نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة الرحمن

          ░░░55▒▒▒ (سُوْرَةُ الرَّحْمَنِ) قال أبو العبَّاس: أجمعوا على أنَّها مكيَّةٌ إلَّا ما روى همام عن قتادة أنَّها مدنيَّة. قال: وكيف تكون مدنيَّة وإنَّما قرأها النَّبي صلعم بسوق عكاظ فسمعته الجنُّ، وأوَّلُ شيءٍ سمعت قريش من القرآن جهرًا: سورة الرَّحمن، قرأها ابن مسعود ☺ عند الحجر فضربوه حتَّى أثروا في وجهه. وفي رواية سعيد عن قتادة: أنَّها مكيَّة، وقيل: متبعضة. وقال السَّخاويُّ: نزلت قبل: {هَلْ أَتَى} [الإنسان:1] وبعد سورة الرعد.
          وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفًا، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وثمان وسبعون آية، وقيل: ست وسبعون، نزلت حين قالوا: وما الرَّحمن؟ والرحمن آيةٌ عند الأكثرين وارتفاعه على أنَّه مبتدأ محذوف الخبر أو بالعكس، وقيل: الخبر {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وهو تمام الآية، والله تعالى أعلم.
          (╖) ولم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ (قَالَ) وفي نسخة: <وقال> بالواو (مُجَاهِدٌ: {بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]: كَحُسْبَانِ الرَّحَى) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] كحُسبان الرَّحى، معناه: / يدوران في مثل قطبِ الرَّحى، ويجريان بحسب الحركة الرَّحوية. والحسبان قد يكون مصدر حَسَبْته أَحْسُبه _بالضم_ حُسْبًا وحِسْبانًا مثل: الغُفْران والكُفْران والرُّجْحان والنُّقْصان والبُرْهان، وقد يكون جمع: حساب كشهابٍ وشهبان؛ أي: يجريان في منازلهما لا يعدوانها. وكذا روي عن ابن عبَّاس ☻ وقتادة.
          وعن الضَّحَّاك: بعَدَد يجريان، وعن ابن زيد وابن كيسان: بحسب الأوقات والأعمار والآجال. وعن السُّدي بأجل كآجال النَّاس، فإذا جاء أجلهما هلكا، وعن يمان: يجريان بأجل الدُّنيا وقضائها وفنائها. وتعليق مجاهد هذا رواه عبد بن حُميد عن شبابة عن ورقاء، عن ابنِ أبي نجيح عنه. ولفظ أبي يحيى عنه قال: يدوران في مثل قطب الرَّحى كما مرَّ، ولم يثبتْ هذا التَّعليق إلَّا في رواية أبي ذرٍّ.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهد، وقد سقط قوله: <وقال غيره> في رواية غير أبي ذرٍّ ({وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ}: يُرِيدُ لِسَانَ الْمِيزَانِ) أي: قال غير مجاهد في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] يريد لسان الميزان، وهذا كلام الفرَّاء بلفظه. وروي هكذا عن أبي الدَّرداء ☺ فإنَّه قال: أقيموا لسان الميزان بالقسطِ؛ أي: بالعدلِ.
          وعن ابن عُيينة: الإقامةُ باليد، والقسط بالقلب {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] أي: لا تطفِّفوا في المكيلِ والموزون. وقد أخرجَ ابنُ أبي حاتم من طريق المغيرة قال: رأى ابن عبَّاس ☻ رجلًا يزنُ قد أرجحَ، فقال: أقمِ اللِّسان، كما قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } [الرحمن:9]. وأخرج ابنُ المنذر من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قال: اللِّسان.
          ({وَالعَصْفُ}) ويُروى: بدون الواو (بَقْلُ الزَّرْعِ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ) أي: الزرع (فَذَلِكَ الْعَصْفُ. وَالرَّيْحَانُ: وَرَقُهْ) وفي رواية أبي ذرٍّ والأصيلي: <رزقه> بالراء والزاي (وَالْحَبُّ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ) أي: من الزَّرع (وَالرَّيْحَانُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: الرِّزْقُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12] وفسَّر: العصف والرَّيحان والحب بقوله: بَقْل الزرع...إلى آخره. وهو كلام الفرَّاء، لكن ملخصًا ولفظه: العصفُ فيما ذكروا: بَقْل الزَّرع؛ لأنَّ العرب تقول: خرجنا نعصف الزَّرع إذا قطعوا منه شيئًا / قبل أن يُدْرِك، والباقي مثله لكن قال: والرَّيحان رزقه وهو الحبُّ(1) ... إلى آخره، وزاد في آخره: قال: ويقولون: خرجنا نطلب ريحان الله؛ أي: رزقه.
          وأخرج الطَّبري من طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ قال: العصفُ ورق الزَّرع الأخضر الَّذي قُطع رأسه فهو يُسمَّى العصف إذا يبسَ. وروى ابنُ أبي حاتم من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ ☻ : العصفُ أوَّل ما يخرجُ بقلًا. وعن ابن كيسان: العصف ورق كلِّ شيءٍ خرج منه الحبُّ يبدو أولًا ورقًا، ثمَّ يكون سوقًا، ثمَّ يحدث الله فيه أكمامًا، ثمَّ يحدث في الأكمام الحب. وقوله: «والريحان ورقُه»؛ أي: ورق الحب.
