نجاح القاري لصحيح البخاري

الواقعة

          ░░░56▒▒▒ (سُوْرَةُ الْوَاقِعَةِ) وسقط لفظ: <سورة> في رواية غير أبي ذرٍّ، وكذا البسملة، قال أبو العبَّاس: هي مكيَّة، واختلف في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] وفي قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81]. والأولى نزلت في أهل الطَّائف وإسلامهم بعد الفتح، والثانية نزلت في دعائه بالسقيا فقيل: مطرنا بنوء كذا، فنزلت: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82].
          وكان عليٌّ ☺ يقرأها: (▬وتجعلون شكركم↨)، وهي ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف، وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة، وست أو تسع وتسعون آية، وفي بعض النسخ هنا: <{خَافِضَةٌ} أي: لقوم إلى النار {رَافِعَةٌ} أي: لقوم إلى الجنة>.
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {رُجَّتْ}: زُلْزِلَتْ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] أي: زلزلت. وصله الفريابي من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد، وعند عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة مثله، يُقال: رَجَّه يَرُجُّه: إذا حرَّكه وزلزله؛ أي: تضطرب فرقًا من الله تعالى حتَّى ينهدمَ ما عليها من بناء وجبل.
          وقال الثَّعلبي: أي: رجفت وحُركت تحريكًا من قولهم: السَّهم يرتجُّ في الغرض؛ أي: يهتز ويضطربُ، وأصل الرَّج في اللغة التَّحريك، يقال: رججتُه / فارتجَّ فإن ضاعفته، قلت: رجرجتُه فترجرج.
          ({بُسَّتْ}: فُتَّتْ لُتَّتْ كَمَا يُلَتُّ السَّوِيقُ) أي: بالسَّمن، أو الزيت، أو بالماء أشار به إلى قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5] وفسَّره بقوله: فُتَّت، وهو أيضًا تفسير مجاهد، وصله الفريابي من طريق مجاهد بنحوه.
          وكذلك لُتَّت تفسير مجاهد، ويقال: بُسَّت ولُتَّت بمعنى واحد؛ أي: صارت كالدَّقيق المبسوس وهو المبلولُ. وعند أبي عبيدة: بُسَّت كالسَّويق المبسوس بالماء، والبسيسة عند العرب الدَّقيق أو السَّويق يلت ويتَّخذ زادًا. وعن عطاء: بست أذهبت ذهابًا. وعن ابنِ المسيَّب: كسرت كسرًا، وعن الحسن: قلعت من أصلها فذهبت بعد ما كانت صخورًا صمًا. وعن عطيَّة: تبسط بسطًا كالرَّمل والتراب. وعند ابنِ أبي حاتم من طريق منصور عن مجاهد قال: لُتَّت لتًا.
          ومن طريق الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس ☻ قال: فُتَّتْ فَتًّا، وقيل: سيقت من قولهم: بَسَّ الغنم: إذا ساقها.
          (الْمَخْضُودُ: الْمُوقَرُ حَمْلًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: لاَ شَوْكَ لَهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] وفسَّره بقوله: «المُوقَر حَمْلًا» _بفتح القاف والحاء_ حتى لا يبين ساقه من كثرةِ ثمرته بحيث تنثني أغصانُه، هذا تفسير الأكثرين.
          (وَيُقَالُ أَيْضًا: لاَ شَوْكَ لَهُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <المخضود لاشوك له> خضدَ الله شوكَه، فجعلَ مكان كلِّ شوكة ثمرة، والأصلُ في الخضد: هو القطع كأنَّه خضدَ شوكه؛ أي: قطع. وعن الحسنِ: لا يعقر الأيدي. وعن ابن كيسان: هو الذي لا أذى فيه. وعن الضَّحَّاك: نظرَ المسلمون إلى وَجٍّ وهو وادٍ في الطَّائف مُخْصِب فأعجبَهم سدرها، قالوا: يا ليت لنا مثلها، فأنزلَ الله ╡ هذه الآية.
