نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الإكراه

          ░░89▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتابُ الإِكْرَاهِ) بكسر الهمزة وسكون الكاف، وهو: إلزام الغير بما لا يريده، وله شروطٌ أربعة:
          الأوَّل: أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدَّفع ولو بالفرار.
          والثَّاني: أن يغلبَ على ظنِّه أنَّه إن امتنع أوقع به ذلك.
          والثَّالث: أن يكون ما هدَّد به فوريًّا، فلو قال: إن لم تفعل ذلك ضربتك غداً لا يعدُّ مكرهاً ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جدًّا، أو جرت العادة بأنَّه لا يخلف.
          والرَّابع: أن لا يظهر من المأمور ما يدلُّ على اختياره، كمن أكره على الزِّنا فأولج وأمكنه أن ينزعَ ويقول: أنزلت فيتمادى حتَّى ينزلَ، وكمن قيل له طلِّق ثلاثاً فطلَّق واحدةً، وكذا عكسه، ولا فرق بين الإكراه على القولِ والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعلِ ما هو محرمٌ على التَّأبيد كقتل النَّفس بغير حقٍّ.
          واختلف في المكره هل يكلَّف بترك فعل ما أكره عليه؟ فقال الشَّيخ أبو إسحاق الشّيرازي: انعقد الإجماع على أنَّ المكره على القتل مأمورٌ باجتناب القتل، والدَّفع عن نفسه وأنَّه يأثم إن قتل من أكره على قتله، وذلك يدلُّ أنَّه مكلَّف حالة الإكراه، وكذا وقع في كلام الغزاليِّ وغيره.
          ومقتضى كلامهم تخصيصُ الخلاف بما إذا وافق داعية الإكراه داعية الشَّرع كالإكراه على قتل الكافرِ وإكراهه على الإسلام، أمَّا ما خالف فيه داعية الإكراه داعية الشَّرع كالإكراه على القتل فلا خلاف في جواز التَّكليف، وإنَّما جرى الخلاف في تكليفِ المُلجأ وهو من لا يجد مندوحةً عن الفعل كمن ألقي من شاهق وعقله ثابتٌ فسقط على شخصٍ فقتله، فإنَّه لا مندوحة له عن السُّقوط ولا اختيار له في عدمه، وإنَّما هو آلةٌ محضة، ولا نزاع في أنَّه غير مكلفٍ إلَّا ما أشار إليه / الآمدي من التَّفريع على تكليف ما لا يطاق.
          وقد جرى الخلاف في تكليف الغافل كالنَّائم والنَّاسي وهو أبعدُ من المُلجأ؛ لأنَّه لا شعور له أصلاً، وإنَّما قال الفقهاء بتكليفه على معنى ثبوت الفعل في ذمَّته، أو من جهة ربط الأحكام بالأسباب، وقال القفَّال: إنَّما شرع سجود السَّهو ووجبت الكفارة على المخطئ لكون الفعل في نفسه منهيًّا عنه من حيث هو، لا أنَّ الغافلَ نُهي عنه حالة الغفلة؛ إذ لا يمكنه التَّحفظ عنه، واختلف فيما يهدد به فاتَّفقوا على القتل وإتلاف العضو، والضَّرب الشَّديد، والحبس الطَّويل، واختلفوا في تفسير الضَّرب والحبس كيومٍ أو يومين.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرّ عطفاً على سابقه، وسقطت الواو في رواية غير أبي ذرٍّ مع الرَّفع على الاستئناف في سورة النَّحل ({إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}) وأوَّل الآية: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل:106] استثناء مِن مَن كفر بلسانه، ووافقَ المشركين بلفظه مكرهاً لما نابه من الضَّرب والأذى ({وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} [النحل:106]) أي: ساكنٌ ({بِالإِيمَانِ}) بالله ورسوله، وهو وعيدٌ شديدٌ لمن ارتدَّ مختاراً، وأمَّا من أكره على الكفر فهو معذورٌ بالآية؛ لأنَّ الاستثناء من الإثبات فيقتضي أن لا يدخل الَّذي أكره على الكفر تحت الوعيد، والمشهور أنَّ الآية نزلت في عمَّار بن ياسرٍ ☺، قال ابن جرير: عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن محمَّد بن عمَّار بن ياسرٍ قال: أخذ المشركون عمَّار بن ياسرٍ فعذَّبوه حتَّى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النَّبي صلعم فقال: ((كيف تجد قلبك؟)) قال: مطمئنًّا بالإيمان، قال: ((فإن عادوا فعد)) وهو مرسل رجاله ثقاتٌ أخرجه الطَّبريّ وقبله عبد الرَّزّاق.
