نجاح القاري لصحيح البخاري

الشعراء

          ░░░26▒▒▒ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ) مكيَّة كلها إلَّا آية واحدة: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227] نزلت في حسَّان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك شعراء الأنصار، وقال مقاتل: منها من المدني آيتان: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، وقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]. وعند السَّخاوي: نزلت بعد سورة الواقعة وقبل سورة النَّمل، وهي مائتان وسبع أو ست وعشرون آية، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفًا.
          (╖) سقط لفظ <سورة> والبسملة في رواية غير أبي ذرٍّ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَعْبَثُونَ}: تَبْنُونَ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ}: أي: فسَّر {تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] بقوله: «تبنون»، وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نَجيح عنه في قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} قال: بكلِّ فجٍّ {آَيَةً تَعْبَثُونَ}، قال: بنيانًا. وقال الضَّحاك والكلبي ومقاتل: هو الطَّريق، وهي رواية عن ابن عبَّاس ☻ ، وعن عكرمة: وادٍ، وقال ابنُ عبَّاس ☻ : كانوا يبنون بكلِّ ريع علمًا يعبثون فيه بمن يمرُّ في الطَّريق إلى هود ◙، وقيل: كانوا يبنون الأماكنَ المرتفعة ليُعرف بذلك غناهم فنهوا عنه، ونسبوا إلى العبث، وعن مقاتل: كانوا يسافرون / ولا يهتدون إلَّا بالنُّجوم فبنوا على الطُّرق أميالًا وأعلامًا طوالًا في أماكنَ مرتفعة ليهتدوا بها، وكانوا في غنية عنها بالنُّجوم فاتخذوا البنيان عبثًا، وقال الكرمانيُّ: كانوا يبنون بروجًا للحمَّامات يعبثون بها.
          ({هَضِيمٌ}: يَتَفَتَّتُ إِذَا مُسَّ) أشار به إلى قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:147-148] وفسَّر قوله: {هَضِيمٌ} بقوله: يتفتت إذا مسَّ على صيغة البناء للمفعول، وهذا قول مجاهد أيضًا، وصله الفريابي بلفظ: يتهشَّم تهشُّمًا، وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد: الطَّلعة إذا مسستها تناثرت، ومن طريق عكرمة قال: الهضيم: الرَّطب الليِّن، وقيل: هو المنظم في وعائه قبل أن يظهرَ.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : هو اللَّطيف، وقيل: هضيم؛ أي: يهضم الطَّعام وكل هذا للطافته.
          (مُسَحَّرِينَ: الْمَسْحُورِينَ) وفي رواية أبي ذرٍّ والأصيلي: <مسحورين> بلا لام، أشار به إلى قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153]: أي: من المسحورين؛ أي: من سُحر مرَّة بعد مرَّة من المخلوقين المعللين بالطَّعام والشَّراب، وقال أبو عبيدة: كلُّ من أكل فهو مُسَحَّر، وذلك أنَّ له سِحرًا يفري ما أكل فيه، انتهى، والسَّحْر _بمهملتين بفتح ثم سكون_: الرِّئة.
          وقال الفرَّاء: المعنى أنك تأكل الطَّعام وتشرب الشَّراب وتُسَحّر به، فأنت بشر مثلنا لا تفضلنا في شيءٍ يعني: لست بملك، وقيل: من السِّحر _بالكسر_.
