: {مُتَجَاوِرَاتٌ} طَيِّبها وخبيثها السِّباخ> هنا، وقد ثبت هذا في نسخة قبل قوله: {الْمَثُلَاتُ}، وقد سقط خبر قوله: «طيبها» هنا.
          وقد وصله الفريابي من طريق ابنِ أبي نَجيح عن مجاهد: طيبها عذبها، وخبيثها السباخ. وعند الطَّبري من وجه آخر عن مجاهد: القطع المتجاورات العذبة، والسَّبخة والمالح والطيب. ومن طريق أبي سنان عن ابن عبَّاس ☻ مثله. ومن وجه آخر منقطع عن ابن عبَّاس مثله، وزاد: تنبت هذه، وهذه إلى جنبها لا تنبتُ، ومن طريق أخرى متَّصلة عن ابن عبَّاس ☻ قال: تكون هذه حلوة، وهذه حامضة، وتُسقى بماء واحد وهنَّ متجاورات.
          ({صِنْوَانٌ}: النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: وَحْدَهَا. {بِمَاءٍ وَاحِدٍ}: كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ وَخَبِيثِهِمْ، أَبُوهُمْ وَاحِدٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد:4] وفسَّر قوله: {صِنْوَانٌ} بقوله: «النَّخلتان أو أكثر في أصل واحد».
          وكذا قال ابنُ عبَّاس ☻ : الصِّنوان ما كان من نخلتين أو ثلاث أو أكثر أصلهنَّ واحد، وهو جمع صنو، كقنوان وقنو، وأصل الصَّنو المِثْل، والمراد به هنا فرع يجمعه وفرعًا / آخر أو أكثر أصل واحد. وفي الحديث: ((عمُّ الرَّجل صنو أبيه))؛ أي: يجمعهما أصلٌ واحد.
          ثمَّ إنَّ الصَّنو يجمع في القلَّة أصناء، ولا فرقَ في جمع الكثرةِ في التثنية والجمع إلَّا في الإعراب، وذلك أنَّ النون في التثنية مكسورة أبدًا غير منوَّنة، وفي الجمع منوَّنة تجري بجريان الإعراب، والقرَّاء كلهم على كسر الصاد إلَّا أبا عبد الرَّحمن السُّلمي فإنه يضمُّها.
          وقوله: {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وحدها؛ أي: النَّخلة المنفردة، وقوله: {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} أي: يُسقى بماء واحد. وقد وصله الفريابي أيضًا عن مجاهد مثل رواية البخاري لكن قال: يُسقى بماء واحدٍ، قال: بماء السَّماء والباقي سواء، وروى الطَّبري من طريق سعيد بن جبير في قوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} مجتمع وغير مجتمع، وعنه سعيد بن منصور عن البراء بن عازب ☻ قال: {صِنْوَانٍ} أن يكون أصلها واحد ورؤوسها متفرِّقة وغير الصِّنوان أن تكون النَّخلة منفردة ليس عندها شيء، انتهى.
          وقوله: «كصالح بني آدم»...إلى آخره شبَّه الصِّنوان الذي أصله واحد وغير الصِّنوان المتفرِّق الذي لا يجمعه أصل واحدٌ بصالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحدٌ. وقال الحسن: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لقلوبِ بني آدم، فقلب يرقُّ ويخشعُ ويخضعُ، وقلبٌ يسهو ويلهو، والكلُّ من أصلٍ واحدٍ، وهو أبوهم آدم ◙.
          ({السَّحَابَ الثِّقَالُ} الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12] وفسَّره بقوله: «الذي فيه الماء». وصله الفريابي أيضًا عن مجاهد مثله؛ أي: يستر السَّحاب، وهو جمعُ سحابة، والثِّقال صفة السَّحاب؛ أي: الثِّقال بالمطر.
          وقال عليٌّ ☺: السَّحاب غربال الماء.
          ({كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ}) زاد أبو ذرٍّ <{إِلَى الْمَاءِ}> (يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، فَلاَ يَأْتِيهِ أَبَدًا) إذ لا شعور له به، وهذا وصله الفريابي والطَّبري من طرق عن مجاهد، وقد تقدَّم قول غيره في أوَّل السُّورة (سَالَتْ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <{فَسَالَتْ}> ({أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلأُ بَطْنَ وَادٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <كلِّ واد> وهو أشبه وفي نسخة: <بطن الوادي> أشار به إلى قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17] / يعني: أنزل الله تعالى من السَّماء ماء؛ أي: مطرًا فسالتْ أودية من ذلك الماء بقدرها الكبير بقدره، والصَّغير بقدره.
          والأودية: جمع وادٍ وهو كلُّ منفرَجٍ بين جبلين يجتمعُ إليه ماءُ المطر، قيل: والقدر مبلغ الشَّيء، والمعنى: بقدرها من الماء فإن صغر قل الماء، وإن اتَّسع كثر.
          ({زَبَدًا رَابِيًا} زَبَدُ السَّيْلِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <الزَّبد السيل> وفي نسخة: <زبد السَّيل {زَبَدٌ مِثْلُهُ}>؛ أي: وممَّا يوقدون عليه من الذَّهب والفضَّة والحديد وغيرها زبد مثلُ زبد الماء وهو (خَبَثُ الحَدِيدِ وَالحِليَةِ) وقد وصلَه الفريابيُّ أيضًا عن مجاهد في قوله: {زَبَدًا رَابِيًا} قال: الزَّبد: السَّيل، وفي قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} قال: خبث الحديد والحلية، وأخرجه الطَّبري من وجهين عن ابنِ أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: بملئها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} قال: الزَّبد السَّيل {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد:17] قال: خبث الحديد والحلية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] قال: جمودًا في الأرض {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] قال: الماء وهما مثلان للحقِّ والباطل.
          وأخرج من طريقين عن ابن عبَّاس ☻ نحوه. ووجه المماثلة في قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أن كلاًّ من الزَّبدين ناشئٌ عن الأكدار. ومن طريق سعيد عن قتادة في قوله: {بِقَدَرِهَا} قال: الصَّغير بصغره، والكبير بكبره، وفي قوله: {رَابِيًا} أي: عاليًا، وفي قوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ } الذَّهب والفضَّة، وفي قوله: {أَوْ مَتَاعٍ} الحديد والصُّفر الذي يُنتفعُ به. والجُفاء ما يتعلَّق بالشَّجر، وهي ثلاثةُ أمثال ضربها الله في مَثَل واحد يقول: كما اضمحلَ هذا الزَّبد فصار لا يُنتفعُ به، كذلك يضمحلُّ الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعَتْ وأخرجت نباتها كذلك يبقى الحقُّ لأهله، ونظيره بقاء خالص الذَّهب والفضَّة إذا أُدخل النَّار، وذهبَ خبثُه، وبقي صفوهُ يبقى الحقُّ لأهله ويذهبُ الباطل.
          وفي التَّفاسير المذكورة اختلاف كثير بالتَّقديم والتَّأخير والزِّيادة والنُّقصان.