نجاح القاري لصحيح البخاري

{تبارك الذي بيده الملك}

          ░░░67▒▒▒ (سُوْرَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}) وفي رواية غير أبي ذرٍّ: <سورة الملك> وقوله: (({تَبَارَكَ})) أي: تنزَّه عن صفات الحدوث. وقوله: (({الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ})) أي: بقبضة تصرُّفه وقدرتهِ الأمور كلها، وهذه السُّورة مكيَّة كلُّها، قاله مقاتل. وقال السَّخَّاوي: نزلت قبل الحاقَّة وبعد الطُّور، وهي ألفٌ وثلاثمائة حرف، وثلاثمائة وثلاثون كلمة، وثلاثون آية. ولم تثبت البسملة هنا في جميع الرِّوايات.
          (التَّفَاوُتُ: الاِخْتِلاَفُ، وَالتَّفَاوُتُ) بالألف والتخفيف (وَالتَّفَوُّتُ) بغير ألف والتشديد (وَاحِدٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] وفسَّره: بالاختلاف، وأشار إلى أنَّ التفاوت والتَّفوُّت بمعنى واحد كالتعهُّد والتَّعاهد، والتَّطهُّر والتَّطاهر، وهو قول الفرَّاء، وقال: هو مثل تعهَّدته وتعاهدته. وقال ابن التِّين: قيل: متفاوت فليس متباينًا، وتفوَّت فات بعضه بعضًا. وقرأ حمزة والكسائي: ({من تفوُّت}) بغير ألف. قال الفرَّاء: وهي قراءة ابن مسعودٍ ☺، والباقون بالألف.
          وأخرج سعيد بن منصور من طريق إبراهيم عن علقمة أنَّه كان يقرأ: ({من تَفوُّت}).
          ({تَمَيَّزُ} تَقَطَّعُ) أشار به إلى قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك:8] وفسَّره بقوله: «تقطُّع»، وهو قول الفرَّاء، قال في قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أي: تقطَّع عليهم غيظًا؛ أي: للكفَّار الذين أخبر الله عنهم بقوله: {إِذَا أُلْقُوا فِيْهَا} أي: في النَّار {سَمِعُوا لَهَا شَهِيْقًا} أي: صوتًا كصوت الحمار {وَهِيَ تَفُورُ} تزفر وتغلي بهم كما تغلي القدور.
          وقال القاضي: وهو تمثيلٌ لشدَّة اشتعالهم بها (1)، ويجوز أن يُراد غيظ الزَّبانية.
          ({مَنَاكِبِهَا} جَوَانِبِهَا) أشار به إلى قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وفسَّره بقوله: «جوانبها»؛ أي: امشوا في جوانب الأرض، وهو قول أبي عبيدة في قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} قال: أي: في جوانبها، وكذا قاله الفرَّاء، وأصل المنكب: الجانب.
          وعن ابن عبَّاسٍ ☻ وقتادة: جبالها، وعن مجاهدٍ: طرقها.
          وفي «فتوح الغيب» قوله: ((مناكبها)) استعارةٌ تمثيليَّةٌ أو تحقيقيَّةٌ؛ / لأنَّ القصد الأرض إمَّا ناحيتها أو جبالها، فنسب الذَّلول إليها ترشيحًا، ونسبَ المشي تجريدًا.
          وفي «القاموس»: المنكبُ مجتمعُ رأس الكتفِ والعضد.
          وقال الرَّاغب: المنكب: ما بين العضد والكتفِ، ومنه استعير للأرض المنكب في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} كما استعير لها الظَّهر في قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45].
          ({تَدَّعُونَ}) بالتشديد (وَتَدْعُونَ) بسكون الدال مخففًا (وَاحِدٌ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وسقط لفظ: <واحد> في رواية غيره (مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ) بالتشديد (وَتَذْكُرُونَ) بالتَّخفيف، أشار به إلى قوله تعالى: {وَقِيْلَ هَذَا الَّذِيْ كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27]، وأشار إلى أنَّ معناهما واحدٌ.