          ({لَيْكَةُ}) بلام مفتوحة بلا ألف وصل قبلها ولا همزة بعدها، غير منصرف اسم غير معرف بأل مضاف إليه أصحاب، وبه قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر، وفي رواية أبي ذرٍّ: <واللَّيكة> بألف وصل وتشديد اللام (وَالْأَيْكَةُ) بألف وصل وسكون اللام وفتح الهمزة (جَمْعُ: أَيْكَةٍ، وَهْيَ جَمْعُ شَجَرٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وهي جميع الشَّجر>، وفي نسخة: <وهي الغيضةُ> أي: الأجمة، أشارَ به إلى قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] قال الجوهريُّ: من قرأ {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} فهي الغيضةُ، ومن قرأ ((ليكة)) فهي القرية، وقال: الأيك: الشَّجر الكثير الملتفُّ، الواحدة: أيكة. وقوله: «جمع أيكة... إلى آخره» من كلام أبي عبيدة، وقال العيني: كذا في النُّسخ جمع: أيكة، / وهو غيرُ صحيح، والصَّواب أن يُقال: واللَّيكة والأيكة مفرد أيك، ويُقال: جمعها أيك، والعجب من بعض الشُّراح حيث لم يذكر هنا شيئًا، بل قال: الكلام الأوَّل من قول مجاهد، ومن جمع الأيكة... إلى آخره من كلام أبي عبيدة، وحاشا من مجاهد ومن أبي عبيدة أن يُقولا: الأيكة جمع أيكة. وقوله: «وهي جمعُ شجر» كذا للأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ: «وهي جميع الشَّجر»، وفي بعض النسخ: <وهي جماعة الشَّجر>.
          وعلى كلِّ تقدير هذا في نفس الأمر تفسير الغيضة التي يُفسَّر بها الأيكة؛ لأنَّ الغيضة هي جماعة الشَّجر، وإذا لم يفسر الأيكة بالغيضة لا يستقيم هذا الكلام، فافهم، فإنَّه موضع التأمُّل، وقيل: وكان شجرهم الدَّوْم وهو المقل.
          ({يَوْمِ الظُّلَّةِ}: إِظْلاَلُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء:189] وفسَّر {الظُّلَّة} بقوله: «إظلال العذاب إيَّاهم»، وقد وصله الفريابيُّ، وتقدَّم أيضًا في «أحاديث الأنبياء ‰» [خ¦60/35-5238]. وفي التَّفسير معنى: الظُّلَّة هنا السَّحابة التي أظلَّتهم؛ أي: على نحو ما اقترحوا بأن سلَّط الله عليهم الحرَّ سبعة أيامٍ حتى غلتْ أنهارهم، فأظلَّتهم سحابةٌ فاجتمعوا تحتها فأمطرتْ عليهم نارًا فاحترقوا.
          ({مَوْزُونٍ}: مَعْلُومٍ) كذا وقع هنا وهو في غير محلِّه إذ هو في سورة الحجر، وكأنَّه من سهو النَّاسخ، وقد وصله ابن أبي حاتم كذلك، ووصله الفريابي عن مجاهد في قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] قال: بقدر مقدور، وفي بعض النُّسخ وقع هنا: <ليكة: الأيكة وهي الغيضة>، ووصله ابن أبي حاتم بهذا اللَّفظ أيضًا.
          ({كَالطَّوْدِ}: كَالْجَبَلِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ والأصيلي، وفي رواية غيره: <الجبل> بدون الكاف، أشار به إلى قوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] وفسَّر: {الطَّوْدِ} بالجبل، ووقع هذا في رواية أبي ذرٍّ منسوبًا إلى ابن عبَّاس ☻ ، وفي رواية غيره إلى مجاهد، ووصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ وزاد: على نَشَزٍ من الأرض، ووصله الفريابي أيضًا من طريق مجاهد.
          ({فِي السَّاجِدِينَ}: الْمُصَلِّينَ) أشار به إلى قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] وفسَّر {السَّاجِدِينَ} / بالمصلِّين، وكذا فسَّره الكلبي، وقال: الذي يرى تصرُّفك مع المصلِّين في أركان الصَّلاة في الجماعة قائمًا وقاعدًا وراكعًا وساجدًا.