          ({مَنْضُودٍ}: الْمَوْزُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] وفسَّره: بالموز، ولم يثبت هذا هنا في رواية أبي ذرٍّ، وقد تقدَّم في «صفة الجنَّة» من «بدء الخلق» [خ¦59/8-5029]، والطَّلح: جمع: طلحة. وعن الحسن: ليس هو بموز، ولكنه شجر له ظلٌّ باردٌ طيب. وقال السُّدي: طلح الجنة يُشبه طلحَ الدنيا، لكن له ثمر أحلى من العسل.
          وعن الفرَّاء وأبي عبيدة: / الطَّلح عند العرب: شجر عظام لها شوك، والمنضود: المتراكم قد نضده الحمل من أوله إلى آخره ليست له سوق بارزة. وفي «المغرب»: النَّضد: ضمُّ المتاع بعضه إلى بعض منسقًا أو مركومًا من باب ضرب.
          (وَالْعُرُبُ: الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:36-37] وفسَّرها: بالمحببات، جمع: المحببة اسم مفعول من الحبِّ من باب التَّفعيل، وقد تقدَّم في «صفة الجنة» أيضًا [خ¦59/8-5029]. وقال ابن عُيينة في «تفسيره»: حدثنا ابنُ أبي نجيح عن مجاهد في قوله: ({عربًا أترابًا}) قال: هي المحببة إلى زوجها.
          وقال الثَّعلبيُّ: عربًا عواشق متحبِّبات إلى أزواجهنَّ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير، وهي روايةٌ عن ابن عبَّاس ☻ .
          والعُرب: بضم الراء وسكونها، وقد قُرئ بهما في السَّبعة، جمع: عروبة، وأهل مكة يسمَّونها: العرِبة _بكسر الراء_، وأهل المدينة: الغنِجة _بكسر النون_، وأهل العراق: الشَّكِلة _بفتح الشين المعجمة وكسر الكاف_ وسيجيء ذلك. والأترابُ: المستويات في السنِّ، وهو جمع تِرْب _بكسر التاء وسكون الراء_ يُقال: هذه تِرب هذه؛ أي: لدتها.
          ({ثُلَّةٌ}: أُمَّةٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] وفسَّرها بقوله: أمَّة، وصله الفريابي من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد، به. وقال أبو عبيدة: الثُّلة: الجماعة، والثُّلة: البقية.
          وعند ابن أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران في قوله: {ثُلَّةٌ} قال: كثير، والمعنى: أمَّة من الأولين من الأمم الماضية من لدن آدم ◙ إلى محمَّد صلعم {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة:14] ممَّن آمن بمحمد صلعم ، جعلنا الله منهم بمنِّه.
          قال البيضاويُّ: ولا يخالفُ ذلك قوله صلعم : ((إنَّ أمتي يكثرون سائر الأمم)) لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمة أكثرُ من تابعيهم، والله تعالى أعلم.
          ({يَحْمُومٍ}: دُخَانٌ أَسْوَدُ) أشار به / إلى قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:43] وفسَّره بقوله: «دخان أسود». وصله الفريابي كذلك، وأخرجه سعيد بن منصور والحاكم من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس ☻ مثله. وقال أبو عبيدة: في قوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:43] من شدَّة سواده، يُقال: أسود يحموم فهو بوزن يفعول من الحمم.
          ({يُصِرُّونَ}: يُدِيمُونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] وفسَّره بقوله: «يديمون»، وصلَه الفريابيُّ لكن لفظه: يُدْمنون، بسكون الدال بعده ميم ثم نون. وعند ابن أبي حاتم من طريق السُّدي قال: يقيمون، و{الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}: الذَّنب الكبير، وهو الشرك.
          وعن أبي بكر الأصم: كانوا يقسمون أن لا بعث، وأنَّ الأصنامَ أنداد لله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وكانوا يقيمون عليه، فذلك حنثهم.