          ورواه البيهقيُّ بأبسط من هذا وفيه أنَّه سبَّ النَّبيَّ صلعم وذكر آلهتهم بخير وأنَّه قال: يا رسول الله ما تُركت حتَّى سببتك وذكرت آلهتهم بخيرٍ، قال: ((كيف تجد قلبك؟)) قال: مطمئنًّا بالإيمان قال: ((إن عادوا فعد))، وفي ذلك أنزل الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106].
          ومن ثمَّة اتَّفق / على أنَّه يجوز أن يواتي المكره على الكفر إبقاءً لمهجته، ذلك والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، وعند ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حُذافة السَّهميّ أحِد الصَّحابة ♥ أنَّه أسرته الرُّوم فجاؤوا به إلى ملكهم فقال له: تنصّر وأنا أشركك في ملكي وأزوِّجك ابنتي فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجعَ عن دين محمَّدٍ طرفة عينٍ ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصُلب وأمر الرُّماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرضُ عليه دين النَّصرانيّة فأبى، ثمَّ أمر به فأنزل، ثمَّ أمر بقدر من نحاسٍ حميت، ثمَّ جاء بأسيرٍ من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظامٌ تلوح وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها فوقع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إنِّي إنَّما بكيت لأنَّ نفسي إنَّما هي نفسٌ واحدةٌ تلقى في هذه القدر السَّاعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرةٍ من جسدي نفسٌ تعذَّب هذا العذاب في الله.
          وروي: أنَّه قبّل رأسه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلمَّا رجع قال عمر بن الخطَّاب ☺: حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقبَّل رأسه، وأخرج الطَّبرانيّ: أنَّ المشركين أخذوا عماراً وأباه وأمَّه وصهيباً وبلالاً وخبّاباً وسالماً مولى أبي حذيفة فمات ياسر وامرأته في العذاب وصبر الآخرون.
          وفي رواية مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ عند ابن المنذر: أنَّ الصَّحابة لمَّا هاجروا إلى المدينة أخذ المشركون خبّاباً وبلالاً وعمّاراً فأطاعهم عمَّار وأبى الآخران فعذَّبوهما، وأخرجه الفاكهيُّ من مرسل زيد بن أسلم وأنَّ ذلك وقع من عمَّار عند بيعة الأنصار في العقبة، وأنَّ الكفّار أخذوا عمّاراً فسألوه عن النَّبيّ صلعم فجحدهُم خبره فأرادوا أن يعذِّبوه / فقال: هو يكفر بمحمَّد وبما جاء به فأعجبهم وأطلقوه، فجاء إلى النَّبيّ صلعم فذكره، وفي سنده ضعفٌ.
          وأخرج عبد بن حُميد من طريق ابن سيرين: أنَّ رسول الله صلعم لقي عمَّار بن ياسرٍ ☻ وهو يبكي فجعل يمسحُ دموعه ويقول: ((أخذك المشركون فغطُّوك في الماء حتَّى قلت لهم كذا إن عادوا فعد))، ورجاله ثقاتٌ مع إرساله وهذه المراسيل يقوِّي بعضها بعضاً.
          ({وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}) أي: طاب نفساً واعتقده ({فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106]) في الدَّار الآخرة؛ لأنَّهم ارتدُّوا عن الإسلام.