          قال الثَّعلبي: هو رواية عن ابن عبَّاس ☻ ، وقال مقاتل: مع المصلِّين في الجماعة؛ أي: يراك حين تقوم وحدَك للصَّلاة، ويراك إذا صلَّيت مع الجماعة، وقال مجاهد: يرى تقلُّب بصرك في المصلِّين، فإنه كان يبصرُ من خلفه، كما يبصرُ من أمامه. وعن ابن عبَّاس ☻ : تقلُّبك في أصلابِ الأنبياء من نبيٍّ إلى نبيٍّ حتَّى أخرجتك في هذه الأمة.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: كَأَنَّكُمْ) أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] إنَّ معنى {لَعَلَّكُمْ} كأنَّكم، وصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، به. وكأن المراد أنَّ ذلك بزعمهم؛ لأنَّهم كانوا يستوثقون من البناء ظنًا منهم أنَّها تُحصنهم من أمرِ الله، فكأنَّهم صنعوا صنيعَ من يعتقد أنَّه يخلد، وحاصله كأنَّكم تخلدون في الدُّنيا، وليس ذلك بحاصلٍ لكم بل زائلٌ عنكم، كما زال عمَّن قبلكم، وقرأ أبيُّ بن كعب ☺: (▬كأنكم تخلدون↨)، وقرأ ابن مسعود ☺: (▬كي تخلدوا↨)، وحكى البغوي في «تفسيره» عن الواحديِّ: كل ما وقع في القرآن لعلَّ، فإنَّها للتَّعليل إلَّا هذا الحرف، فإنَّه للتشبيه، ويؤيِّده قراءة (▬كأنكم↨).
          وقال الحافظُ العسقلاني: كذا قال، وفي الحصر نظر لأنَّه قد قيل مثل ذلك في قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6].
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ ، وقيل: غير مجاهد، والاختلاف في تفسير الضَّمير بناء على الاختلاف في التَّقديم والتَّأخير في هذه التَّفاسير ({لَشِرْذِمَةٌ}: طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] وفسَّر: ((الشِّرذمة)) بقوله: «طائفةٌ قليلة»، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}؛ أي: طائفة قليلةٌ، / وذهبَ إلى القوم فقال: قليلون.
          والحاصل أنَّه ذكرهم بالاسم الدَّال على القلَّة، ثمَّ جعلهم قليلًا بالوصف، ثمَّ جمع القليل فجعلَ كلَّ حزبٍ منهم قليلًا، واختار جمع السَّلامة الذي هو جمع قلَّة، وإنما استقلَّهم وكانوا ستمائة ألف على ما أورده الفريابي وغيره عن مجاهد.
          وروى عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة قال: ذُكر لنا أنَّ بني إسرائيل الذين قطعَ بهم موسى البحر كانوا ستمائة ألف مقاتل بَني عشرين سنة فصاعدًا، وأخرج ابنُ أبي حاتم من طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ☺ قال: كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفًا. ومن طريق أبي إسحاق عن عَمرو بن ميمون مثله بالنِّسبة إلى جنود فرعون، فإنَّه لا يُحْصَى عدد أصحاب فرعون، فروي أنَّه خرج وكانت مقدِّمته سبعمائة ألف.
          وقال الثَّعلبي: أرسل فرعون في إثرِ موسى ◙ لمَّا خرج مع بني إسرائيل ألف ألف وخمسمائة ألف ملك، مع كلِّ ملك ألف فارس، وخرجَ فرعون في الكرسي العظيم، وكان فيه ألفا ألف فارس. فإن قيل: رُوي عن ابن عبَّاس ☻ : أتبعه فرعون في ألفي حصان سوى الإناث، وكان موسى ◙ في ستمائة ألف من بني إسرائيل فقال فرعون: إنَّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون، فكيف التَّوفيق بين الكلامين؟.
          فالجواب: أنَّه يحتمل أن يكون مراد ابن عبَّاس ☻ خواص فرعون الذين يلازمونه ليلًا ونهارًا، ولم يذكر غيرهم على أنَّ ما ذكره الثَّعلبي لا يخلو عن نظرٍ، هذا ثمَّ إنَّ قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} معمول لقال المقدَّر؛ أي: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، قال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} الآية، والقول يجوز أن يكون حالًا؛ أي: أرسلهم قائلًا ذلك، ويجوز أن يكون مفسرًا لأرسل، والله تعالى أعلم.
