نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}

          ░7▒ (باب: {يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}) أي: جميع ما أُنزل إلى كافَّة النَّاس مجاهرًا به غير مراقبٍ أحدًا، ولا خائفًا مكروهًا، قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم لمَّا نزلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: ((يا رب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون عليَّ؟)) فنزلت: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: فإن أهملت شيئًا من ذلك فما بلَّغت رسالته؛ لأنَّ ترك إبلاغ البعض محبطٌ للباقي؛ لأنَّه ليس بعضه أولى من بعضٍ. وبهذا تظهرُ المغايرة بين الشَّرط والجزاء.
          قال ابنُ الحاجب: الشَّرط والجزاء إذا اتَّحدا كان المراد بالجزاء المبالغة، فوضع قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} موضع أمرٍ عظيمٍ؛ أي: وإن لم تفعل فقد ارتكبت أمرًا عظيمًا.
          وقال في «الانتصاف» قال: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} ولم يقل: وإن لم تُبلغ ليتغاير اللَّفظان وإن اتَّحدا معنى، وهي أحسن بهجةً من تكرار اللفظ الواحد في الشَّرط والجزاء، وهذا من محاسنِ علم البيان وقدر المضاف وهو قوله: جميع ما أُنزل؛ لأنَّه صلعم كان مبلِّغًا فعلى هذا فائدة الأمر المبالغة والكمال، يعني: ربَّما أتاك الوحي بما تكره أن تُبلِّغه خوفًا من قومك فبلِّغ الكلَّ ولا تخف.
          وقال الرَّاغب فيما حكاه الطِّيبي عنه: / فإن قيل: كيف قال: {إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وذلك كقولك: إن لم تُبلِّغ فما بلغت؟
          قيل: معناه وإن لم تُبِّلغ كلَّ ما أُنزل إليك تكون في حكم مَن لم يُبلِّغ شيئًا ممَّا أَنزل الله بخلاف ما قالت الشِّيعة: إنَّه قد كتم شيئًا على سبيل التَّقيَّة. وعن بعض الصُّوفيَّة ما يتعلَّق به مصالح العباد وأُمر بإطلاعهم عليه فهو منزَّهٌ عن كتمانه، وأمَّا ما خُصَّ به من الغيب ولم يتعلَّق به مصالح أمَّته فله ذلك بل عليه كتمانه.
          وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية.
          فقال مقاتل: إنَّ النَّبي صلعم دعا اليهود إلى الإسلام فأكثر الدُّعاء فجعلوا يستهزئون به ويقولون: أتريد يا محمَّد أن نتَّخذك حنانًا كما اتَّخذت النصارى عيسى حنانًا، فلمَّا رأى رسول الله صلعم ذلك سكت عنهم، فحرَّض الله تعالى نبيَّه صلعم على الدُّعاء إلى دينه لا يمنعه تكذيبهم إيَّاه، واستهزاؤهم به عن الدُّعاء.
          وقال الزَّمخشري: نزلت هذه الآية بعد أحدٍ. وذكر الثَّعلبي عن الحسن قال: قال سيِّدنا رسول الله صلعم : لمَّا بعثني الله ╡ برسالته ضقت بها ذرعًا، وعرفت أنَّ من النَّاس من يُكذِّبني، وكان يهاب قريشًا واليهود والنَّصارى فنزلت. وقيل: نزلت في عيينة بن حُصين وفقراء أهل الصُّفَّة. وقيل: نزلت في الجهاد، وذلك أنَّ المنافقين كرهوه وكرهه أيضًا بعض المؤمنين، فكان النَّبي صلعم يمسك في بعض الأحايين عن الحثِّ على الجهاد لما يعرف من كراهيَّة القوم فنزلت.
          وقيل: معناه {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} في أمر زينب بنت جحش، وهو مذكورٌ في البُخاري [خ¦4787]. وقيل: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} في أمر نسائك.
          وقال أبو جعفر بن عليِّ بن حسين: معناه {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} في فضل عليِّ بن أبي طالبٍ ☺، فلمَّا نزلت هذه الآية أخذ بيد عليٍّ ☺ وقال: ((من كنت مولاه فعليّ مولاه))، وقيل: بلِّغ ما أُنزل إليك من ربِّك من حقوق المسلمين، فلمَّا نزلت هذه الآية خطب صلعم في حجَّة الوادع ثمَّ قال: ((اللهم هل بلَّغت)).
          وعند ابن الجوزي: بلِّغ ما أُنزل إليك من الرَّجم والقصاص والله تعالى أعلم.