نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الصوم

          ░░30▒▒ (╖) ثبتت البسملةُ للجميع متقدِّمة على قوله: (كِتَابُ الصَّوْمِ) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية النسفيِّ: <كتاب الصيام>.
          والصَّوم والصِّيام مصدران لـ((صام))، وهو في اللغة: الإمساك، ومنه قوله تعالى حكايةً عن مريم ♀: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] أي: إمساكاً عن التكلُّم؛ أي: صمتاً وسكوتاً، / وكان مشروعاً عندهم، ألا ترى إلى قولها: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26].
          ويقال للفَرَسِ الممسك عن السَّير: صائم. قال النابغة الذبيانيُّ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ                     تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
          أي: قائمة على غير علف، قاله الجوهريُّ. وقال ابنُ فارس: ممسكةٌ عن السَّير.
          وفي «المحيط» وغيره: ممسكة عن الاعتلافِ. وصام النهار: إذا قام قيام الطَّير.
          وقال أبو عبيد: كلُّ ممسكٍ عن طعامٍ، أو كلام، أو سير صائمٌ، والصَّوم أيضاً ركود الريح.
          وفي «المحيط»: صام صوماً وصياماً، واصطَام، ورجلٌ صائمٌ، وقوم صُوَّام وصُيَّام وصُوَّم وصُيَّم. وعن سيبويه: صِيَّم _بكسر الصاد_؛ لمكان الياء، وصِيام وصَيامي، الأخيرة نادرة، وصَوْم، وهو اسمٌ للجمع كَرَكْبٍ، وقيل: هو جمعُ صائم. وفي «الصحاح»: ورجل صومان.
          وأمَّا في الشرع: فهو الإمساك عن الأكل والشُّرب والجماع مع النِّية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
          ورويَ عن عليٍّ ☺: أنَّه لما صلى الفجر قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيطِ الأسود. وعن ابن مسعود نحوه.
          وقال مسروقٌ: لم يكونوا يعدون الفجر فَجْرَكُم، وإنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطُّرق، وهذا قول الأعمش.
          وقال ابن عساكر في قول النبي صلعم : ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل)) [خ¦617] دليلٌ على أنَّ الخيط الأبيض هو الصَّباح، وأنَّ السحور لا يكون إلا قبل الفجر، وهذا إجماعٌ لم يخالف فيه إلا الأعمش، ولم يعرِّج أحد على قوله لشذوذه.
          قال العينيُّ: قد نُقِلَ قولُ جماعةٍ من السلف بموافقة الأعمش.
          وعن ذرٍّ: قلت لحذيفة ☺: أيَّة ساعة تسحرت مع رسول الله صلعم ؟ قال: هي النهار، إلا أنَّ الشمس لم تطلع. رواه النسائيُّ. قيل: هو مبالغةٌ في تأخير السُّحور.
          ثم إنَّ العلماء اختلفوا في أيِّ صومٍ وجب في الإسلام أولاً: فقيل: صوم عاشوراء. وقيل: ثلاثة أيام من كلِّ شهر؛ لأنَّه صلعم أوَّل ما قدم المدينة جعل يصومُ من كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّام، رواه البيهقيُّ.
          ولما فرض رمضان خيِّر بينه وبين الإطعام، ثم نسخ الجميع بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، ونزلت فريضة رمضان في شعبان من السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلعم تسع رمضانات.
          وقيل: اختلف السَّلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهورُ وهو المشهور عند / الشافعيَّة: أنَّه لم يجب قطُّ صوم قبل صومٌ رمضان. وفي وجه وهو قول الحنفيَّة: أوَّل ما فرض صيام عاشوراء، فلمَّا نزل رمضان نسخ. وسيجيء تفصيل في ذلك إن شاء الله تعالى [خ¦1892] [خ¦1924].
          ثم إنَّهم قالوا: الصَّوم ربع الإيمان؛ لقوله صلعم : ((الصَّوم نصف الصبر)) وقوله صلعم : ((الصبر نصف الإيمان)).
          وشرعه الباري سبحانه لفوائد:
          أعظمها: كسر النَّفس، وتعريض البدن للنقصان، والصَّبر على حرقةِ العطش، ومضضِ الجوع، وقهر الشَّيطان، فالشِّبع نهرٌ في النَّفس يردُه الشَّيطان، والجوعُ نهر في الرُّوح تردُه الملائكة.
          ومنها: أنَّ الغني يعرف قدرَ نعمة الله عليه بإقداره على ما مُنِعَ منه كثير من الفقراء من فضولِ الطَّعام والشَّراب والنِّكاح، فإنَّه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوصٍ، وحصول المشقَّة له بذلك يتذكر به من مُنِعَ ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعم الله تعالى عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك.
          هذا؛ وذكر البخاريُّ ⌂ كتاب الصوم آخر كتب العبادات، وذلك لأنَّ العبادات التي هي أركان الإيمان أربعة: الصَّلاة، والزكاة، والحج، والصَّوم، قدمت الصَّلاة؛ لكونها تالية الإيمان وثانيته في الكتاب والسُّنة، أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة:3]. وأما السنَّة: فقوله صلعم : ((بني الإسلام على خمس)) [خ¦8] الحديثَ، ثم ذكرت الزكاة عقيبها؛ لأنَّها ثانية الصَّلاة، وثالثة الإيمان في الكتاب والسنة لما ذكر، ثم ذكر الحج؛ لأنَّ العبادات الأربعة إمَّا بدنية محضة، وهي الصَّلاة والصَّوم، وإمَّا ماليَّة محضة، وهي الزكاة، وإمَّا مركبة منهما وهي الحج، وكان مقتضى الحال أن يذكر الصوم عقيب الصلاة؛ لكونهما من وادٍ واحد، ولكن ذكرت الزكاة عقيبها لما ذكر، فذكر الصَّوم متأخراً عن الحج أنسب من ذكره عَقيب الزكاة؛ لاشتمالِ كلٍّ منهما على بذل المال، فلم يبق للصَّوم موضعٌ إلَّا الأخير.
          وغالب المصنفين ذكروا الصَّوم عقيب الزكاة، ولا مناسبةَ بينهما، والله أعلم.