نجاح القاري لصحيح البخاري

الحاقة

          ░░░69▒▒▒ (سُوْرَةُ الْحَاقَّةِ) سقط لفظ: <سورة> في رواية غير أبي ذرٍّ، والحاقَّة من أسماء يوم القيامة سُمِّيت بذلك لأنَّها حقَّت لكلِّ قومٍ أعمالهم، قاله قتادة أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعمرٍ، عنه. وفي «مسند ابن عباس» عن معاذ: إنَّما سُميت الحاقَّة لأنَّ فيها حقائق الأعمال من الثَّواب والعقاب، وهذه السُّورة مكيَّة في قول الجميع.
          وقال السَّخَّاوي: نزلت قبل المعارج وبعد سورة الملك، وهي ألف وأربعة وثمانون حرفًا، ومائتان وست وخمسون كلمة، واثنتان وخمسون آية.
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ ({حسومًا} مُتَتَابِعَةً) أشار به إلى قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] وفسَّره بقوله: «متتابعة»، وهو قول أبي عبيدة، وكذا فسَّره مجاهدٌ وقتادة. وأخرج الطَّبراني ذلك عن ابن مسعودٍ ☺ موقوفًا بإسنادٍ حسنٍ وصحَّحه الحاكم، ومعنى «متتابعة»: ليس لها فترةٌ، وهو من حسم الكيِّ وهو أن يُتابعَ عليه بالمكواة، وعن الكلبيِّ: دائمة، وعن الضَّحَّاك: كاملةٌ لم تفتر عنهم حتَّى أفنتهم، وعن الخليل: قطعًا / لدابرهم.
          والحسم: القطعُ والمنع، ومنه حسم الدَّواء، وحسم الرَّضاع، وانتصابه على الحالِ، وهذا لم يثبت إلَّا في رواية النَّسفي وحدَه.
          (وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <سعيد بن جبير> ({عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} يُرِيدُ فِيهَا الرِّضَا) أي: قال سعيد بن جُبير في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيْشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] يريد فيها الرِّضا؛ أي: ذات الرِّضا، أراد أنَّه من باب: ذا كذا كتامر ولابن.
          وعند علماء البيان: هو استعارةٌ بالكناية، أو من الإسناد المجازيِّ. وقال أبو عبيدة: معناه: مرضيَّةٌ وهو مثل ليلةٍ نائم.
          وهذا لم يثبت إلَّا في رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي. وقد وقع في رواية النَّسفي وحده هنا: <وقال ابن جبير: أرجائها ما لم يَنْشَقُّ منها فهم على حافَّتيه كقولك: على أرجاء البئر> وهو عند أبي نعيمٍ أيضًا، وقد تقدم في «بدء الخلق» [خ¦59/4-4984]، وكذا وقع في روايته هنا: <{وَاهِيَةٍ} وهيها تشققها> وهو عند أبي نعيمٍ أيضًا.
          ({الْقَاضِيَةَ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <والقاضية> بالواو (الْمَوْتَةَ الأُولَى الَّتِي مُتُّهَا ثُمَّ أُحْيَا (1) بَعْدَهَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <لم أُحْيَ> وهذه هي الأصحُّ. والظَّاهر أنَّ النَّاسخ صحَّف: لم، بثم، وأشار به إلى قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ} [الحاقة:27] أي: ليت الموتة الأولى كانت القاضية لأمري لن أحيى بعدها، ولا يكون بعثٌ ولا جزاءٌ، وهو قول الفرَّاء.
          وقال قتادة: تمنَّى الموت ولم يكن عنده في الدُّنيا شيءٌ أكره من الموت.
          ({مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمْعِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <للجميع> (وَالوَاحِدِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِيْنَ} [الحاقة:47] ومراده أنَّ أحدًا في سياق النَّفي بمعنى الجمع، فلذا قال: {حَاجِزِيْنَ} بصيغة الجمع، وهو قول الفرَّاء. وقال أبو عبيدة في قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِيْنَ} [الحاقة:47] جمع صفته على صيغة الجمع لأنَّ أحدًا يقعُ على الواحد والاثنين والجمع من الذَّكر والأنثى، وضمير {عَنْهُ} للنَّبي صلعم .
