نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الحيل

          ░░90▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابُ الحِيَلِ) جمع: حيلة، وهي ما يتوصَّل به إلى مقصوده بطريق خفيٍّ، وقال الجوهريّ: الحيلة _بالكسر_ اسمٌ من الاحتيال، ذكره في فصل الياء، ثمَّ قال: وهو من الواو يقال: هو أحيل منك، وأحول منك؛ أي: أكثر حيلةً، وما أحيله لغةٌ في ما أحوله          
          وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصَّل بها إلى إبطال حقٍّ أو إثبات باطلٍ فهي حرامٌ، أو إلى إثبات حقٍّ أو دفع باطلٍ فهي واجبةٌ أو مستحبَّة، وإن توصَّل بها بطريق مباحٍ إلى سلامة من وقع في مكروه فهي مستحبَّة أو مباحة، أو إلى ترك مندوبٍ فهي مكروهة.
          ووقع الخلاف بين الأئمَّة في القسم الأول: هل يصحُّ مطلقاً وينفذ ظاهراً وباطناً، أو يبطل مطلقاً، أو يصحُّ مع الإثم؟ ولمن أجازها مطلقاً أو أبطلها مطلقاً أدلَّة كثيرة، فمن الأوَّل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص:44].
          وقد عمل به النَّبيّ صلعم في حقِّ الضَّعيف الَّذي زنا، وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في السُّنن، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]. وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعيَّة الاستثناء فإنَّ فيه تخليصاً من الحنث، وكذلك الشُّروط فإنَّ فيها سلامةً من الوقوع في الحرج.
          ومنه حديث أبي هريرة ☺، وكذا حديث أبي سعيدٍ ☺ في قصَّة بلالٍ: بع الجمع بالدَّراهم ثمَّ ابتع بالدَّراهم جبناً، ومن الثَّاني قصَّة أصحاب السَّبت وحديث: ((حرِّمت عليهم الشُّحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها)).
          وحديث النَّهي عن الفحش، وحديث لعن المحلِّل والمحلَّل له، والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم: هل المعتبر في صيغِ العقود ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجازَ الحيل، ثمَّ اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ باطناً، / ومن قال بالثَّاني أبطلها ولم يجز منها إلَّا ما وافقَ فيه اللَّفظ المعنى الَّذي تدلُّ عليه القرائن الحالية.
          وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفيَّة لكون أبي يوسف صنَّف فيه كتاباً، لكن المعروف عنه وعن كثيرٍ من أئمَّتهم تقييد أعمالها بقصد الحقِّ.
          قال صاحب «المحيط»: أصل الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص:44]، وضابطها إن كانت للفرارِ من الحرام، والتَّباعدِ من الإثم فحسنٌ، وإن كانت لإبطال حقِّ مسلم فلا، بل هي إثمٌ وعدوان، والله تعالى أعلم.