          وقد أخرج الطَّبريّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106] قال: أخبر الله أنَّ من كفر بعد إيمانه فعليه غضبٌ من الله، فأمَّا من أكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوِّه فلا حرج عليه، إنَّ الله إنَّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
          قال الحافظ العَسقلاني: فعلى هذا الاستثناء مقدّمٌ من قوله: {فعليهم غضبٌ من الله} كأنَّه قيل: فعليهم غضبٌ من الله إلَّا من أكره؛ لأنَّ الكفر بالقول والفعل من غير اعتقاده، وقد يكون باعتقاده فاستثنى الأوَّل وهو المكره.
          هذا وقد اختلف النحاة في قوله: {من كفر} وفي {مَنْ شَرَح} فقالت نحاة الكوفة: جوابهما واحدٌ وهو قوله: {فعليهم غضبٌ} [النحل:106] لأنَّهما جزآن اجتمعا وأحدهما منعقدٌ بالآخر، فجوابهما واحدٌ كقول القائل: من يأتنا من يحسن نكرمه؛ يعني: من يحسن ممَّن يأتينا نكرمه.
          وقالت نحاة البصرة: قوله: {مَنْ كَفَرَ} [النحل:106] مرفوعٌ بالرَّدِّ على الَّذين في قوله: {إنَّما يفتري الكذب الَّذين} [النحل:105] أي: إنَّما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ثمَّ استثنى إلَّا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان.
          (وَقَالَ) جلَّ وعلا في سورة آل عمران ({إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}) وأوَّل الآية: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] / (وَهْيَ تَقِيَّةٌ) أخذه البخاريُّ من كلام أبي عبيدة، وقد قرأ يعقوب كذلك، وهي الحذر عن إظهار ما في الضَّمير من العقيدة ونحوها عند النَّاس، والمعنى: لا يتَّخذ المؤمن الكافر في الباطن ولا في الظَّاهر إلَّا لتقيَّة في الظَّاهر، فيجوز أن يواليه إذا خافه ويفارقه باطناً؛ أي: إلَّا أن تخافوا من جهة الكافرين أمراً تخافون بأن يكون للكافر عليك سلطانٌ فتخافه على نفسك ومالك، فحينئذٍ يجوز إظهار الموالاة وإبطان المعاداة.
          قيل: الحكمة في العدول من الخطاب في قوله: ((لا يتَّخذ المؤمنون)) أنَّ موالاة الكفَّار لما كانت مستقبحةً لم يواجه المؤمنين بالخطاب، وقال الحافظ العَسقلاني: ويظهر لي أنَّ الحكمة فيه أنَّه لمَّا تقدَّم الخطاب في قوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] كأنَّهم أخذوا بعمومه حتَّى أنكروا من كان له عذرٌ في ذلك فنزلت هذه الآية رخصةٌ في ذلك، وهو كالآيات الصَّريحة في الزَّجر عن الكفر بعد الإيمان، ثمَّ رخّص فيه لمن أكره على ذلك فافهم.
          (وَقَالَ) تعالى في سورة النِّساء: ({إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} [النساء:97]) أي: ملك الموت وأعوانُه، فتوفَّاهم ماض، أو مضارع أصلُه تتوفَّاهم، فحذفت تاء المضارعة ({ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}) حالٌ من ضمير المفعول في توفاهم؛ أي: في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة ({قَالُوا}) أي: الملائكة توبيخاً لهم ({فِيمَ كُنْتُمْ}) أي: في أيِّ شيءٍ كنتم من أمر دينكم ({قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ}) أي: عاجزين عن الهجرة ({فِي الأَرْضِ}) أي: أرض مكَّة أو عاجزين عن إظهار الدِّين وإعلاء كلمته (إِلَى قَوْلِهِ: {واجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصيراً} [النساء:75]) كذا في رواية كريمة والأَصيلي والقابسي، ولا يخفى ما فيه من التَّغيير؛ لأنَّ قوله: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:80] من آيةٍ أخرى متقدِّمة على الآية المذكورة، والصَّواب ما وقع في رواية أبي ذرٍّ <إلى قوله: {عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:43] ؛> / أي: بعباده قبل أن يخلقهم، وقال تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} وأوَّل الآية: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء:75] وهو مجرورٌ بالعطف على في سبيل الله؛ أي: في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، أو منصوب على الاختصاص؛ أي: واختصَّ من سبيل الله خلاص المستضعفين؛ لأنَّ سبيل الله عامٌّ في كلِّ خيرٍ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفَّار من أعظم الخير وأخصّه، والمستضعفون هم الَّذين أسلموا بمكَّة وصدَّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أيديهم مستضعفين يَلْقَون منهم الأذى الشَّديد.