          (الرِّيعُ: الأَيْفَاعُ مِنَ الأَرْضِ، وَجَمْعُهُ: رِيَعَةٌ) بكسر الراء وفتح التحتية والعين المهملة، كديك ودِيَكة (وَأَرْيَاعٌ) أي: وهو (وَاحِدُ الرِّيَعَةِ) بكسر الراء وفتح التحتية كالأوَّل، وفي رواية أبي ذرٍّ والأصيلي: <واحده>، وفي نسخة: <واحدها: ريْعة> بسكون التحتية، أشار / به إلى قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] وقال: الريع: «الأيفاع من الأرض»، والأَيفاع _بفتح الهمزة_ جمع: يافع، وهو المكان المرتفع من الأرضِ، ومنه يُقال: غلامٌ يافع: من أيفعَ الغلام؛ أي: ارتفع، والصَّواب اليَفَاع من الأرض _بفتح الياء والفاء_ وهو المرتفعُ منها، وقد فسَّر {الرِّيع} بكسر الراء، بقوله: الأيفاع أو اليفاع من الأرض.
          وقال الجوهري: يُقال: غلام يافعٌ ويَفَع ويَفَعة، وغلمان أيفاع ويفعة أيضًا، وقال: والرِّيع _بالكسر_ المرتفع من الأرض، وقال عُمارة: هو الجبل، والريع أيضًا الطَّريق. روى عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {بِكُلِّ رِيعٍ} أي: بكلِّ طريق، وكذا قال المفسِّرون، وقيل: الفج بين الجبلين. وعن مجاهد: الثنية الصَّغيرة، وعن عكرمة: وادٍ، وعن ابن عبَّاس ☻ : {بِكُلِّ رِيعٍ} يعني: بكل شرف، والرَّيع _بالفتح_: النَّماء، ومنه ريع الأملاك، وقوله: «وجمعه»؛ أي: جمع الريع: رِيَعة _بكسر الراء وفتح الياء_ كقرد وقردة، وقد تقدَّم، وقوله: «وأرياع»، واحد الرِّيْعة _بكسر الراء وسكون الياء_، كذا ضبطه الحافظ العسقلاني، وتبعه العينيُّ.
          وعند جماعة من المفسِّرين ريع واحد وجمعه: أرياع، ورِيَعة _بالتحريك_، ورِيَع جمع أيضًا، واحده: رَيْعة _بالسكون_ كعِهْن وعِهْنةٌ، وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} الرِّيع: الأيفاع من الأرض، والجمع: أرياع وريعة، والرِّيعة واحدة: أرياع، وقال البرماويُّ كالكرماني: وأما الأرياعُ فمفرده رِيْعة _بالكسر والسكون_.
          ({مَصَانِعَ}: كُلُّ بِنَاءٍ فَهْوَ مَصْنَعَةٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء:129] وقال: كلُّ بناء فهو مَصْنَعة، وهو قول أبي عبيدة، وزاد: بفتح النون وبضمها، وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: المصانع القصور والحصون، وقال عبد الرَّزَّاق: المصانعُ عندنا بلغة أهل اليمن القصور العادية، وقال سفيان: ما يُتَّخذ فيه الماء يعني: كالحوض، وفي رواية ابنِ أبي حاتم من طريق ابنِ أبي نَجيح عن مجاهد، قال: المصانعُ: القصور المشيَّدة، ومن وجه آخر قال: المصانع: بروجُ الحَمَام.
          ({فَرِهِينَ}: مَرِحِينَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <فرحين> بالفاء بدل الميم، أشار به إلى قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149] / وفسَّره بقوله: «مرحين»، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وله تفسير آخر في الذي بعده، وسيأتي تفسير الفرحين: بالمرحين، في «سورة القصص» [خ¦65-6977]، وهو جمع: مرح، صفة مشبَّهة من مرِح _بالكسر_ مرحًا، والمرح: شدَّة الفرح والنَّشاط، وعن ابن عبَّاس ☻ : أشرين، وعن الضحَّاك: كيسين، وعن قتادة: معجبين بصنيعهم، وروى ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: آمنين، وعن مجاهد: شرهين، وعن عكرمة: ناعمين، وعن السُّدي: متحيرين، وعن ابن زيد: أقوياء، وعن الكسائي: بطرين، وعن الأخفش: فرحين، كما في رواية أبي ذرٍّ، وقال الحافظ العسقلاني: وصوَّبه بعضُهم لقرب مخرجِ الحاء من الهاء وليس بشيءٍ.