          وفي بعض النسخ: <رزقه> بالراء والزاي، ونقله الثَّعلبي عن مجاهد: الرَّيحان الرزق. وعن مقاتل بن حيان: الرَّيحان الرِّزق بلغة حمير. وعن ابن عبَّاس ☻ : الرَّيحان الريع، وعن الضَّحَّاك: هو الطَّعام، فالعصف هو التِّبن والرَّيحان ثمرته. وعن الحسن وابن زيد: هو ريحانكم هذا الَّذي تشمُّونه. وعن قتادة: الَّذي يشمُّ أو كلُّ بقلةٍ طيِّبة الرِّيح سُمِّيت ريحانًا؛ لأنَّ الإنسان يراح لها رائحةً طيبة؛ أي: يشمُّ. وعن ابن عبَّاس ☻ أيضًا: هو خضرة الزَّرع.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْعَصْفُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: سقطت واو العطف (يُرِيدُ: الْمَأْكُولَ مِنَ الْحَبِّ، وَالرَّيْحَانُ: النَّضِيجُ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ) هو: بقية كلام الفرَّاء، فإنَّه قال: العصفُ: المأكولُ من الحبِّ، والرَّيحان: النَّضيج الَّذي لم يؤكل، وكذا قال أبو عبيدة. والنَّضيج: فعيل بمعنى المنضوج، يُقال: نضج الثَّمر واللَّحم نضجًا؛ أي: أدرك فهو نضيج وناضجٌ وأنضجتُه أنا. وروى ابن أبي حاتم من طريق الضَّحَّاك قال: العصف: البُر والشعير. ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس ☻ قال: الرَّيحان حين يستوي الزَّرع على سُوقه ولم يُسنبل.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <وقال مجاهد: العصف: ورقُ الحنطة، والرَّيحان الرِّزق>، / وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه مفرقًا.
          (وَقَالَ الضَّحَّاك: الْعَصْفُ (2) التِّبْنُ) وصله ابن المنذر من طريق الضَّحَّاك بن مزاحم، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ مثله، وأخرج عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قتادة مثله.
          (وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ) هو: الغفاري كوفيٌّ تابعي. قال أبو زُرعة: لا يُعرف اسمه، وقال غيره: اسمه غزوان _بمعجمتين_ وليس له في البخاريِّ إلَّا هذا الموضع.
          (الْعَصْفُ: أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ، تُسَمِّيهِ النَّبَطُ) بفتح النون والموحدة ثم طاء مهملة، هم أهلُ الفلاحة من الأعاجم ينزلون بالبطائحِ بين العراقين (هَبُورًا) بفتح الهاء وضم الموحدة المخففة وسكون الواو بعدها راء، دقاق الزَّرع بالنَّبطية. وقد قال ابن عبَّاس ☻ في قوله: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل:5] هو الهَبُور. وقول أبي مالك هذا رواه يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عنه.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ، وَالرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ) وقد سقط هذا في أكثر النسخ كما مر الإشارة إليه، وقد رواه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد هكذا.
          تنبيه: قرأ الجمهور: ({والريحانُ}) بالضم عطفًا على الحب، وقرأ حمزة والكسائي بالخفض عطفًا على العصف. وقرأ ابن عامر بنصب الثلاثة: ({والحب ذا العصف والريحان}) فقيل: عطف على الأرض؛ لأنَّ معنى وضعها جعلها، فالتَّقدير: وجعل الحبَّ...إلى آخره، وحكي (▬والحبُّ ذا العصف↨) برفع: الحب، ونصب: ذا العصف، قيل: ولم يقرأ بها أحد.
          قال الفرَّاء: ونظير ما وقع في هذا الموضع ما وقع في مصاحف أهل الكوفة: ▬وَالْجَارِ ذِا الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ↨ قال: ولم يقرأ بها أيضًا أحدٌ، انتهى.
          وكأنَّه نفى في المشهور، وإلَّا فقد قُرئ بها أيضًا في الشَّواذ، نبَّه عليه الحافظ العسقلاني. ثمَّ الرَّيحان بوزن فعلان من ذوات الواو أصله: روحان من الرائحة، فأبدلت الواو للفرق بينه وبين الزوجان، وهو كلُّ شيءٍ له زوج. /
          (وَالْمَارِجُ) وفي نسخة: سقطت الواو، وهي رواية أبي ذرٍّ (اللَّهَبُ الأَصْفَرُ وَالأَخْضَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وفسَّر المارج بما ذكره. وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا، وكذا رواه ابن أبي حاتم بسنده عن مجاهد. وزاد غير مجاهد: والأحمر، وهذا مشاهد في النَّار ترى الألوان الثلاثة يختلطُ بعضُها ببعض، وهو من مرج أمر القوم إذا اختلط. وعن ابن عبَّاس ☻ : هو لسان النَّار الذي يكون في طرفها إذا التهب، وقيل: من مارجٍ من لهبٍ صافٍ خالصٍ لا دخان فيه، والجان أبو الجنِّ، وعن الضَّحَّاك: هو إبليسُ، وعن أبي عبيدة: الجان واحد الجنِّ.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ}: لِلشَّمْسِ: فِي الشِّتَاءِ مَشْرِقٌ، وَمَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مَغْرِبُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) أي: ومغربها في الصَّيف، أشار به إلى قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، وفسَّره بما ذكره، وصله الفريابي أيضًا. وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة، وسعيد بن منصور من طريق أبي ظبيان كلاهما عن ابن عبَّاس ☻ قال: للشمس مطلعٌ في الشِّتاء ومغربٌ، ومطلعٌ في الصَّيف ومغربٌ. وأخرج عبد الرَّزَّاق من طريق عكرمة مثله.