          {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] بيانٌ للمستضعفين، وإنَّما ذكر الولدان مبالغة في الحثِّ وتنبيهاً على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصِّبيان إرغاماً لآبائهم وأمَّهاتهم، وعن ابن عبَّاس ☻ : كنت أنا وأبي من المستضعفين من الرِّجال والولدان.
          {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي: مكَّة {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} الظَّالم وصفٌ للقرية، إلَّا أنَّه مسندٌ إلى أهلها فأعطي إعراب القرية؛ لأنَّه صفتها {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} يتولَّى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] ينصرنا عليهم، فاستجاب دعاءهم بأن يسرَّ لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم وليًّا وناصرًا ففتح مكَّة على نبيِّه صلعم فتولَّاهم ونصرهم، ثمَّ استعمل عليهم عتّاب بن أُسَيد فحماهم ونصرهم حتَّى صاروا أعزَّة أهلها، وهاتان آيتان الأولى هو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} إلى قوله: {عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:99] وهي أيضاً آيتان.
          والثَّانية قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} إلى قوله: {مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] وهي متقدِّمةٌ على الآية الأولى، ووقع في رواية النَّسفي: <{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97] الآيات، وقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {نَصِيراً} [النساء:75]> وهو صوابٌ، وإن كانت الآيات الأولى / متراخية، وإنَّما صدر بالآيات المتراخية للإشارة إلى ما روي عن مجاهدٍ أنَّها نزلت في ناسٍ من أهل مكَّة آمنوا فكُتب إليهم من المدينة فإنَّا لا نراكم منَّا إلَّا إن هاجرتم، فخرجوا فأدركهم أهلهم بالطَّريق ففتنوهم حتَّى كفروا مكرهين.
          وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((كان قومٌ من أهل مكَّة أسلموا، وكانوا يستخفُّون إسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدرٍ معهم، فأصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء:97] أي: لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذَّهاب في الأرض، وتمام الآية: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]. قال أبو داود بإسناده إلى سمرة بن جندب: قال رسول الله صلعم : ((من جامع المشرك وسكن معه فإنَّه مثله)) {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:97-98] عُذْرٌ من الله ╡ لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنَّهم لا يقدرون على التَّخلّص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا سلوك الطَّريق، وقال عكرمة: يعني: نهوضاً إلى المدينة، وقال السُّدِّي: يعني مالاً، وقال الضَّحّاك: يعني طريقاً.
          {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي: يتجاوز عنهم ترك الهجرة، وعسى من الله موجبة {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:99] وقال العينيُّ: وقد اختلف الشُّرّاح في هذا الموضع حتَّى خرج بعضهم عن مسلك الصَّواب، فقال ابن بطَّال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى: {أن يعفو عنهم} [النساء:97-99] وقال: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} إلى: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75].
          وقال الحافظ العَسقلاني: وليس فيه تغيير من التِّلاوة إلَّا أنَّ فيه تصرّفاً فيما ساقه المصنف. انتهى. وفيه نظرٌ لا يخفى.