          ({الْهِيمِ}: الإِبِلُ الظِّمَاءُ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:55] وفسَّره: بالإبل الظِّماء التي لا تروى من داء معطش أصابها، قال ذو الرمة:
فَأَصْبَحَّتُ كَالهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْردٌ                     صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هَيَامُهَا
          وقد سقط هذا في رواية أبي ذرٍّ، وقد تقدم في «البيوع» [خ¦2099]. والهيم جمع: هيماء، يُقال: جمل أهيم، وناقة هيماء، وإبل هيم؛ أي: عطاش. وعن قتادة: هو داء بالإبل لا تروى معه ولا تزال تشرب حتى تهلك، ويُقال لذلك الداء: الهيام، والظماء _بالظاء المعجمة_ جمع ظمأى، والظَّمأ: العطش، قال تعالى: {لَا يُصِيْبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة:120].
          والاسم: الظِّمء _بالكسر_، وقوم ظماء؛ أي: عطاش، والظَّمآن: العطشان.
          ({لَمُغْرَمُونَ}: لَمُلْزَمُونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:66-67] وفسَّره بقوله: «لملزمون» اسم مفعول من الإلزام؛ أي: لملزمون غرامة ما نقصنا (1)، وصله ابن أبي حاتم من طريق شعبة عن قتادة.
          وعنه أيضًا: لمعذَّبون من الغرام وهو العذاب، وكذا روي عن ابن عباس ☻ . وعند الفريابي من طريق مجاهد: ملقون للشر. وعن مقاتل: مهلكون، وعن مرَّة الهمداني: محاسبون. وفي رواية أبي ذرٍّ: <{لَمُغْرَمُونَ} لملومون> واللام فيه للتأكيد.
          ({مَدِيْنِينَ} مُحَاسَبِيْنَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِيْنِينَ} [الواقعة:86] وفسَّره بقوله: «محاسبين»، وقد تقدَّم في «تفسير الفاتحة» [خ¦65-6419]. وقال الزَّمخشريُّ: غير مربوبين، من دان السُّلطان / رعيته: إذا ساسهم. وجواب لولا قوله: {تَرْجِعُونَهَا}؛ أي: تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم إن كنتُم صادقين، وقد سقط هذا في بعض النُّسخ.
          ({رَوْحٌ}: جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:88-89] وفسَّره بقوله: «جنَّةٌ ورخاء»، وقد سقط هذا في رواية أبي ذرٍّ، وقد تقدَّم في «صفة الجنة» [خ¦59/8-5029] ({وَرَيْحَانٌ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <والريحان> باللام (الرِّزْقُ) يُقال: خرجت أطلب ريحان الله؛ أي: رزقَهُ، وقد تقدَّم في «تفسير الرَّحمن» قريبًا [خ¦65-7166]. وعن ابنِ زيد: روح عند الموت، وريحان يجنى له في الآخرة. وعن الحسن: أنَّ روحه تخرجُ في الريحان.
          وعن ابن عبَّاس ☻ ومجاهد: {فَرَوْحٌ}؛ أي: راحة وريحان مستراحٌ، وعن مجاهد أيضًا وسعيد بن جبير: الرَّيحان: رزق. وقال الورَّاق: الرَّوح النَّجاة من النَّار، والرَّيحان دخول الجنَّة دار القرار.
          ({وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}) سقط قوله: <{فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}> هنا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <ونَنْشَأكم> بفتح النون الأولى والشين، وهي خلاف التِّلاوة (فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ) أي: نوجدكم في أيِّ خلق نشاء فيما لا تعلمون من الصُّور. وقال الحسن: أي: نجعلكُم قردةً وخنازير كما فعلنا بأقوامٍ قبلكم، أو نبعثكُم على غير صُوركم في الدُّنيا، فنجمِّل المؤمن، ونقبِّح الكافر.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {تَفَكَّهُونَ}: تَعْجَبُونَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <تعجّبون> بتشديد الجيم، أصله: تتعجبون؛ أي: قال غير مجاهد في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:65] أي: تعجبون؛ أي: مما نزل بكم في زرعكم، قاله الفرَّاء، وكذا فسَّره قتادة.