          وزاد: وقوله: {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (3) [المعارج:40] لها في كلِّ يومٍ مشرقٌ ومغرب، ويُقال: المراد مشرق كلِّ فصلٍ ومغربه، أو كلِّ برجٍ، أو كلِّ كوكب. وروى ابن أبي حاتم من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاس ☻ قال: المشرقين: مشرق الفجر ومشرقُ الشَّفق، والمغربين: مغرب الشَّمس ومغرب الشَّفق. وقيل: مشرقا الشَّمس والقمر ومغرباهما، وذكر غاية ارتفاعهما وانحطاطهِمَا إشارة إلى أنَّ الطَّرفين يتناولان ما بينهما كقولك في وصف ملك عظيم: له المشرق والمغرب، فيُفهم منه أنَّ له ما بينهما، ويؤيده قوله تعالى: {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (4) [المعارج:40].
          ({لاَ يَبْغِيَانِ}: [الرحمن:20] لاَ يَخْتَلِطَانِ) أشار به إلى قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19-20] وفسَّره بقوله: «لا يختلطان»؛ أي: ولا يتغيَّران، ولا يبغي أحدهما على صاحبه. وصله الفريابي من طريق مجاهد، وعن قتادة: لا يطغيان على النَّاس / بالغرق، والمراد بالبحرين بحر الرُّوم وبحر الهند، كذا روي عن الحسن قال: وأنتم الحائز بينهما، وعن قتادة: بحر فارس والروم بينهما برزخٌ وهو الجزائرُ. وعن مجاهد والضَّحَّاك: يعني: بحر السَّماء وبحرَ الأرض يلتقيان كلَّ عامٍ، وكذا قال ابنُ عبَّاس ☻ : يعني: بحر السَّماء وبحرَ الأرض. وقال سعيد بن جُبير: يلتقيان في كلِّ عامٍ، وقيل: البحر المالح والأنهارُ العذبة، أو بحر المشرق وبحرُ المغرب، والبرزخُ: الحاجزُ هو القدرة الإلهية.
          وأخرج ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير: عن ابن عبَّاس ☻ قال: بينهما من البعد ما لا يبغي أحدهما على صاحبه، وتقدير قوله: {يَلْتَقِيانِ} على هذا أن يلتقيا فحذف أن وهو سائغٌ في كلام العرب. ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ} [الروم:24]. وهذا يؤيِّد قول من قال: إنَّ المراد بحر فارس وبحر الروم؛ لأنَّ مسافة ما بينهما ممتدَّة، والحلو وهو بحرُ النِّيل أو الفرات مثلًا يصب في الملح، فكيف يسوغُ نفي اختلاطهما، أو يُقال: بينهما بعد، لكن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53] يردُّ على هذا، فلعلَّ المراد بالبحرين في الموضعين مختلف. ويؤيد قول ابن عبَّاس ☻ هنا قوله تعالى في هذا الموضع: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، فإنَّ اللؤلؤ يخرج من بحر فارس، والمرجان يخرج من بحر الرُّوم، وأمَّا النيل فلا يخرج منه لا هذا ولا هذا.
          وأجاب من قال: المراد من الآيتين متَّحد، والبحران هنا العذب والملح بأن معنى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} أي: من أحدهما كما في قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ} [الزخرف:31] وحذف المضاف سائغٌ. وقيل: بل قوله: {مِنْهُمَا} على حاله، والمعنى أنَّهما يخرجان من الملح في الموضع الذي يصل إليه العذب، وهو معلوم عند الغواصين، فكأنَّهما لما التقيا وصارا كالشَّيء الواحد قيل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} وقد اختُلف في المراد بالمرجان، فقيل: هو المعروف بين النَّاس الآن، وقيل: اللُّؤلؤ كبارُ الجوهر، والمرجان صغارُه، وقيل بالعكس. وعلى هذا يكون المراد / بحر فارس، فإنَّه هو الَّذي يخرجُ منه اللُّؤلؤ، والصَّدف يأوي إلى المكان الذي ينصبُّ فيه الماء العذب، كما تقدَّم، والله تعالى أعلم.