          وقال ابن التِّين بعد أن تكلَّم على قصَّة عماراً إلى أن قال: {لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] أي: من شرح صدره لقبوله. وقوله: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء:97] / إلى قوله: {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] ليس التِّلاوة كذلك؛ لأنَّ قوله: {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} قبل هذا.
          قال: ووقع في بعض النُّسخ: <إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:100]>، وفي بعضها: <{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]> وقال: <{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} [النساء:99] إلى قوله: {مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75]>، وهذا على نسق التَّنزيل، كذا قال، فأخطأ.
          فالآية الَّتي في آخرها {نَصِيراً} [النساء:75] أوّلها: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء:99] بالواو لا بلفظ إلا، وما نقله عن بعض النُّسخ إلى قوله: {غفوراً رحيماً} [النساء:100] محتمل لأنَّ آخر الآية الَّتي أوَّلها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} قولُه: {وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] وآخر الآية الَّتي بعدها {سبيلاً} [الإسراء:32] وآخر الآية الَّتي بعدها: {عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:99] وآخر الآية الَّتي بعدها: {غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:100] فكأنَّه أراد سياقَ أربع آياتٍ، والآيةُ الرَّابعة قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:100] والصَّواب ما وقع في رواية أبي ذرٍّ كما مرَّ.
          (فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ) أي: جعلهم معذورين (الَّذِينَ لاَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ) يعني: إلَّا إذا غُلبوا (وَالْمُكْرَهُ) بفتح الراء (لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُسْتَضْعَفاً) بفتح العين (غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ) أي: ما يأمره به من له قدرةٌ على إيقاع الشَّرِّ به، والغرض أنَّ المستضعف لا يقدر على الامتناع من التَّرك؛ أي: هو تاركٌ لأمر الله، وهو معذورٌ كما لا يقدر المكره على الامتناعِ من الفعل فهو في حكم المكره فكلاهما عاجزان.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري (التَّقِيَّةُ) ثابتةٌ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) لم تكن مختصَّة بعهده صلعم ، وصله عبدُ بن حميد وابنُ أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي عن الحسنِ البصري، ومن رواية وكيع عن هشام عن قتادة عنه قال: ((التَّقيّةُ جائزةٌ للمؤمن إلى يوم القيامة إلَّا أنَّه كان لا يجعل في القتل تقيَّة))، ولفظ عبد بن حميد: / ((إلَّا في قتل النَّفس الَّتي حرَّم الله)) يعني: لا يقدر من أكره على قتل غيره أن يكون يُؤْثِر نفسه على نفس غيره، ومعنى التَّقيّة الحذر من إظهار ما في النَّفس من معتقدٍ وغيره للغير.
          وأخرج البيهقيُّ من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((التَّقيّة باللِّسان والقلب مطمئنٌ بالإيمان ولا يبسطُ يدَه للقتل)).
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ) بضم التّحتيّة وكسر الرّاء على طلاق امرأته (فَيُطَلِّقُ) إيَّاها (لَيْسَ بِشَيْءٍ) فلا يقعُ طلاقه، وصله ابنُ أبي شيبة من طريق عكرمة ((أنَّه سئل عن رجلٍ أكرهه اللُّصوص حتَّى طلَّق امرأته فقال: قال ابن عبَّاسٍ ☻ : ليس بشيءٍ)).
          وأخرج عبد الرَّزّاق بسندٍ صحيحٍ عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه كان لا يرى طلاق المكرَه، وهذا كأنَّه مبنيٌّ على أنَّ الإكراه يتحقَّق من كلِّ قادرٍ عليه، وهو قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا إكراه إلَّا من سلطانٍ، وذكر ابنُ وهب عن عمر بن الخطَّاب وعليّ وابن عبَّاس ♥ أنَّهم كانوا لا يرون طلاقه شيئاً، وذكره ابنُ المنذر عن ابن الزُّبير وابن عمر وابن عبَّاس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم ومالك والأوزاعي والشَّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وأجازت طائفة طلاقه، روي ذلك عن الشَّعبيّ والنَّخعيّ وأبي قلابة والزُّهريّ وقتادة وهو قول الكوفيِّين. وفيه قولٌ ثالثٌ عن الشَّعبيّ، كما سيجيء.
