نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب العتق

          ░░49▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابٌ فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ) هكذا رواية المستملي لكنَّه ذكره قبل البسملة، وفي رواية الأكثرين هكذا: <بسم الله الرَّحمن الرحيم، في العتق وفضله>، وزاد ابن شَبُّويه بعد البسملة: <باب>، وفي رواية النَّسفي: <كتاب العتق باب ما جاء في العتق وفضله>.
          والعِتق _بكسر المهملة_: لغةً: القوة، من عتق الطَّائر، إذا قوي على جناحيه، وفي الشَّرع: عبارة عن قوَّة شرعيَّة في المملوك، وهي إزالةُ الملك عنه.
          والرِّق: ضعفٌ شرعي يثبت في المحل فيعجزه عن التصرُّفات الشَّرعية، ويسلبه أهليَّة القضاء والشَّهادة والسلطنة والتزوُّج وغير ذلك.
          والعتاق: اسم للعتق، وقيل: يُقال: أعتق فلان يعتِق _بالكسر_ عِتْقاً وعَتَاقاً وعَتَاقة، وأعتقت العبد أعتقه إعتاقاً، والإعتاق: إثبات العتق عند أبي يوسف ومحمَّد، وإثباتُ الفعل المفضي إلى حصول العتق عند أبي حنيفة. وقيل: هو مشتقٌ من عتقَ الفرسُ إذا سبق، وعَتَق الفرخ إذا طار؛ لأنَّ العبد يتخلَّص بالعتق ويذهب حيث شاء.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡) ويروى: <وقول الله تعالى>، وهو بالجرِّ عطفاً على قوله: «في العتق» ({فَكُّ رَقَبَةٍ}) أوَّله قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:11-12] الضمير في {اقْتَحَمَ} للإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] على أن يكون المعنى: أُقسم بهذا البلد الشَّريف، ومن شَرَفِهِ أنَّك حِلٌّ به ممَّا يقترفه أهله من المآثم متحرِّج بريء فهو حقيق بأن أعظِّمه بقسمي به(1) .
          {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} أي: من مرض، وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصَّالحات {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] فينتقم منه {يَقُولُ} أي: في وقت الانتقام وهو يوم القيامة، أو في الدُّنيا حين المفاخرة {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} [البلد:6] أي: كثيراً من تلبَّد الشَّيء إذا اجتمع، والمراد: ما أنفقه سمعةً ومفاخرة، أو معاداة للرَّسول صلعم . /
          {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] حين كان يُنفق ما ينفق رياء النَّاس، وافتخاراً بينهم أو معاداة لرسول الله صلعم ، أو بعد ذلك في الآخرة، فيسأله عنه كيف أنفق؟؛ يعني: أنَّ الله تعالى كان يراه، وكان عليه رقيباً فيُجازيه أو يجده فيحاسبه عليه، ثمَّ ذكر النِّعم ليعتبر، وقرَّر بذلك ما ذكر من المجازاة والمحاسبة أو الرؤية والوجدان، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] يبصر بهما {وَلِسَاناً} يترجم به عن ضمائره {وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] يستر بهما فاهُ، ويستعينُ بهما على النُّطق والأكل والشُّرب والنَّفخ وغيرها {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] طريقي الخير والشَّر، وقيل: الحقُّ والباطل، وقيل: الهدى والضَّلالة، وقيل: السَّعادة والشَّقاوة، والمعاني مُتقاربة، وقيل: الثَّديين، وأصله المكان المرتفع في الأرض، والمعنى: أنَّ من قدر على ذلك قدرَ على المجازاة والمحاسبة. وقيل: المراد منه: الوليد بن المغيرة فإنَّه كان يقول: أهلكتُ مالاً كثيراً في عداوة محمَّد صلعم .
          وقيل: هو أبو الأشد بن كلدة فإنَّه كان قوياً يُبْسَط له الأديم العُكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، ويجذبه عشرة فينقطعُ الأديم ولا تزلُّ قدماه. ويحتمل أن يكون المعنى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] ؛ أي: في تعبٍ ومشقَّة من كبد الرَّجل كبداً، إذا وجعت كبده، ومنه المكابدة، والإنسان لا يزالُ في شدائد مبدؤها ظلمة الرَّحم ومضيقه، ومنتهاها الموتُ وما بعده.
          وهو تسلية للرَّسول صلعم بما كان يُكابًده من قريش، والضَّمير حينئذٍ في قوله: {أَيَحْسَبُ} لبعضهم الذي كان يُكابد صلعم منه أكثر كالوليد، أو يغترَّ بقوَّته كأَبي الأشدِّ، وكذا في قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] ؛ أي: فلم يشكر الإنسان، أو ذلك البعض تلك الأيادي والنِّعم باقتحام العقبة (2)، والاقتحام الدُّخول في أمر شديدٍ. والعقبة: الطَّريق في الجبل استعارها لما فسَّرها به من الفك والإطعام، ثمَّ بالإيمان الذي هو أصل كلِّ طاعة، وأساس كل خير، بل غَمَطَ النِّعم وكفر بالمـُنعم.