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({الوَتِيْنَ}: نِيَاطُ الْقَلْبِ) أي: قال ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِيْنَ} [الحاقة:46] أي: نِيَاط القلب، وهو بكسر النون وتخفيف التحتانية، حبل الوريد وهو عرقٌ متَّصلٌ بالقلب إذا قُطع مات صاحبه، وصله ابن أبي حاتم والفريابي والأشجعي والحاكم كلُّهم من طريق عطاء بن السَّائب عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاس ☻ بهذا.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ / ({طَغَى} كَثُرَ) أي: فسَّر ابن عبَّاسٍ ☻ {طَغَى} في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ} [الحاقة:11] بقوله: كَثُر. وقال عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قتادة: بلغنا أنَّه طغى فوق كلِّ شيءٍ خمسة عشر ذراعًا. وعنه أيضًا: {طَغَى المَاءُ}: عتا فخرج بلا وزنٍ ولا كيلٍ، وطغى فوق كلِّ شيءٍ خمسة عشر ذراعًا، وقيل: كَثُر الماء حتَّى علا فوق الجبال وغيرها زمن الطُّوفان خمسة عشر ذراعًا، والكلُّ بمعنى، والجارية: السَّفينة.
          (وَيُقَالُ: {بِالطَّاغِيَةِ} بِطُغْيَانِهِمْ) هو قول أبي عبيدة وزاد: وكفرهم، والطَّاغية مصدرٌ نحو الجاثية، فلذلك فسَّره بقوله: «بطغيانهم». وقيل: الطَّاغية: صفة موصوفها محذوف تقديره: وأمَّا ثمودٌ فأُهلكوا بأفعالهم الطَّاغية، يُقال: طغى يطغو ويطغي طغيانًا: إذا جاوز الحدَّ في العصيان فهو طاغٍ، وهي طاغيةٌ.
          وأخرج الطَّبري من طريق مجاهدٍ قال في قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] بالذُّنوب.
          (وَيُقَالُ: طَغَتْ) أي: الرِّيح (عَلَى الْخَزَّانِ، كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ) ◙؛ أي: خرجت بلا ضبطٍ من الخَزّان، وهو جمع خازنٍ، وللريح خزان لا ترسلها إلَّا بمقدارٍ، وأمَّا عادٌ فلمَّا عتوا أرسل الله عليهم ريحًا عاتية يعني: عتت على خزَّانها فلم تطعهم، وجاوزت الحدَّ، وذلك بأمر الله تعالى.
          وروي عن رسول الله صلعم : ((ما أرسل الله ريحًا إلَّا بمكيالٍ، ولا قطرةً من الماء إلَّا بمكيال، إلَّا قوم عادٍ وقوم نوحٍ طغيا على الخزَّان فلم يكن عليهما سبيل)).
          ثمَّ إنَّ مادة «طغى» تستعمل لمعان يُقال: طغى الرجل: إذا جاوز الحد، وطغى البحر: إذا هاج، وطغى السَّيل: إذا كَثُر ماؤه، وطغى الدَّم إلى غير ذلك، وهاهنا ذكر أنَّها استعملت لمعانٍ ثلاثة:
          الأول: بمعنى الكثرة، أشار إليه بقوله: «وقال ابن عبَّاس ☻ : {طغى} [الحاقة:11] كَثُر»، وهو في قصَّة نوحٍ ◙.
          والثاني: بمعنى مجاوزة الحدِّ في العصيان، وذلك في قوله: ويُقال {بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] بطغيانهم، وهو في قوم ثمود.
          والثالث: بمعنى مجاوزة الحدِّ، وأشار إليه بقوله: ويُقال: طغت على الخزَّان، وهو في قصَّة قوم عادٍ، وهو قوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيْحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6].
          وقال الحافظ العسقلاني: لم يظهر لي فاعل طغت؛ لأنَّ الآية في حقِّ ثمود، وهم قد / أُهلكوا بالصَّيحة، ولو كانت عادًا لكان الفاعل الرِّيح، وهي لها الخَزَّان، وأمَّا الصَّيحة فلا خزَّان لها، فلعله انتقالٌ من عتت إلى طغت.