          (وَبِهِ) أي: بقول ابن عبَّاس ☻ (قَالَ ابْنُ عُمَرَ) عبد الله بن عمر (وَابْنُ الزُّبَيْرِ) عبد الله بن الزُّبير ♥ (وَالشَّعْبِيُّ) عامر بن شَراحيل (وَالْحَسَنُ) البصري.
          أمَّا قول ابن عمر وابن الزُّبير: فأخرجهما الحميديُّ في «جامعه» والبيهقيُّ من طريقه قال: حدَّثنا سفيان: سمعت عَمراً _يعني: ابن دينار_ يقول: حدَّثني ثابت الأعرج قال: ((تزوَّجت أم ولد عبد الرَّحمن بن زيد بن الخطَّاب فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسِّياط وقال: ليطلقها أو لأفعلنَّ وأفعلن فطلَّقتها، ثمَّ سألتُ ابن عمر وابن الزُّبير ♥ فلم يرياه شيئاً)).
          وأخرجه عبد الرَّزّاق من وجهٍ آخر عن ثابتٍ الأعرج نحوه، وأمَّا قول الشَّعبيّ: / فوصله عبد الرَّزّاق بسندٍ صحيحٍ عنه، قال: إن أكرهه اللُّصوص فليس بطلاقٍ، وإن أكرهه السُّلطان وقع.
          قال العينيُّ: كذا هو مذهبُ أبي حنيفة، ونقل عن ابن عُيينة توجيهه وهو أنَّ اللِّص لا يقدم على قتله والسُّلطان يقتله، وأمَّا قول الحسن: فقال سعيد بن منصور: حدَّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن الحسن أنَّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً، وهذا سندٌ صحيحٌ إلى الحسن.
          قال ابن بطَّال تبعاً لابن المنذر: أجمعوا على أنَّ من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر مطمئنًّا بالإيمان أنَّه لا يحكم عليه بالكفر، ولا تَبيْن منه زوجته إلَّا محمَّد بن الحسن، فقال: إذا أظهر الكفر صار مرتدًّا وبانت منه امرأته، ولو كان في الباطن مسلماً قال: وهذا قولٌ يغني حكايته عن الرَّدِّ؛ لمخالفته النُّصوص.
          وقال قومٌ: محلُّ الرُّخصة في القول دون الفعل، كأن يسجدَ للصَّنم أو يقتل مسلماً أو يأكل الخنزير أو يزني، وهو قولُ الأوزاعي وسُحنون، وأخرج إسماعيل القاضي بسندٍ صحيحٍ عن الحسن أنَّه لا يجعل التقيَّة في قتل النَّفس المحرَّمة، وقالت طائفةٌ: الإكراه في القول والفعل سواء، واختلف في حدَّ الإكراه، فأخرج عبدُ بن حميد بسندٍ صحيحٍ عن عمر ☺ قال: ((ليس الرَّجل بأمينٍ على نفسه إذا سُجن أو أوثق أو عذب))، ومن طريق شريحٍ نحوه وزيادة ولفظه: ((أربعٌ كلُّهنَّ كره: السّجن والضَّرب والوعيد والقيد))، وعن ابن مسعودٍ ☺: ((ما كلام يَدرأ عنَّي سوطين إلَّا كنت متكلماً به))، وهو قول الجمهور، وعند الكوفيِّين فيه تفصيلٌ.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : الأَعْمَالُ) بدون إنما (بِالنِّيَّةِ) بالإفراد، هذا طرفٌ من حديثٍ وصله المصنِّف في ((كتاب الإيمان)) [خ¦54]، وكأنَّ البخاريّ أشار بإيراده هنا إلى الرَّدِّ على مَن فرّق في الإكراه بين القول والفعل؛ لأنَّ العمل فعل وإذا كان لا يعتبر إلَّا بالنِّيّة، كما دلَّ عليه الحديث فالمكره لا نيَّة له، بل نيَّته عدم الفعل الَّذي أكره عليه، والفرق هو مذهب / الظَّاهريّة فإنَّهم فرَّقوا بينهما، فقال ابنُ حزمٍ: الإكراه قسمان: إكراهٌ على كلامٍ، وإكراهٌ على فعلٍ، فالأوَّل: لا يَجب به شيءٌ كالكفر والقذف والإقرار بالنِّكاح والرَّجعة والطَّلاق والبيع والابتياع والنَّذر والأيمان والعتق والهبة وغير ذلك.