          وعن عكرمة: تلامون، وعن الحسن: تندمون، أخرجه ابن المنذر عنه، وهو قول مجاهد أخرجه ابنُ أبي حاتم. وعن ابن كيسان: تحزنون، قال: وهو من الأضداد تقول العرب: تفكَّهت؛ أي: تنعَّمت، وتفكَّهت؛ أي: حزنت. وعند عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة هو شبه المتندِّم، وتفكَّه بوزن تفعَّل، وهو كتأثَّم؛ أي: ألقى الإثم، فمعنى تفكَّه: ألقى عنه الفاكهة، وهو حال من دخل في النَّدم والحزن. وقيل: التَّفكُّه: التَّكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاح: فاكهة.
          ({عُرُبًا}: مُثَقَّلَةً) بتشديد القاف (وَاحِدُهَا عَرُوبٌ، / مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّةَ: الْعَرِبَةَ) بفتح العين المهملة وكسر الراء (وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: الْغَنِجَةَ) بفتح الغين المعجمة وكسر النون (وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: الشَّكِلَةَ) بفتح المعجمة وكسر الكاف، وهذا كله لم يثبت في رواية أبي ذرٍّ، وهو مكرَّر هنا، وقد تقدَّم في «صفة الجنة» [خ¦59/8-5029].
          (وَقَالَ) أي: غير مجاهد (فِي {خَافِضَةٌ}: لِقَوْمٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <بقوم> بالموحدة بدل اللام (إِلَى النَّارِ. وَ{رَافِعَةٌ}: إِلَى الْجَنَّةِ) أي: قال في قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:2-3] أي: القيامة؛ أي: يومها تخفض قومًا إلى النَّار، وترفعُ آخرين إلى الجنَّة، وحذف المفعول من الثاني لدَلالة السَّابق عليه، قاله الفرَّاء.
          وعن محمد بن كعب: خفضت أقوامًا كانوا في الدُّنيا مرتفعين، ورفعت أقوامًا كانوا في الدُّنيا منخفضين، وأخرجه سعيد بنُ منصور. وعند عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3] قال: شملت القريب والبعيد حتى خفضتْ أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا في كرامةِ الله. وروى ابنُ أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ نحوه، ومن طريق عثمان بن سراقة عن خاله عمر بن الخطَّاب ☺ نحوه. ومن طريق السُّدي قال: خفضتِ المتكبرين، ورفعت المتواضعين. وعن ابن عطاء: خفضت قومًا بالعدلِ، ورفعت قومًا بالفضلِ.
          ({مَوْضُونَةٍ}: مَنْسُوجَةٍ، وَمِنْهُ: وَضِينُ النَّاقَةِ) أشار به إلى قوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] وفسَّره بمنسوجةٍ، أصله من وضنتُ الشيء: إذا ركبت بعضه على بعض. ويُقال: معنى {مَوْضُونَةٍ}: منسوجةٍ بقضبان الذَّهب، مشبَّكة بالدُّر والياقوت، وقد أدخل بعضُه في بعضٍ مضاعفة، كما يوضن حلق الدِّرع. قوله: «ومنه: وضين النَّاقة»؛ أي: ومن هذا الباب وضين النَّاقة، وهو بطان منسوج بعضه على بعض يشدُّ به الرَّحل على البعير كالحزام للسَّرج، سُمِّي به لتراكب طاقاته. ولم يثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ، وقد تقدَّم في «صفة الجنة» أيضًا [خ¦59/8-5029].