          ({الْمُنْشَآتُ}: مَا رُفِعَ قِلْعُهُ مِنَ السُّفُنِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قِلْعُهُ فَلَيْسَ بِمُنْشَأَتٍ) كذا في رواية أبي ذرٍّ بالفوقية المجرورة في الكتابة، وفي غيرها: بالمربوطة، أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن:24] وفسَّرها بما ذكر. وقد وصله الفريابيُّ من طريق مجاهد بلفظه، لكن قال: بمنشأة، بالإفراد، والجواري: السُّفن الكبار جمع: جارية. والقِلْع: بكسر القاف وسكون اللام ويجوز فتحها، واقتصر الكرماني على الكسر. وحكى ابن التِّين: فتحها أيضًا وهو الشِّراع. والمنشآت: بفتح الشين المعجمة في قراءة الجمهور اسم مفعول؛ أي: أنشأها الله وأجراها، أو النَّاس، أو رفعوا شراعها. وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه: بكسرها؛ أي: اللَّاتي تنشئ السَّير إقبالًا وإدبارًا، أو تنشئ الأمواج، أو الرَّافعات الشِّراع، ونسبة ذلك إليها مجازية.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {كَالفَخَّارِ} [الرحمن:14]: كَمَا يُصْنَعُ الفَخَّارُ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] كما يُصنَع الفخَّار، على صيغة المجهول؛ أي: كما يصنع الخزف وهو الطِّين المطبوخ بالنَّار. وقيل: إنَّ ذلك شيءٌ أخذ من تراب الأرض فعُجن فصار طينًا، ثمَّ انتقلَ فصار كالحمأ المسنون، ثمَّ يبسَ فصار صلصالًا كالفخَّار، فلا يخالفُ ذلك قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59]، وليس المرادُ من الفخَّار صانعه، كما توهَّم. وهذا التَّعليق وصله الفريابيُّ من طريق مجاهد.
          (الشُّوَاظُ: لَهَبٌ مِنْ نَارٍ) قاله مجاهد أيضًا، وقال غيره: الَّذي معه دخانٌ، وقيل: اللَّهب الأحمر، وقيل: هو النَّار المحضة بغير دخان. وعن الضَّحَّاك: هو الدُّخان الَّذي يخرج من اللَّهب ليس بدخان الحطب، وهذا _أي: قوله: «وقال مجاهد...إلى آخره»_ ثابت في رواية أبي ذرٍّ، ومع ذلك في بعض النُّسخ متقدِّمٌ على ما قبله، وفي بعضها متأخر عنه، وكذا سائر التَّفاسير المذكورة هنا بعضها متقدِّم وبعضها [متأخر، وبعضها غير موجود] (5) في النسخ.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) كذا في بعض النُّسخ، وسقط في بعضها فاقتصر على قوله: ({وَنُحَاسٌ} [الرحمن:35] النُّحَاسُ) في بعض النُّسخ اقتصر / على قوله: <{وَنُحَاسٌ}>، وفي بعضها على قوله: <النُّحاس>، وقد سقط ذلك في رواية غير أبي ذرٍّ (الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، يُعَذَّبُونَ بِهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <فيعذبون به>، أشار به إلى قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن:35]، وفسَّر: النحاس بما ذكره، وكذا فسَّره مجاهد، وقيل: النحاس الدُّخان الذي لا لهب معه، قال الخليل: وهو معروفٌ في كلامهم، وأنشد للأعشى:
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ                     لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فِيهِ نُحَاسًا
          وقوله: {فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن:35] أي: فلا تمتنعان، وقد تقدَّم في «صفة النَّار» من «بدء الخلق» [خ¦59/10-5048] تفسير: الشُّواظ والنُّحاس.
          ({خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن:46] يَهُمُّ) بفتح الياء وضم الهاء (بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ ╡ فَيَتْرُكُهَا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهٍ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وفسَّره بقوله: «يَهُمُّ»؛ أي: يقصد الرجل بأن يفعلَ معصية أرادها، ثمَّ يذكر الله تعالى وعظمته وأنَّه يُعاقب على المعصية ويثيبُ على تركها فيتركها، فيدخلُ فيمن له جنتان، و{مَقَامَ} مصدر مضاف لفاعله؛ أي: قيام ربِّه عليه وحفظه لأعماله، أو لمفعوله؛ أي: القيام بحقوقِ الله تعالى فلا يضيِّعها، أو المقام مكان فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله تعالى للحساب، قيل: فيه مقام الله، والمعنى خاف مقامه بين يديه للحساب فترك المعصية. وقد ثبت في اليونينية وابن مالك والناصرية هنا ما سبق في رواية أبي ذرٍّ وهو قوله: <الشواظ لهب من نار>.
          ({مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ) أي: من شدَّة الخضرة، والإدهام لغة السَّواد وشدَّة الخضرة؛ لأنَّ الخضرة إذا اشتدَّت ضربت إلى السَّواد، وصله الفريابي عن مجاهد. وقد تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦59/8-5029]، وقال ابن عبَّاس ☻ : خضراوان.
          ({صَلْصَالٍ} [الرحمن:14]: طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ) أي: يصوت كما يصوت الخزف إذا جفَّ وضرب لقوته، أشار به إلى قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} [الرحمن:14] وفسَّره بقوله: طين...إلى آخره؛ أي: ((خلق الإنسان))؛ أي: آدم من طينٍ يابسٍ له صلصلة كالفخار؛ أي: طين خُلط برملٍ، والطِّين إذا خُلط برملٍ ويبسَ صار قويًا جدًا بحيث إنَّه إذا ضرب خرجَ له صوتٌ. وقد تقدَّم / في أول «بدء الخلق» [خ¦60/1-5120].