          والثَّاني على قسمين:
          أحدهما: ما تبيحه الضَّرورة كالأكل والشُّرب فهذا يبيحه الإكراه ممَّن أكره على شيءٍ من ذلك فلا يلزمه شيءٌ؛ لأنَّه أتى مباحاً له إتيانه.
          والآخر: ما لا تبيحُه كالقتل والجرح والضَّرب وإفساد الأموال، روي ذلك عن عمر ☺، وهو قول مكحول وطائفةٌ من أهل العراق.
          ثمَّ وجّه الاستدلال بالحديث المذكور في التَّسوية بين القول والفعل وهو الَّذي عليه الجمهور، وهو أنَّ العملَ يتناول فعل الجوارحِ والقلوب والأقوال، كما مرَّ.
          فإن قلت: إذا كان كذلك يحتاج كلُّ فعلٍ إلى نيَّة، والمكره لا نيَّة له فلا يؤاخذ. قلت: له نيَّة، وهي نيَّة عدم الفعل الَّذي أكره عليه. فإن قلت: ينبغي على هذا أن لا يؤاخذ النَّاسي والمخطئ في الطَّلاق والعتاق ونحوهما؛ لأنَّه لا نيَّة لهما.
          قلت: بل يؤخذ فيصحُّ طلاقه، حتى لو قال: اسقني مثلاً فجرى على لسانه أنت طالقٌ وقع الطَّلاق؛ لأنَّ القصد أثر باطنٌ لا يوقف عليه فلا يتعلَّق الحكم لوجود حقيقته بل يتعلَّق بالسَّبب الظَّاهر الدَّال عليه وهو أهليَّة القصد بالبلوغ والعقل.
          فإن قلت: ينبغي على هذا أن يقعَ طلاق النَّائم. قلت: المانع هو قوله صلعم : ((رُفع القلم عن ثلاثٍ)).
          هذا واحتجَّ بعض المالكيَّة بأنَّ التَّفصيل نسبة ما ترك في القرآن؛ لأنَّ الَّذي أكرهوا (1) إنَّما هو الكلام فيما بينهم وبين ربِّهم، فلمَّا لم يكونوا معتقدين له جُعل كأنَّه لم يكن، ولم يؤثر في بدنٍ ولا مال، بخلاف الفعل فإنَّه يؤثر في البدن والمال، هذا ما حكاه ابن بطَّال.
          وتعقَّبه ابنُ المُنيّر: بأنهم أكرهوا على النُّطق بالكفر، وعلى مخالطةِ المشركين ومعاونتهم وترك ما يخالف ذلك، والتروك أفعالٌ على الصَّحيح ولم يؤاخذوا بشيءٍ من ذلك. واستثنى المعظم قتل النَّفس فلا يسقط القصاص / عن القاتل ولو أكره؛ لأنَّه آثر نفسه على نفسِ المقتول، ولا يجوز لأحدٍ أن ينجي بنفسهِ من القتل بأن يقتلَ غيره. فافهم.


[1] كذا في الأصل وفي التوضيح لابن الملقن، قال اسماعيل: وقول من جعل التقية في القول يشبه ما نزل من القرآنِ في ذلك؛ لأن الذين أكرهوا عليه ولم يكونوا معتقدين جعل كأنه لم يكن...