نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة الفتح

          ░░░48▒▒▒ (سُوْرَةُ الْفَتْحِ) مدنية نزلت منصرفَ النَّبيِّ صلعم من الحديبية بين الحديبية، والمدينة، أو بكراع الغميم سنة ستٍّ من الهجرة، والفتح صلح الحديبية. فإن قيل: كيف كان صلح الحديبية فتحًا. فالجواب أنَّه لما رجع رسول الله صلعم قال رجل من أصحابه: ما هذا بفتحٍ لقد صددنا عن البيت، فقال رسول الله صلعم : ((بئس الكلام هذا، بل هو أعظمُ الفتوح، وقد رضي المشركون أنَّ يدفعوكم عن بلادهم بالرَّاحة، ويسألوكُم الصُّلح، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا)) كذا قرَّره الكرماني. وهي ألفان وأربعمائة / وثمانية وثلاثون حرفًا، وخمسمائة وستون كلمة، وتسع وعشرون آية.
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بُوْرًا} هَالِكِيْنَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12] وفسَّره بقوله: «هالكين»؛ أي: فاسدين لا تصلحون لشيءٍ، وصله الطَّبري من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وقال أبو عبيدة، يُقال: بار الطَّعام؛ أي: هلك، ومنه قول عبد الله بن الزِّبَعْرَى:
يَا رَسُولَ المَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي                     رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
          أي: هالك، وهو هنا مصدر أخبر به عن الجمع، ولذلك يستوي فيه المفرد والجمع والمذكَّر والمؤنث، ويجوز أن يكون جمع: بائر، كخائل وخول، وبازل وبزل، وعائذ وعوذ. وقال النَّسفي: والمعنى وكنتُم قومًا فاسدين في أنفسكم وقلوبكُم ونياتكُم لا خيرَ فيكم، وهالكينَ عند الله مستخقين لسخطهِ وعقابه، وقد سقط هذا في رواية غير أبي ذرٍّ.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}: السَّحْنَةُ) فسَّر مجاهد: ({سِيمَاهُمْ}) بالسَّحنة، وهي بفتح السين في «اليونينية»، وهي في الفرع كذلك مصلحة وتحت السين كشطٌ. وبذلك ضبطه ابن السَّكن والأصيلي. وقال القاضي عياض: وهو الصَّواب عند أهل اللُّغة، وفي كثيرٍ من الأصول: بكسر السين والحاء المهملة ساكنة، وجزم ابنُ قتيبة بفتحها، وأنكر السكون، وأثبته الكسائي والفرَّاء وهي لين البشرة والنَّعمة، وقيل: الهيئة، وقيل: الحال انتهى.
          ويقال أيضًا: السحناء بالمدِّ، وقال العكبريُّ: السَّحْنة _بفتح أوله وسكون ثانيه_، لون الوجه، وقد وصله ابنُ أبي حاتم من طريق الحكم عن مجاهد كذلك. وفي رواية المستملي والكُشميهني والقابسي: <{سِيْمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السجدة> ولهذه الرِّواية وجه، وهو أنَّ المراد بالسَّجدة أثر السَّجدة في الوجه يُقال: لأثر السَّجدة في الوجه سجدة وسَجَّادة؛ لكن في التئام هذا مع قوله ((من أثر السُّجود)) قلق لا يخفى. وفي رواية النَّسفي: المسحة، وعن ابن عباس ☻ / في رواية عطية العوفي عنه: ((نور وبياضٌ في وجوههم يوم القيامة)). وعن عطاء بنِ أبي رباح: استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم؛ أي: ما يظهره الله تعالى في وجوه السَّاجدين نهارًا إذا قاموا باللَّيل متهجِّدين، فمن توجَّه إلى الله بكلِّيته لا بدَّ أن يظهر في وجهه نور تبهرُ منه الأنوار، وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السُّجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، وعن الضَّحَّاك: صفرة الوجه. وروى السُّلمي عن عبد العزيز المكي: ليس هو الصُّفرة ولكنَّه نورٌ يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبيَّن ذلك للمؤمنين، ولو كان ذلك في زنجيٍّ أو حبشي. وقال ابن عطاء: يُرى عليهم خلع الأنوار لائحة.