          (وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ) بضم الميم وكسر التاء (يُرِيدُونَ بِهِ: صَلَّ) أشار به إلى أنَّه يُقال: لحم منتن يريدون به أنَّه صلَّ يقال: صلَّ اللَّحم يَصِلُّ _بالكسر_ صُلولًا؛ أي: أنتن مطبوخًا كان أو نيًّا، وأصلُّ مثله.
          (يُقَالُ) ويُروى: <ويُقال> بالواو (صَلْصَالٌ، كَمَا يُقَالُ: صَرَّ الْبَابُ عِنْدَ الإِغْلاَقِ وَصَرْصَرَ، مِثْلُ: كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي: كَبَبْتُهُ) أشار به إلى أنَّ صلصل مضاعف صل، كما يقال: صرَّ الباب: إذا صوَّت فيضاعف، ويُقال: صرصرَ كما ضُوعف كَبَبته، فقيل: كَبْكبتُه، وكما يُقال في كبَّه: كَبْكَبه، ومنه قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء:94] أصله: كبوا، يُقال: كبَّه لوجهه؛ أي: صرعَه فأكب هو على وجهه، وهو من النَّوادر يُقال: أفعلت أنا وفعلت غيري. وفي هذا النُّوع وهو ما تكررت فاؤه وعينه خلاف. فقيل: وزنه ففعع كررت الفاء والعين ولا لام للكلمة، قاله الفرَّاء وغيره، وغلط؛ لأنَّ أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام، وقيل: وزنه فعفل، وقيل: فعَّل _بتشديد العين_، وأصله: صلَّل، فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة، وهو مذهبٌ كوفيٌّ، وخصَّ بعضُهم الخلاف بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوط الثَّالث نحو لملم وكبكب، فإنَّك تقول فيهما: لمَّ وكبَّ، فلو لم يصحَّ المعنى بسقوطه كسمسم فلا خلاف في أصالةِ الجميع. وقد سقط قوله: <صلصال>...إلى آخره في رواية أبي ذرٍّ.
          ({فَاكِهَةٌ}) وفي نسخة: <{فِيْهِمَا فَاكِهَةٌ}> بزيادة: {فِيْهِمَا} ({وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}) أي: في الجنَّتين اللَّتين ذكرهما بقوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] أي: ومن دون الجنَّتين الأوليين الموعودتين {لمن خافَ مقامَ ربِّه جنَّتان} [الرحمن:46] أخريان، وعن ابن عبَّاس ☻ : {وَمِنْ دُوْنِهِمَا} يعني في الدَّرج، وعن ابن زيد في الفضل.
          (قَالَ) ويُروى: <وقال> (بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ بِالْفَاكِهَةِ) قال صاحب «التوضيح»: يعني: أبا حنيفة ☼ . وقال الكرماني: قيل: أراد به أبا حنيفة. وقال العينيُّ: لا يختصُّ هذا القول بأبي حنيفة وحدَه، فإنَّ جماعةً من المفسِّرين ذهبوا إلى هذا القول كالفرَّاء، فإنَّهم قالوا: ليس الرُّمان والنَّخل بالفاكهة؛ لأنَّ النَّخل ثمرُه فاكهة وطعام، والرُّمان فاكهةٌ ودواء فلم يخلصا للتفكُّه. ولأنَّ الشَّيء لا يُعطفُ على نفسه، وإنما يُعطفُ على غيره؛ لأنَّ العطفَ / يقتضي المغايرة، فلذا قالوا: لو حلف لا يأكلُ فاكهة فأكلَ رطبًا أو رمَّانًا لم يحنث.
          (وَأَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهَا تَعُدُّهَا فَاكِهَةً) هذا جوابٌ من البخاري عمَّا قال بعضهم: ليس الرُّمان والنَّخل بالفاكهة بأنَّ العرب تعدُّها فاكهة، وإنَّما أعاد ذكرهما لفضلهما على الفاكهة، فإنَّ ثمرة النَّخل فاكهة وغذاء، وثمرةَ الرُّمان فاكهة ودواء، فهو من ذكر الخاص بعد العام تفضيلًا له، ولهم أن يقولوا: نحن ما ننكرُ إطلاق الفاكهة عليهما ولكنَّهما غير متمحضين في التفكُّه كما مرَّ، فمن هذه الحيثيَّة لا يدخلان في قول: من حلفَ لا يأكلُ فاكهة.
          (كَقَوْلِهِ تَعَالَى) وفي نسخة: <╡> ({حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة 238]: فَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَعَادَ الْعَصْرَ) أي: صلاة العصر، كما في نسخة (تَشْدِيدًا لَهَا) أي: تأكيدًا لها وتعظيمًا وتفضيلًا (كَمَا أُعِيدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ) أي: كما عطفا على فاكهة، والحاصل: أنَّه من عطف الخاصِّ على العام كما في هذا المثال والذي بعده، ولهم أن يقولوا: لا نسلم أنَّ فاكهة عام؛ لأنَّها نكرة في سياق الإثبات فلا عموم.