          (وَالْكُوبُ: لاَ آذَانَ لَهُ وَلاَ عُرْوَةَ. وَالأَبَارِيقُ: ذَوَاتُ الآذَانِ وَالْعُرَى) أشار به إلى قوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيْقَ} [الواقعة:18] وتفسيره ظاهر، والأكواب: جمع كوب، والأباريق: جمع إبريق، وهو من آنية الخمر، سُمي بذلك لبريق لونه من صفاءِهِ، وهذا أيضًا لم يثبت في رواية أبي ذرٍّ هنا، وتقدَّم في «صفة الجنة» [خ¦59/8-5029].
          ({مَسْكُوبٍ}: جَارٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] وفسَّره بقوله: «جار»، وفي التَّفسير: مصبوب يجري دائمًا في غير أخدود ولا ينقطعُ، وهذا أيضًا ساقط في رواية أبي ذرٍّ،
          ({وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) عن علي ☺: مرفوعة على الأسرة. /
          وعن أبي أمامة الباهليِّ ☺: لو طُرح فراش من أعلاها إلى أسفلها لم يستقرَّ في الأرض إلَّا بعد سبعين خريفًا. وفي الترمذي عن أبي سعيد ☺ مرفوعًا قال: ((ارتفاعها كما بين السَّماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام)).
          ({مُتْرَفِينَ}: مُتَنَعِّمينَ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وفسَّره بقوله: «متنعِّمين»، هكذا في رواية الأكثرين بمثناة قبل النون من التَّنعم. وفي رواية الكُشميهني: <ممتَّعين> بميمين بعدها مثناة فوقية مشددة، من التمتُّع، وكذا في رواية النَّسفي، ويروى: <متمتعين> من الإمتاع، يُقال: أمتعت بالشيء؛ أي: تمتعت به، قاله أبو زيد، والأول هو الذي وقعَ في «معاني القرآن» للفراء، ومنه نقل المصنف.
          ولابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : <منعمين>، والمعنى بالحرام. ووقع في بعض النُّسخ هنا: <مدينين: محاسبين>، وقد تقدَّم، قيل: ومنه: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] ؛ أي: محاسبون أو مجزيون.
          ({مَا تُمْنُونَ}: هِيَ النُّطْفَةُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <من النطف> يعني: (فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59]. وفسَّر قوله: {مَا تُمْنُونَ} بقوله: النُّطفة في الأرحام؛ لأن َّما تمنون هي النُّطفة التي تُصبُّ في الأرحام، من أمنى يمني إمناء؛ أي: صب المني، وقد تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦60/1-5120].
          قال الفرَّاء: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} يعني: النُّطف إذا قُذفت في أرحام النِّساء أأنتم تخلقون تلك النُّطف أم نحن؛ أي: أأنتم تصورون منه الإنسان أم نحن المصوِّرون.
          ({لِلْمُقْوِينَ}: لِلْمُسَافِرِينَ، وَالْقِيُّ) بكسر القاف (الْقَفْرُ) بتقديم القاف، أشار به إلى قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] وفسَّر المقوين بالمسافرين، وهو من أقوى إذا دخل في أرض القِي، والقِي والقواء: القفر الخالية البعيدة من العمران والأهلين التي لا شيءَ فيها. ويُقال: أقوت الدَّار إذا خلتْ من سكانها. وقال مجاهد: {لِلْمُقْوِينَ} للمستمتعين بها من النَّاس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها في الظُّلمة، ويصطلون بها في البرد، وينتفعون بها في الطَّبخ / والخبز، ويتذكرون بها نار جهنَّم، ويستجيرون الله منها. وقال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير، ويكون بمعنى الغني يُقال: أقوى الرَّجل إذا قويتْ دوابه، وإذا كثر ماله. انتهى.
          والظَّاهر أنَّه حينئذٍ يكون من القوَّة لا من القِي، ولم يثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ هنا، وقد تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦59/10-5048].