          (وَقَالَ مَنْصُورٌ) هو: ابنُ المعتمر (عَنْ مُجَاهِدٍ: التَّوَاضُعُ) وصله عليُّ بن المديني عن جرير عن منصور، وكذا في «الزهد» لابن المبارك. وفي «تفسير» عبد بن حُميد وابن أبي حاتم عن سفيان وزائدة كلاهما عن منصور عن مجاهد قال: هو الخشوع، وزاد في رواية زائدة عن منصور عند عبد بن حميد. قلت: ما كنت أراه إلَّا هذا الأثر الذي في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبًا من فرعون. وقال بعضهم: إنَّ للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعةً في الرِّزق، ومحبَّةً في قلوب النَّاس، فما كمن في النَّفس ظهرَ على صفحات الوجه. وفي حديث جندب بن سفيان البجلي عند الطَّبراني مرفوعًا: ((ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلَّا ألبسه الله رداءها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرٌّ)).
          ({شَطْأَهُ}: فِرَاخَهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] وفسَّره بقوله: «فراخه» يُقال: أشطأ الزَّرع إذا أفرخَ. قال أبو عُبيدة: في قوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أخرج فراخه، وهكذا فسَّره الأخفش، وعن أنس: شطأه نباته. وعن السُّدي: هو أن يخرج معه الطَّاقة الأخرى، وعن الكسائي: طرفه. وهل يختصُّ ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشَّعير فقط / أو لا يختصُّ؟ قال:
أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى                     وَمِنَ الْأَشْجَارِ أَفْنَانَ الثَّمَرِ
          ((فآزره)): ساواه وصار مثلَ الأمِّ.
          ({فَاسْتَغْلَظَ}: غَلُظَ) بضم اللام، ويُروى: <تغلظ> أي: قوي وتلاحقَ نباته بعد الرِّقة ({سُوقِهِ}: السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] والسُّوق _بالضم_ جمع: الساق، وفسَّره بقوله: «حاملة الشَّجرة»، وهي جذعه، وهكذا فسَّره الجوهري.
          وقد أخرج عبد بن حميد من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شطأه}، قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتم وينمى. وفي قوله: {عَلَى سُوقِهِ} قال: على أصوله فمعنى قوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} قام على أصوله، والجار متعلِّقٌ باستوى، ويجوز أن يكون حالًا؛ أي: كائنًا على سوقه قائمًا عليها.
          (وَيُقَالُ) وسقط في رواية أبي ذرٍّ لفظ: <ويُقال>، وفي نسخة: <وقال> بدل: ويقال ({دَائِرَةُ السَّوْءِ}: كَقَوْلِكَ: رَجُلُ السَّوْءِ) أي: الفاسد، كما يُقال: رجل صدق؛ أي: صالح. وهذا قول الخليل والزَّجاج، واختاره الزَّمخشري، وتحقيقه أنَّ السوء في المعاني كالفسادِ في الأجساد، يُقال: ساء مزاجه، ساء خلقُه، ساء ظنُّه، كما يُقال: فسد اللَّحم، وفسد الهواءُ، بل كلُّ ما ساء فقد فسدَ، وكلُّ ما فسد فقد ساءَ غير أنَّ أحدهما كثيرُ الاستعمالِ في المعاني، والآخر في الأجرام، فقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:41] وقال: {سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15].
          (وَ{دَائِرَةُ السَّوْءِ}: الْعَذَابُ): وأشار به إلى قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] وفسَّرها بقوله: «العذاب»، وهو قول أبي عُبيدة. قال: المعنى يدورُ عليهم؛ يعني: حاقَ بهم العذاب بحيث لا يخرجون منه، وقيل: دائرة الدَّمار والهلاك. وقرأ الجمهور بفتح السين، وقرأ ابنُ كثير وأبو عَمرو بالضم فقيل: معنى المفتوح: الفساد والرَّداءة، ومعنى الضم: الهزيمة والبلاءُ، أو معنى المضموم: العذاب والضَّرر، والمفتوح: الدَّمُّ.