          قال الحافظ العسقلاني وتبعه العيني: وأشار إلى أنَّه لم يُقرأ بالتخفيف، فلأجل ذلك قال: «مثل تَذَّكَّرون وتَذْكُرون»، يعني: أنَّه كما لم يقرأ تَذْكُرون: بتخفيف الذال ساكنة وضم الكاف مخففة كذلك لم يُقرأ تَدْعون بتخفيف الدال ساكنة.
          ولعلَّ المراد أنَّه لم يقرأ في السَّبعة وإلَّا فيعقوب قرأها: ((تدْعون)) بتخفيف الدال ساكنة، قيل: التشديد من الدَّعوى؛ أي: تدَّعون لا جنة ولا نار.
          وقيل: من الدُّعاء؛ أي: تطلبونَه وتستعجلونَه، وعلى التخفيف، قيل: إن الكفَّار كانوا يدعون على الرَّسول صلعم وأصحابه ♥ بالهلاك.
          وقال أبو عبيدة في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تدعون به وتكذبون.
          ({وَيَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك:19] وفسَّره بقوله: «يضربنَ بأجنحتهنَّ»؛ أي: ما يمسك الطُّيور في حال القبضِ والبسط أن يسقطنَ إلَّا الرَّحمن، وقد وصله الفريابيُّ، وقد تقدَّم أيضًا في «بدء الخلق» [خ¦59/14-5090]، ولم يثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ.
          ووقع في رواية النَّسفي قبل قوله: {وَيَقْبِضْنَ}...إلى آخره: <{غَوْرًا} [الملك:30] غائرًا لا تناله الدِّلاء، كلُّ شيءٍ غُرْت فيه فهي مَغَارٌ، ماءٌ غورٌ، وبئرٌ غورٌ، ومياهٌ غورٌ بمنزلة الزَّوْر، وهؤلاء زورٌ، وهؤلاء ضيفٌ، ومعناه: أضيافٌ وزُوَّار؛ لأنَّه مصدر مثلُ: قوم عدل، وقوم رضًا ومَقْنَع>.
          ووقع أكثرُه للباقين في كتاب «الأدب» [خ¦78/85-9136]، وهو كلام الفرَّاء من قوله: «ماء غور... إلى: ومقنع» لكن قال: بدل بئر غور: ماءان غور، / وزاد: ولا يجمعون ولا يثنون. والباقي سواءٌ، وأمَّا أوَّل الكلام فهو من...(2) .
          وأخرج الفاكهيُّ عن ابن أبي عمر عن سفيان عن ابن الكلبي قال: نزلت هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك:30] في بئر زمزم، وبئر ميمون بن الحضرمي وكانت جاهليَّة.
          قال الفاكهيُّ: وكانت آبار مكَّة تغورُ سراعًا.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَافَّاتٍ} بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمُ صَافَّاتٍ} [الملك:19] «بَسْطُ أجنحتهنَّ»؛ يعني: في الطَّيران. وصله الفريابيُّ، وقد تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦59/14-5090]. ولم يثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ.
          ({وَنُفُورٍ} الْكُفُورُ) أشار به إلى قوله تعالى: {بَلْ لَجُّو فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:21] وفسَّره: بالكفور، وصله عبد بن حميد والطَّبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} قال: كفور. وقال الثَّعلبي: معنى {عُتُوٍّ} تمادٍ في الضَّلال، ومعنى {نُفُورٍ} تباعد من الحقِّ، وأصله من النَّفرة.
          وذكر القاضي عياض: أنَّه وقع عند الأصيليِّ: <وتَفور كفورِ القدر>؛ أي: بفتح المثناة تفسير قوله: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيْقًا وَهِيَ تَفُورُ} قال: وهو أوجه من الأوَّل.
          وقال في موضعٍ آخر: هذا أولى وما عداهُ تصحيفٌ، فإنَّ تفسير نفور _بالنون_ بكفور بعيد، انتهى.
          كأنَّه استبعدَهُ من جهة أنَّه معنى فلا يُفسَّر بالذَّات، لكن لا مانعَ من ذلك على إرادة المعنى، وحاصله: أنَّ الَّذي يَلِجُّ في عتوِّه ونفورهِ هو الكفور، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: في نسخة صحيحة: لشدة اشتعالها بهم.
[2] بياض في الأصل.