          ({بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] وفسَّره بشيئين:
          أحدهما: قوله «بمحكم القرآن»، قال الفرَّاء: حدَّثنا فضيل بن عياض عن منصور عن المنهال بن عَمرو قال: قرأ عبد الله: ({فلا أقسم بموقع النجوم}) قال: بمحكم القرآن، وكان ينزل على النَّبي صلعم نجومًا، ويؤيِّده قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:76-77] وبقراءته قرأ حمزة والكسائي وخلف.
          والآخر: قوله: (وَيُقَالُ: بِمَسْقِطِ النُّجُومِ إِذَا سَقَطْنَ) بفتح الميم وكسر القاف، قال أبو عبيدة: مواقع النُّجوم: مساقطها حيث تغيبُ؛ أي: مغارب النُّجوم إذا غربن.
          قال البيضاويُّ: وتخصيصُ المغارب لما في غُروبها من زوال أثرها، والدَّلالة على وجود مؤثر لا يزولُ تأثيره. وعن الحسن: انكدارها وانتثارهُا يوم القيامة. وعن عطاء بن أبي رباح: منازلها، وعند عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: منازل النُّجوم. قال: وقال الكلبيُّ: هو القرآن أنزل نجومًا. انتهى.
          ويؤيِّده ما أخرج النَّسائي والحاكم من طريق حصين عن سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس ☻ قال: نزلَ القرآن جميعًا ليلة القدر إلى السَّماء، ثمَّ فُصِّل فنزل في السنين وذلك قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]. ثمَّ إنَّ قوله: {فَلَا أُقْسِمُ} قال أكثر المفسرين: معناه أُقسم، و«لا» صلة. وقال بعضُ أهل العربية: معناه: فليس الأمر كذلك، ثمَّ استأنف القسم فقال: {أُقْسِمُ}.
          (وَمَوَاقِعُ وَمَوْقِعٌ وَاحِدٌ) هو: كلام الفرَّاء أيضًا بلفظه، ومراده: أن معناهما واحد، وإن كان أحدهما جمعًا، والآخر مفردًا؛ يعني: أن ما يُستفاد منهما واحدٌ؛ لأنَّ الجمع المضاف والمفرد المضاف كلاهما عامان بلا تفاوت على الصَّحيح فيفيدان التَّعدد. وقال الكرمانيُّ: إضافته إلى الجمع يستلزمُ تعدده كما يُقال: قلب القوم، والمراد قلوبهم.
          ({مُدْهِنُونَ}: مُكَذِّبُونَ، مِثْلُ: {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}) أشار به / إلى قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81] وفسَّره بقوله: «مكذِّبون»، وكذا فسره الفرَّاء هنا. وقال في قوله: {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] أي: لو تكفر فيكفرون، قال: قد سمعتُه قد أدهنَ؛ أي: كفر. وقال أبو عبيدة: ({مُدهنون}) واحدها مُدهن، وهو المداهنُ، وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني: القرآن ({مدهنون})، قال ابن عبَّاس ☻ : أي: كافرون.
          وعن ابن كيسان: المدهن الَّذي لم يفعل ما يحق عليه ويدفعه بالعللِ. وعن المؤرخ: المدهنُ المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره، وادَّهن وداهن واحدٌ، وأصله من الدُّهن. وقيل: متهاونون كمن يدهن في الأمر؛ أي: يلين جانبه ولا يتصلَّب فيه تهاونًا به.
          ({فَسَلاَمٌ لَكَ}: أَيْ مُسَلَّمٌ) بتشديد اللام، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فسِلْم> بفاء بدل الميم وكسر السين وسكون اللام (لَكَ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأُلْغِيَتْ إِنَّ) بالغين المعجمة، من الإلغاء، وروي: <وألقيت> بالقاف، وهو بمعناه؛ أي: تُركت إن من قوله: ((إنَّك)) (وَهْوَ مَعْنَاهَا) أراد به أن كلمة ((إن))، وإن حُذفت فمعناها مراد (كَمَا تَقُولُ) أي: لرجل (أَنْتَ مُصَدَّقٌ) بفتح الدال المشددة (مُسَافِرٌ) وفي نسخة: <ومسافر> بالواو (عَنْ قَلِيلٍ) تمثيل لما ذكره؛ أي: كقولك لمن قال: إني مسافر عن قريب: أنت مصدَّق مسافر عن قليل؛ أي: أنت مصدَّق أنَّك مسافر عن قليل، فحذف لفظ: أن، هنا أيضًا، ولكن معناه مراد.