          ({تُعَزِّرُوهُ}: تَنْصُرُوهُ) أشار به إلى قوله تعالى: / {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] وفسَّر {تُعَزِّرُوهُ} بقوله: «تنصروهُ»، قال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ} قال: تنصروه، وقيل: معناه تعينوه، وعن عكرمة: تقاتلون معه بالسَّيف. قال العينيُّ: ونقل الكرمانيُّ بإسناد عن جابر بن عبد الله ☻ قال: لما نزلت على النَّبي صلعم {وَتُعَزِّرُوهُ} قال لنا: ما ذاكُم؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: لتنصروهُ وتوقِّروه وتعظِّموه وتفخِّموه، وهنا وقفٌ تامٌّ، انتهى. ولم نجده في «شرح الكرماني».
          وقرأ ابنُ كثير وأبو عَمرو بالغيبة في ({ليؤمنوا}) ({ويعزروه}) ({ويوقروه}) و({يسبِّحوه} [الأعراف:157]) رجوعًا إلى المؤمنين والمؤمنات، والباقون بالخطاب إسنادًا إلى المخاطبين. قال الإمام القسطلاني: والظَّاهر أنَّ الضَّمائر عائدة إلى الله تعالى وتوزيعها بجعل بعضها لرَّسول الله صلعم قول الضَّحَّاك. وفي الشَّواذ عن ابن عبَّاس ☻ (▬وتعززوه↨) بزايين من العزة.
          ({شَطْأَهُ} شَطْءُ السُّنْبُلِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: (شَطْأُ السُّنْبُلِ) بالألف بدل الواو صورة الهمزة (تُنْبِتُ) بضم أوله وكسر ثالثه، من الإنبات (الْحَبَّةُ) أي: الواحدة (عَشْرًا) من السَّنابل (أَوْ ثَمَانِيًا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وثمانيًا> بالواو بدل أو (وَسَبْعًا) وكلمة «أو» للتنويع؛ أي: تنبت الحبَّة الواحدة عشر سنابل، وتارةً ثمان سنابل، وتارةً سبع سنابل، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261].
          (فَيَقْوَى) من التَّقوية على البناء للفاعل، ويُروى: <فيقوي> من القوَّة على البناء للفاعل أيضًا فافهم (بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآزَرَهُ}) أي: قوَّاه وأعانه (وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ، وَهُوَ) أي: ما ذكر (مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى) وفي نسخة: <╡> (لِلنَّبِيِّ صلعم إِذْ خَرَجَ وَحْدَهُ) أي: حين خرج وحدَه، يحتمل أن يكون المراد حين خرجَ على كفَّار مكَّة وحدَه يدعوهم إلى الإيمان بالله (ثُمَّ قَوَّاهُ بِأَصْحَابِهِ) أي: بإسلام من أسلم منهم في مكَّة والمدينة من المهاجرين والأنصار، ويحتمل أن يكون المراد حين خرجَ / من بيته وحدَه حين اجتمع الكفَّار على أذاه، ثمَّ رافقه أبو بكر وعمر وغيرهما ♥ ، ثمَّ لما دخلَ المدينة قوَّاه بالأنصار.
          وفي «التفسير»: وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحابِ محمد صلعم ؛ يعني: أنَّهم يكونون قليلًا، ثمَّ يزدادون ويكثرون ويقوون. وعن قتادة: مثل أصحاب محمد صلعم في الإنجيل مكتوبٌ أنَّه سيخرج قوم ينبتون نبات الزَّرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
          (كَمَا قَوَّى الْحَبَّةَ بِمَا نَبَتَ) ويُروى: <بما يَنْبُت> بفتح أوله وضم ثالثه، أو بضم ثم كسر (مِنْهَا) هذا.