          وأجيب: بأنَّها سيقت في مقام الامتنان فتعمُّ، أو ليس المراد بالعام والخاص هنا ما اصطلحَ عليه في الأصول، بل كلُّ ما كان الأول فيه شاملًا للثاني.
          قال الدَّماميني: متى اعتبر الشُّمول جاء الاستغراق، وهو الذي اصطلحَ عليه في الأصول، ولعلَّ المراد كلُّ ما كان الأول فيه صادقًا على الثاني سواء كان هنا استغراق أو لم يكن، وسيجيءُ تمام الكلام فيه.
          (وَمِثْلُهَا) أي: مثل آية {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] قوله تعالى: ({أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18]: ثُمَّ قَالَ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] وَقَدْ ذَكَرَهُمْ) أي: كثيرًا من الناس، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقد ذكرهم الله ╡> (فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ: {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18]) ولهم أن يقولوا: لا مناسبة بين الآيتين المذكورتين وبين هذه الآية؛ لأنَّ {الصَّلَوَاتِ} {وَمَنْ فِي الأَرْضِ} عامَّان بلا نزاع؛ بخلاف لفظ: فاكهة، فإنَّها نكرة في سياق الإثبات / كما مرَّ، وقد عرفت جوابه فيما قبل فتذكر.
          فائدة: اعلم أنَّ الشَّيخ أبا حيَّان نقل قولين في المعطوفات إذا اجتمعتْ هل كلها معطوفة على الأول، أو كل واحدٍ منها معطوف على ما قبله. فإن قلنا بالثاني لم يكن عطف النَّخل والرُّمان من باب عطف الخاص على العام، بل من عطف أحد المتباينين على الآخر.
          ومن هذه الفائدة يتَّجه لك المنازعة في قولهم: إنَّ قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًا للَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] أنَّ هذا من عطف الخاصِّ على العام، فإن قلنا بالقولِ الآخر (6) فجبريل معطوفٌ على لفظِ الجلالة، وإن قلنا بالثاني فهو معطوفٌ على رسلهِ، والظَّاهر أنَّ المراد بهم الرُّسل من بني آدم لعطفِهم على الملائكة، فليتأمل.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] أَغْصَانٍ) أي: قال غير مجاهد؛ وإنما قيل كذا؛ لأنَّه لم يُذكر فيما قبله صريحًا إلَّا مجاهد؛ أي: فسَّر مجاهد قوله: {أَفْنَانٍ} في قوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] بأغصانٍ، وهو جمع: فنن؛ أي: أغصان تتشعَّب من فروع الشَّجرة، قال النابغة:
بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا                     مُفَجَّعَةٍ عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي
          وتخصيصها بالذِّكر؛ لأنَّها التي تورقُ وتثمرُ وتمد الظِّل. وكذا روي عن ابن عبَّاس ☻ ، وفي «التفسير»: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] أي: ألوان فعلى هذا هو جمع فنٍ، وهو من قولهم: افتن فلان في حديثه إذا أخذَ في فنون منه وضروب. وعن عكرمة مولى ابن عبَّاس ☻ {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ظلال الأغصان على الحيطان. وعن الضَّحَّاك: ألوان الفواكه. وقد سقطَ هذا في رواية أبي ذرٍّ هنا، وقد تقدَّم في «صفة الجنَّة» [خ¦59/8-5029].
          ({وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}: مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ) فسَّر قوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] بأن ما يُجتنى من أشجار الجنتين دانٍ؛ أي: قريب تدنو الشَّجرة حتَّى يجتنيها ولي الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، وهذا سقط أيضًا في رواية أبي ذرٍّ.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري ({فَبِأَيِّ آلاَءِ}: نِعَمِهِ) يعني: أنَّه فسَّر الآلاء بالنِّعم على أنَّه جمع: أَلى _بالفتح والقصر، وقد تكسر الهمزة_، وهو النِّعمة، وصله الطَّبري من طريق سهل السَّرَّاج عن الحسن.
          (وَقَالَ قَتَادَةُ: {رَبِّكُمَا}: يَعْنِي: الْجِنَّ وَالإِنْسَ) أي: فسَّر قتادة / ضمير الخطاب بالجنِّ والإنس وإن لم يتقدَّم ذكرهما، وقد دلَّ عليه قوله تعالى: {لِلْأَنَامِ} [الرحمن:10] وقوله: {أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن:31]. وقد وصله ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة، وإنَّما قال: {تُكَذِّبَانِ} بالتَّثنية على عادة العرب.
          والحكمة في تكرارها في هذه السُّورة إحدى وثلاثين مرَّة: أنَّ الله تعالى عدَّد في هذه السُّورة نعماءه، ثمَّ أتبع ذكر كلِّ كلمةٍ وصفها ونعمة ذكرها بهذه الآية، وجعلها فاصلةً بين كلِّ نعمتين لينبِّههم على النِّعم ويقرِّرهم بها، فإنَّ الاستفهام فيها للتَّقرير. وقال الحسين بن الفضل: التَّكرير طرد للغفلة، وتأكيدٌ للحجَّة.