          والمعنى: أنَّ الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النَّافع عند الله لا أن يُهلك مالاً لبداً في الرِّياء والفخار والمعاداة، فيكون مثله: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّأَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران:117] الآية / .
          {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:12] ؛ أي: ما اقتحام العقبة. قال سفيان بن عيينة: كلُّ شيءٍ قال فيه {وَمَا أَدْرَاكَ} فإنه أخبر به، وما قال: {وَمَا يُدْرِيكَ} فإنَّه لم يُخبره، وهذا اعتراضٌ معنا: أنَّك لم تدرِ كُنْه صعوبتها وثوابها.
          {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] ؛ أي: اقتحام العقبة هو فكُّ رقبة؛ أي: تخليص رقبة من الرِّق وغيره، وإنَّما ذكر لفظة «الرَّقبة» دون سائر الأعضاء مع أنَّ العتق يتناول الجميع؛ لأنَّ حكم السيِّد عليه كحبلٍ في رقبته، وكالغلِّ المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنَّه أطلقت رقبته من ذلك.
          ({أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ}) والمراد من اليوم هنا مُطلق الزَّمان ليلاً كان أو نهاراً ({ذِي مَسْغَبَةٍ}) أي: مجاعةٍ من سَغِب يَسْغَب سُغُوباً، إذا جاع، وقوله: ({يَتِيماً}) منصوب بالمصدر إذ المصدر يعملُ عمل فعله.
          ({ذَا مَقْرَبَةٍ}) صفة {يَتِيماً}؛ أي: ذا قربة، يُقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيدٌ قرابتي قبيح؛ لأن القرابة مصدر {أَوْ مِسْكِيناً} عطف على «يتيماً» {ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] صفته؛ أي: ذا فقر قد لصق بالتُّراب من الفقر، يقال: تَرِبَ إذا افتقر كأنه التصق بالتُّراب، وأمَّا أترب: فاستغنى؛ أي: صار ذا مال كالتُّراب في الكثرة، كما قيل: أثرى. وقيل: المتربة من التُّربة هنا، وهي شدَّة الحال.
          وعن النَّبي صلعم في قوله: {ذَا مَتْرَبَةٍ} الذي مأواه المزابل. وقرأ ابنُ كثير وأبو عَمرو والكسائي: {فَكَ رقبةً أو أطعمَ} على صيغة الماضي فيهما ونصب «رقبة»، فيكون بدلاً من «اقتحم»؛ أي: فلا فك رقبة ولا أطعم. وقرأ الحسن: «ذا مسغبة» نصبه بـ: {إِطْعَامٌ}؛ أي: أو إطعام في يوم من الأيَّام ذا مسغبة.
          قال في «الكشَّاف»: جعل الأعمال الصَّالحة عقبةً، وعملها: اقتحاماً لها لما في ذلك من معاناة المشقَّة، ومجاهدة النَّفس. وعن الحسن: عقبة الله شديدةٌ، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشَّيطان. وفي الحديث: أنَّ رجلاً قال لرسول الله صلعم : دلَّني على عمل يدخلني الجنَّة؟ فقال: ((تعتق النَّسمة وتفكُّ الرَّقبة))، قال: أوليسا سواء؟ قال: ((لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها، وفكَّها: أن تعينَ في تخليصها من قودٍ أو غرم)) رواه أحمدُ وابن حبَّان والحاكم من حديث البراء بن عازب ☺ في أثناء حديثٍ طويل.
          والعتق والصَّدقة من أفاضلِ / الأعمال، وعن أبي حنيفة: أنَّ العتقَ أفضل من الصَّدقة، وعند صاحبيه: الصَّدقة أفضلُ، والآية أدلُّ على قول أبي حنيفة لتقديم العتق على الصَّدقة. وعن الشَّعبي في رجل عنده فضلُ نفقة أيضعه في ذي قرابةٍ أو يعتق رقبة؟ قال: الرَّقبة أفضلُ؛ لأن النَّبي صلعم قال: ((من فكَّ رقبة، فكَّ الله بكلٍّ عضو منها عضواً منه من النَّار)).
          تنبيه: وإنَّما أتى بـ«لا» في قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] دون «لم» مع المضارع لتعدُّد المراد بالعقبة، فإن كلمة: «لا»، لا تكاد تقع إلا مكرَّرة، إذ المعنى: فلا فكَّ رقبة ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً فافهم.


[1] في هامش الأصل: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1-2] أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وقيده بحلول الرسول فيه إظهاراً لمزيد فضله وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله، وقيل: {حلٌّ} مستحلٌّ تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصَّيد في غيره، أو حلالٌ لك أن تفعلَ فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح {وَوَالِدٍ} عطف على هذا البلد وهو آدم أو إبراهيم ♂ {وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] ذريته أو محمَّد صلعم، والتَّنكير للتَّعظيم، وإيثارها على «من» بمعنى التَّعجب، كما في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}. قاضي.
[2] في هامش الأصل: وقيل: العقبة: جبل في جهنم، وقيل: هي عقبة دون الحشر، وقيل: سبعون دركة في جهنم، وقيل: الصراط، وقيل: نار دون الحشر.