          وأمَّا قوله: {لَمَّا طَغَى المَاءُ} [الحاقة:11] فروى سعيد بن منصور من طريق السُّدِّي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {لَمَّا طَغَى المَاءُ} قال: طغى على خزَّانه فنزل بغير كيلٍ ولا وزنٍ.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ الآية في حقِّ عادٍ وهم أُهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ عتت على خزَّانها، وأمَّا ثمودُ فقد أُهلكوا بالطَّاغية، كما قال الله تعالى، وفسَّر المفسرون الطَّاغية بالطُّغيان، وهو المجاوزة عن الحدِّ في العصيان، كما مرِّ كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] والطَّغوى بمعنى: الطُّغيان.
          وقول هذا القائل: إنَّ الآية في حقِّ ثمودٍ قد أُهلكوا بالصَّيحة قول رُوي عن قتادة فإنَّه قال: يعني: الصَّيحة الطَّاغية التي جاوزت مقادير الصِّياح، وكلام البخاري على قول غيره، ولو كان مراده على قول قتادة فلا مانع أن يكون فاعل طغت الصَّيحة، ويكون المعنى خرجت الصَّيحة من صائحيها، وهم خزَّانها في الحقيقة بلا مقدارٍ بحيث أنَّها جاوزت مقادير الصِّياح. انتهى فليتأمَّل فيه.
          (وَ{غِسْلِينٍ} مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أهْلِ النَّارِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا طَعَامٍ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] وفسَّره بقوله: ما يسيل...إلى آخره وهو كلام الفراء. وقال الثَّعلبي: كأنَّه غسالة جروحهم وقروحهم. وعن الضَّحاك والرَّبيع: هو شجرٌ يأكله أهل النَّار. وهذا ثبت في رواية النَّسفي وحدَه وهو عند أبي نعيم أيضًا.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) هذا يدلُّ على أنَّ قبل قوله: و{غِسْلِينٍ}، وقال الفراء أو غيره، وقد سقط من النَّاسخ، ويكون معنى قوله: و«قال غيرُه»؛ أي: غير الفراء مثلًا، وإن لم يقدر شيءٌ هناك لا يستقيم الكلام.
          («مِنْ غِسْلِينٍ»: كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِيْنٌ، فِعْلِيْنٌ مِنَ الغَسْلِ مِنَ الجَرْحِ وَالدَّبَرِ (2)) وهذا أيضًا ثبت للنَّسفي وحده، وهو عند أبي نعيمٍ أيضًا، وتقدم في «أحاديث الأنبياء» [خ¦59/10-5048].
          ({أعْجَازُ نَخْلٍ}: أُصُولُها) أشار به إلى قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (3) [الحاقة:7] وفسَّر الأعجاز بقوله: «أصولها»، وهو أيضًا عند النَّسفي وحدَه.
          ({بَاقِيَةٍ}: بَقِيَّةٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]، وفسَّره بقوله: «بَقِيَّة»، وهو أيضًا للنَّسفي وحده، / وعند أبي نعيم أيضًا، وقد تقدَّم في «أحاديث الأنبياء» أيضًا [خ¦60/6-5144].
          ولم يذكر المصنِّف في تفسير الحاقَّة حديثًا مرفوعًا، ويدخل فيه حديث جابر ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((أُذِن لي أن أُحدِّث عن مَلَكٍ من حملة العرش ما بين شحمةِ أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) أخرجه أبو داود وابن أبي حاتم من طريق إبراهيم بن طهمان عن محمَّد بن المنكدر، وإسنادُهُ على شرط الصَّحيح.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: ثم أحيى.
[2] في هامش الأصل: الدَّبر: جمع دبرة، وكذا الأدبار مثل شجرة وشجر وأشجار، تقول منه: دبرت الإبل بالكسر، وأدبرها القتب.
الغِسل _ بالكسر _ ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره، ومنه الغسلين وهو ما انغسل من لحوم أهل النار ودمائهم زيد فيه الياء والنون، وفي الغاشية: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيْعٍ} [الغاشية: 6] ويمكن في قدرة الله تعالى أن يجعل الغسلين إذا انفصل عن أبدان أهل النار على هيئة الضريع فيكون طعامهم الغسلين الذي هو الضريع.
[3] في هامش الأصل: خاوية متآكلة الأجواف.