          وقد روى الحاكم عن جابر ☺ قال: قرأَ علينا رسول الله صلعم سورة الرَّحمن حتَّى ختمها، ثمَّ قال: ((ما لي أراكم سكوتًا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردًّا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:32] إلَّا قالوا: ولا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذِّب فلك الحمدُ))، وقيل: المراد بالآلاء القدرة. وقال محمَّد بن علي الترمذيُّ: هذه السُّورة من بين السُّور علم القرآن؛ لأنَّها صفة الملك والقدرة لافتتاحها باسم الرَّحمن ليعلم أنَّ جميعَ ما يصفُه بعد من أفعاله وملكه وقدرتهِ خرج إليهم من الرَّحمة، ثمَّ ذكر الإنسان وما منَّ عليه به، ثمَّ حسبان الشَّمس والقمر، وسجود الأشياء ممَّا نجمَ وشجرَ، ووضع الميزان والأرضَ للأنام وخاطبَ الثَّقلين فقال سائلًا لهم: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:32] أي: بأيَّ قدرةٍ ربكما تكذبان(7) .
          وإنَّما كان تكذيبهم أنَّهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكًا يملك معه ويقدر معه، تعالى الله عن ذلك. وقد سقط قوله: {تُكَذِّبَانِ} في رواية غير أبي ذرٍّ، وثبت في روايته.
          (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ) هو: عويمرُ بن مالك ☺ ({كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}: يَغْفِرُ ذَنْبًا، وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيَرْفَعُ قَوْمًا، وَيَضَعُ آخَرِينَ) وصله ابنُ حبَّان في «صحيحه». ورواه ابنُ ماجه عن هشام بن عمَّار قال: حدَّثنا الوزير بن صالح (8) أبو روح الدَّمشقي، قال: سمعتُ يونس بن مَيْسرة بن حلبس يُحدِّث عن أمِّ الدَّرداء عن أبي الدَّرداء عن سيدنا سيِّد المخلوقين محمَّد صلعم في قوله ╡: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] قال: من شأنه أن يغفرَ ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويرفع قومًا ويضع آخرين. /
          وأخرجه البيهقيُّ في «الشعب» مرفوعًا أيضًا. وللمرفوعِ شاهدٌ عن ابن عمر ☻ أخرجه البزَّار.
          وقيل: يخرج كلَّ يومٍ عساكر عسكرًا من الأصلاب إلى الأرحام، وآخر من الأرحامِ إلى الأرض، وآخر من الأرض إلى القبورِ، ويقبضُ ويبسطُ، ويشفي سقيمًا، ويسقمُ سليمًا، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعزُّ ذليلًا، ويذلُّ عزيزًا. فإن قيل: قد صحَّ أنَّ القلمَ قد جفَّ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. فالجواب: أنَّ ذلك شؤون يبديها لا شؤونٌ يبتدئ بها.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({بَرْزَخٌ}: حَاجِزٌ) أي: قال ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19-20] أي: حاجز بينهما، وقيل: حائلٌ لا يتعدَّى أحدهما على الآخر من قدرة الله تعالى وحكمتهِ البالغة.
          (الأَنَامُ: الْخَلْقُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10]، وفسَّر الأنام بالخلقِ، ونقله النَّووي في «التَّهذيب». وعن ابن عبَّاس ☻ والشَّعبي: الأنام: كلُّ ذي روحٍ، وقيل: بنو آدم خاصَّةً، وقيل: الجنُّ والإنس.
          ({نَضَّاخَتَانِ}: فَيَّاضَتَانِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فِيْهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] وفسَّره بقوله: فياضتان؛ أي: بالخيرِ والبركة. فعن ابن عبَّاسٍ ☻ : ينضخان بالخيرِ والبركة على أهل الجنَّة. وقيل: ممتلئتان، وقيل: فوارتان بالماء لا ينقطعان. وعن الحسن: ينبعان ثمَّ يجريان. وعن سعيد بن جُبير: نضاختان بالماء وألوان الفاكهة. وعن ابنِ مسعود وابن عبَّاس ♥ : تنضخ على أولياء الله تعالى بالمسكِ والعنبر والكافور في دورِ أهل الجنَّة، كما ينضخ رش المطر. وأصل النَّضخ الرَّش، وهو أكثرُ من النضح _بالحاء المهملة_. وقد سقط قوله: <وقال ابنُ عباس> إلى هنا في رواية أبي ذرٍّ.
          ({ذُو الْجَلاَلِ}: ذُو الْعَظَمَةِ) أشار به إلى قوله تعالى: {ذُوْ الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وفسَّره بقوله: «ذو العظمة»، وقد سقط: <ذو> الثاني في رواية أبي ذرٍّ، وذو الإكرام هو الَّذي يُعطي من غير مسألةٍ ولا وسيلةٍ، وقيل: المتجاوز الَّذي لا يستقصي في العتاب.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: / {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] ({مَارِجٍ}: خَالِصٍ مِنَ النَّارِ) أي: من غير دخانٍ.