          (إِذَا كَانَ) أي: الذي قلت له ذلك (قَدْ قَالَ: إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ) وفي نسخة: <عن قريب> بدل: ((قليل)) (وَقَدْ يَكُونُ) أي: لفظ سلام (كَالدُّعَاءِ لَهُ) أي: لمن خاطبه من أصحاب اليمين يعني: العاء له منهم (كَقَوْلِكَ: فَسَقْيًا مِنَ الرِّجَالِ) بفتح السين نصب؛ أي: سقاك الله سقيًا (إِنْ رَفَعْتَ السَّلاَمَ، فَهْوَ مِنَ الدُّعَاءِ) يعني: وإن نصبت لا يكون دعاء، قيل: لم يقرأه أحدٌ بالنصب فلا معنى لقوله: «إن رفعتَ». وأُجيب: بأن ((سقيًا)) بالنصب يكون دعاء بخلاف السلام، فإنَّه بالرفع دعاء، وبالنَّصب لا يكون دعاء، فتأمل. ثمَّ إنَّ رفع السَّلام على الابتداء وإن كان نكرة؛ لأنَّه دعاء وهو من المخصصات / ومعناه: سلمت سلامًا، ثمَّ حذف الفعل ورفع المصدر، وقيل: تعريف المصدر وتنكيره سواء لشموله، فهو راجعٌ إلى معنى العموم.
          وقال الزَّمخشري: معناه سلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك أصحاب اليمين؛ أي: يسلِّمون عليك. وقال الثَّعلبي: {فَسَلَامٌ لَكَ} رفع على معنى: فلك سلام؛ أي: سلامة لك يا محمد منهم فلا تهتمَّ لهم، فإنهم سلموا من عذاب الله تعالى. وهذا الذي ذكره البخاريُّ هو كلام الفرَّاء بلفظه، إلَّا أنه قال: أنت مصدَّق مسافر، بغير واو، وهو الوجه لما عرفت أن التَّقدير أنت مصدق أنَّك مسافر، وكذا قال الفرَّاء، وإن رفعت السلام فهو دعاء. ويؤيد قول الفرَّاء ما أخرج ابنُ المنذر من طريق عطاء عن ابن عبَّاس ☻ قال: تأتيه الملائكةُ من قبل الله سلامٌ لك من أصحاب اليمين تخبره أنَّه من أصحاب اليمين.
          ({تُورُونَ}: تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتُ: أَوْقَدْتُ) أشار به إلى قوله ╡: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] وفسَّر {تُورُونَ} بقوله: «تستخرجون». وفي التَّفسير: تقدحون وتستخرجون من زندكُم، وشجرتها التي تقدح منها النَّار المرخ والعفار.
          وقوله: ((أوريت: أوقدت)) يعني: معنى أوريت أوقدت، وأصل ((تورون)): توريون، فأعل فصار تورون، ولم يثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ، وقد تقدم في «صفة النَّار» من «بدء الخلق» [خ¦59/10-5048].
          ({لَغْوًا}: بَاطِلًا. {تَأْثِيمًا}: كَذِبًا) أشار به إلى قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} [الواقعة:25] أي: في جنات النَّعيم، وصله ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: (({لَغْوًا} باطلًا))، وفي قوله: (({وَلَا تَأْثِيمًا} قال: كذبًا)).
          ولم يثبت هذا أيضًا في رواية أبي ذرٍّ.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: ما أنفقنا.