نجاح القاري لصحيح البخاري

{حم عسق}

          ░░░42▒▒▒ ({حم عسق} (1)): ويُروى: <سورة حم عسق> بزيادة لفظ: <سورة>، قيل: قطع {حم عسق} ولم يقطع {كهيعص} و{المر} و{المص}؛ لكونها بين سور أوائلها {حم} فجرت مجرى نظائرها قبلها وبعدها، فكان {حم} مبتدأ، و{عسق} خبره، ولأنَّهما عُدَّا آيتين، وعُدت أخواتها التي كتبتْ موصولة آية واحدة، وقيل: لأنَّها خرجت من حيِّز الحروف وجُعلت فعلًا معناه {حم} أي: قضى ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة بخلاف أخواتها؛ لأنَّها حروف التَّهجي لا غير، وذكروا في {حم عسق} معاني كثيرة ليس هنا محلُّ ذكرها، وهي مكيَّة.
          قال مقاتل: وفيها من المدني قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ} [الشورى:23] الآية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]. إلى قوله: {أُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]. وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانون حرفًا، وثمانمائة وست وعشرون (2) كلمة، وثلاث وخمسون آية.
          (╖) قد سقطت البسملةُ في رواية غير أبي ذرٍّ (يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ ({عَقِيمًا} لاَ تَلِدُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <التي لا تلد> بزيادة لفظ: <التي>؛ أي: يُذكر عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:50] هي المرأةُ التي لا تلد. وصله ابنُ أبي حاتم والطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ بلفظ: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} قال: لا يُلقح. وذكره باللَّفظ المعلَّق جُويبر عن الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس ☻ ، وفيه ضعفٌ وانقطاع وكأنَّه لم يجزم به لذلك.
          ({رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: الْقُرْآنُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] وفسَّر الروح: بالقرآن، وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة / عن ابن عباس ☻ بهذا. وروى الطَّبري من طريق السُّدي. قال في قوله تعالى: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قال: وحيًا، ومن طريق قتادة عن الحسن قال في قوله: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: رحمة.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}: نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى:11] الآية. إن معنى {يَذْرَؤُكُمْ}: نسل بعد نسلٍ من الناس والأنعام؛ أي: يخلقكم، وكذا رواه الطَّبري من طريق السُّدي يُقال: ذرأَ الله الخلقَ يذرؤهُم إذا خلقهم، وكأنَّه يختصُّ بخلق الذُّرِّية بخلاف برأ لأنَّه أعمُّ. وقال القُتبي: أي: في الرُّوح، وخطأ من قال: في الرحم؛ لأنَّها مؤنَّث ولم تذكر.
          ({لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا}: لاَ خُصُومَةَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <{لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا خصومةَ بيننا وبينكم> أشار به إلى قوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى:15] وفسَّر الحجَّة: بالخصومة، وصله الفريابيُّ عن مجاهد بهذا. وروى الطَّبري من طريق السُّدي في قوله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى:16] قال: هم أهل الكتاب قالوا للمسلمين: كتابنا قبل كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم.
          وفي «اللباب»: وهذه الآية نسختها آية القتال. وقال القاضي: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا حجاج؛ يعني: لا خصومة، إذ الحقُّ قد ظهرَ ولم يبق للمحاجَّة مجال، ولا للخلاف مبدأٌ سوى العناد، وليس في الآية ما يدلُّ على مُتاركة الكفَّار رأسًا حتى تكونَ منسوخة بآية القتال.
          ({مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}) أشار به إلى قوله تعالى: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] وفسَّر قوله: {خَفِيٍّ} بقوله: (ذَلِيلٍ) بالذال المعجمة؛ أي: كما ينظر المصبور إلى السَّيف. وصله الفريابيُّ عن مجاهد بهذا، وروى الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ مثله. ومن طريق قتادة وطريق السُّدي في قوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} / قال: يُسارقون النَّظر، وتفسير مجاهد يلازم هذا.
          فإن قيل: إنَّه تعالى قال في صفة الكفار: إنَّهم يحشرون عميًا، وقال هنا: {يَنْظُرُوْنَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. فالجواب: أنَّه لعلَّهم يكونون في الابتداء كذلك ثمَّ يصيرون عميًا.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}: يَتَحَرَّكْنَ وَلاَ يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ) أي: قال غير مجاهد في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:32-33] وفسَّر قوله: {يَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} بقوله: «يتحركنَ ولا يجرينَ في البحر»؛ أي: يضطربنَ من الأمواج ولا يجرينَ في البحر؛ لسكون الرِّيح، وبهذا التَّقرير يندفعُ اعتراضُ من زعم أنَّ لا سقطت من قوله: «يتحركن»، قال: لأنَّهم فسَّروا {رَوَاكِدَ} بسواكن، وتفسير: {رَوَاكِدَ} بسواكن قول أبي عُبيدة، ولكنَّ السكون والحركة في هذا أمرٌ نسبي.
          وروى الطَّبري من طريق سعيد عن قتادة، قال: سفن: هذا البحر تجري بالرِّيح فإذا أُمْسكت عنها الرِّيح ركدت. وقال صاحب «التلويح»: هذا أيضًا عن مجاهد، ورُدَّ عليه بقوله: و«قال غيره» _أي: غير مجاهدٍ_ لأنَّ ما قبله تفسير مجاهد.
          وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي: ومن علاماته الدَّالَّة على وحدانيَّته وعظمته {الجَوَارِيْ} يعني: السُّفن، وهي جمع: جارية، وهي السَّائرة، وقوله: {كَالأَعْلَامِ} أي: كالجبال جمع: عَلَم _بفتحتين_. وعن الخليل: كلُّ شيءٍ مرتفعٌ عند العربِ فهو علم. وقوله: {رَوَاكِدَ} أي: ثوابت وقوفًا. وقوله: {عَلَى ظَهْرِهِ} أي: ظهر الماء لا تجري.
          ({شَرَعُوا}: ابْتَدَعُوا) أشار به إلى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وفسَّر {شَرَعُوا} بقوله: «ابتدعوا»، وهو قول أبي عبيدة.


[1] في هامش الأصل: قد بُدئ في هذه القطعة الحادية والعشرون المبتدأة بسورة الشورى يوم الاثنين السابع من أيام شهر رجب المرجب المنسلك في سلك شهور السنة الحادية والخمسين بعد المائة والألف، يسر الله تعالى إتمامها وإتمام ما يتلوها إلى آخر الكتاب بحرمة النبي ╕ وعلى آله وأصحابه.
[2] في العمدة والبيان في عدد آي القرآن للداني وستون