          وقال البيضاويُّ: ((من مارجٍ)) من صاف من دخان، ((من نار)) بيان لمارجٍ، وهذا مكرَّر؛ لأنَّه ذكر عن قريبٍ، وهو قوله: «والمارج اللَّهب الأصفر»، ومضى الكلام فيه.
          (يُقَالُ) وفي رواية: <ويُقال> بالواو (مَرَجَ الأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلاَّهُمْ) بتشديد اللام؛ أي: تركهم (يَعْدُو) بالعين المهملة (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: يظلم بعضهم بعضًا.
          (مَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ: اخْتَلَطَ) أي: اضطرب، وفي رواية أبي ذرٍّ زيادة: <ويُقال: مرجَ أمرُ النَّاس...إلى آخره> وهذا إشارةٌ إلى أنَّ مرجَ يستعملُ لمعان، فمن ذلك قولهم: مرَجَ الأميرُ رعيَّته: إذا خلاهم...إلى آخره، وهو بفتح الراء، ومن ذلك أيضًا مرِج أمر الناس وهذا بكسر الراء. قال أبو داود: مرج أمر الدِّين فأعددت له؛ أي: فسد أمر الدِّين ومن ذلك.
          ({مَرِيجٍ}) في قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أي: (مُلْتَبِسٌ) وقد سقط هذا في رواية أبي ذرٍّ. وقال العينيُّ: وهذا في رواية أبي ذرٍّ وحدَه أعني قوله: <{مَرِيجٍ} مُلتبس> فافهم.
          ({مَرَجَ البَحْرَيْنِ} [الرحمن:19]) كذا في رواية، وقد سقط في أخرى لفظ <{البَحْرَيْنِ}> هنا (اخْتَلَطَ الْبَحْرَانِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <البحرين> بالياء بدل ألف الرفع (مِنْ مَرَجْتَ) بفتح الراء (دَابَّتَكَ تَرَكْتَهَا) وسقط لفظ: <من> في رواية أبي ذرٍّ؛ أي: تركتها ترعى، وكان ينبغي أن يُذكر هذا عقيب قوله: ((مرج الأمير رعيتَه إذا خلاهم...إلى آخره))؛ لأنَّه في معناه، قاله العينيُّ.
          ({سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن:31]) وسقط في رواية لفظ: <{لَكُمْ}> (سَنُحَاسِبُكُمْ، لاَ يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} [الرحمن:31] وفسَّره بقوله: «سنحاسبُكم» إشارة إلى أنَّ الفراغ مجازٌ عن الحساب، وإلَّا فالله لا يشغلُه شيءٌ عن شيءٍ(9) . وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: وهو وعيدٌ من الله تعالى لعباده، وليس بالله شغل. وقيل: معناه سيقصدُكم بعد الإهمال ويأخذُ في أمركم، وعن ابن كيسان: الفراغ للفعل هو التَّوفر عليه دون غيره.
          (وَهْوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ) أي: المعنى المذكور لقوله: {سَنَفْرُغُ} معروف يستعملُ هو في هذا المعنى (يُقَالُ: / لأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ) من باب التَّفعل من الفراغ، وهو وعيدٌ وتهديدٌ (كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَآخُذَنَّكَ عَلَى غِرَّتِكَ) أي: على غفلةٍ منك.
          وقال الثَّعلبيُّ في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} هذا وعيدٌ وتهديدٌ من الله تعالى كقول القائل: لأتفرغنَّ لك وما به شغل، قاله ابن عبَّاس ☻ والضَّحَّاك.


[1] كذا في الفتح، وفي معاني القرآن للفراء (والريحان هو رزقه، والحب هو الذي يؤكل منه).
[2] في هامش الأصل: وقال البيضاوي: {كَعَصْفٍ مَأْكُوْلٍ} [الفيل: 5] كورق الزرع وقع فيه الآكال، وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرًا منه، أو كتبن أكلته الدواب وراثته من الروث.
[3] الآية ((فلا أقسم بربِّ المشارق والمغارب)).
[4] الآية ((فلا أقسم بربِّ المشارق والمغارب)).
[5] إضافة لبيان تمام الجملة.
[6] في القسطلاني: الأول، وفي نسخة أخرى من الإرشاد كالأصل هنا.
[7] في هامش الأصل: وقيل: كرر {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا} في هذه السورة إحدى وثلاثين مرَّة ثمانية منها ذكرها عقيب آيات فيها تعديد عجائب خلقِ الله ومبدأ الخلقِ ومَعادهم، ثمَّ سبعة منها عقيب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنَّم، وبعد هذه السَّبع ثمانية في وصف الجنَّات وأهلها على عدد أبواب الجنَّة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللَّتين دونهما فمن اعتقدَ الثَّمانية الأولى وعمل بموجباتها استحقَّ كلتا الثَّمانيتين من الله، ووقاه من السَّبعة السَّابقة، والله تعالى أعلم. منه.
[8] كذا في العمدة، وفي سنن ابن ماجه (بن صبيح).
[9] في هامش الأصل: أي: سنتجرد لحسابكما وجزاءكما وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل فيه غيره، وقيل: تهديد مستعار من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وأجد فيه. قاضي.