          وقال العيني: أراد بالمصوب صاحب «التوضيح»، وردَّه عليه ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الهاء والحاء من حروف الحلق، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل: مدحته ومدهته، انتهى فليتأمَّل.
          ({فَارِهِينَ}: بِمَعْنَاهُ) أي: بمعنى فرهين من قولهم: فره الرَّجل فهو فاره (وَيُقَالُ: {فَارِهِينَ}: حَاذِقِينَ) هو كلام أبي عبيدة أيضًا، وكذا روي عن عبد الله بن شدَّاد، وقال الثَّعلبي: وقرئ {فَارِهِينَ} بالألف؛ أي: حاذقين بنحتها، وقيل: متحيرين بمواضع نحتها.
          ({تَعْثَوْا}: أَشَدُّ الْفَسَادِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:183] وتفسيره بأشدِّ الفساد تفسير مصدر {تَعْثَوْا}؛ لأنَّه من عثا في الأرض يَعْثو: أفسد، وكذلك عَثِي _بالكسر_ يَعْثَى، فمصدر الأوَّل عُثو، ومصدر الثاني عثي (عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا) كذا في رواية أبي ذرٍّ: <وعاث> بالواو، وفي رواية غيره سقط الواو، أراد بهذا أنَّ معنى عاث مثل معنى عثى: أفسدَ، وليس مراده أن تَعْثَو مشتقٌّ من عاث؛ لأنَّ تعثوا معتل اللام ناقص، وعاث معتل العين أجوف، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} هو من عَثِيَتْ تَعثِي، وهو أشدُّ مبالغة من عثت تعيث.
          وروى ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة: {وَلَا تَعْثَوْا} أي: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
          ({الْجِبِلَّةُ}: الْخَلْقُ، جُبِلَ خُلِقَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:184] وفسَّرها بالخلق، وقوله: جُبِل وخُلِق كلاهما على البناء للمفعول (وَمِنْهُ) أي: ومن هذا الباب ({جُبُلًا}) / بضم الجيم والموحدة وتخفيف اللام (وَ{جُبْلًا}) بضم الجيم وسكون الموحدة وتخفيف اللام (وَ{جُبُلًّا}) بضم الجيم والموحدة وتشديد اللام، أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] في سورة يس، وفيه قراءات شتَّى ذكر البخاري هنا ثلاث قراءات. وقرأ نافع وعاصم: بكسر الجيم والموحدة وتشديد اللام، وقرأ أبو عَمرو وابن عامر: بضم الجيم وسكون الموحدة، وقرأ الباقون من السَّبعة: بضمتين مع تخفيف اللام، وقرأ روح عن يعقوب: بضمتين مع تشديد اللام، وقرأ الأعمش: بكسرتين وتخفيف اللام، وقرئ أيضًا: بكسر الجيم وسكون الموحدة.
          (يَعْنِي: الْخَلْقَ، قَالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، كذا في رواية أبي ذرٍّ ولم يقع عند غيره، قال الحافظُ العسقلاني: وهو أولى، فإنَّ هذا كله كلام أبي عبيدة قال في قوله: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} أي: الخلق، هو من جُبِل على كذا؛ أي: خلق، وفي القرآن: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} مثقَّل وغيرُ مثقَّل، ومعناه: الخلق، انتهى. وقوله: مثقَّل وغيرُ مثقل، لم يبيِّن كيفيتهما وقد بيَّناها، وأخرج ابنُ المنذر من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال في قوله: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:184] قال: خلق الأوَّلين. ومن طريق مجاهد قال: {الْجِبِلَّةَ} الخلقة، وفي رواية ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي عمر عن سفيان مثل قول ابن عبَّاس ☻ ، ثمَّ قرأ: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] فليتأمَّل.